دفاعا عن المؤسسات ضد المتاجر. بين المتجر والمؤسسة: حين تُباع الحاجات وتُبنى القيم
الفرق بين المتجر والمؤسسة هو الفرق بين من يبيع حاجات، ومن يبني إنسانًا. الأول يُشبع لحظة، والثانية تُشبع عمرًا. الأول يربح من الاستهلاك، والثانية تربح من صناعة الوعي.
ولعلّ مستقبل المجتمعات يتوقف على أيّ المنطقين ستمنح له صدارتها.

في عالم يعيش تحت إيقاع السرعة والاستهلاك، تتجاور صورتان متباينتان لطريقة تعامل الإنسان مع ذاته ومع محيطه: صورة المتجر الذي يبيع ما يُشبع الحاجة العاجلة، وصورة المؤسسة التي تعمل على بناء الإنسان من جذوره. وبين الصورتين يظهر الفرق واضحًا بين السلعة والخدمة من جهة، والقيمة والمعنى من جهة أخرى.
المتجر فضاء اقتصادي يتحرك بمنطق السوق: عرضٌ تلحقه دعاية، وطلبٌ تقوده الرغبة. السلعة التي يقدّمها مكتملة وجاهزة، تُشترى لتُستهلك ثم تُستبدل. وهي محكومة بزمن قصير لا يتجاوز لحظة الاستعمال. الخدمة كذلك، مهما علت جودتها، تبقى فعلًا مؤقتًا يقدّم منفعة آنية، ويزول أثره بانتهاء الحاجة إليه. لذلك لا يُقاس نجاح المتجر إلا بالأرقام: حجم المبيعات، عدد الزبناء، حركة رأس المال، وموقعه في سلسلة التنافس. في المقابل، تتحرك المؤسسة بمنطق مختلف تمامًا. فهي ليست مكانًا لبيع منتج، بل فضاءً لصنع إنسانٍ قادرٍ على أن يعيش بوعي ومسؤولية. غايتها ليست الربح، بل الاستثمار في الإنسان ذاته: عقله، وجدانه، ذوقه، حسّه الأخلاقي، ومهاراته التي تمنحه القدرة على أن ينهض بنفسه وبمجتمعه. ولذلك لا تقاس قيمة المؤسسة بما تملكه من موارد مادية، بل بما تتركه من أثر داخل الإنسان: قدرتها على أن تغيّر نظرته للعالم، أن توسّع أفقه، وأن تمنحه أدوات الانسان الراشد.
الفرق البنيوي هنا عميق جدا: المتجر يبيع حاجات، أما المؤسسة فتؤسس معاني. المتجر يخاطب الرغبة، والمؤسسة تخاطب الجوهر. متجر اليوم قد يُغلق غدًا إذا تغيّر السوق، لكن مؤسسة واعية برسالتها قد تغيّر مصير جيل بأكمله.
هكذا تصبح العلاقة بين المتجر والمؤسسة علاقة بين زمنين مختلفين: زمن قصير يتغذّى على الاستهلاك، وزمن طويل يتغذّى على التربية. قصير ينتج الرغبة، وطويل ينتج الإنسان.
إن الدولة التي تمنح الأولوية للمتجر على حساب المؤسسة هي دولة تملأ فراغها بالحاجات المؤقتة بدل أن تبني قاعدة إنسانية صلبة تدوم. فالسلع لا تنشئ أجيالًا، والخدمات مهما تقدّمت لا تعوّض قيمة تُغرس بالتربية والمعرفة. وحدها المؤسسة القيمية، المدرسة، الجامعة، الإعلام المسؤول، الثقافة والفن، هي التي تبني إنسانًا قادرًا على فهم ذاته، وعلى أن يمنح فعله معنى يتجاوز حدود الربح والاستهلاك.
إن الفرق بين المتجر والمؤسسة هو الفرق بين من يسعى إلى البيع، ومن يسعى إلى البناء. الأول يُشبع اللحظة، والثانية تُشبع الزمن الممتد. الأول يربح من الاستهلاك، والثانية تربح من صناعة الوعي. ففي زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتزداد فيه سطوة السوق على تفاصيل الوجود الإنساني، يتلاشى الحد الفاصل بين ما يُستهلك وما يُعاش، بين ما يُباع وما يُبنى. غير أن التمييز بين المتجر بوصفه فضاءً اقتصاديًا، والمؤسسة بوصفها فاعلًا تربويًا وثقافيًا، ليس ترفًا نظريًا، بل معرفة أساسية لفهم طبيعة التحولات التي يعيشها المجتمع المعاصر. فمن خلال هذا التمييز ندرك الفرق الجوهري بين السلعة والخدمة من جهة، والقيمة والمعنى من جهة أخرى، ونفهم كيف يتشكل الإنسان بعلاقته المزدوجة بين ما يشتريه وما يصنع شخصيته. إن المتجر هو التجسيد العملي لمنطق السوق: عرضٌ موجَّه، وطلبٌ يحرّكه التسويق والإعلانات ومقاييس الموضة والرغبات المتغيرة. السلعة في هذا السياق كيان مكتمل، جاهز للاستهلاك، محكوم بدورة قصيرة تبدأ من الشراء وتنتهي بالاستعمال ثم الاستبدال. وحتى الخدمة، مهما بلغت من جودة، تظل فعلًا مؤقتًا لا يتجاوز زمن الحاجة. لذلك تتجه كل آليات المتجر نحو غاية واحدة هي الربح: زيادة المبيعات، توسيع عدد الزبائن، تحسين عمليات الترويج، وإتقان فن استمالة المستهلك.
تتعامل المتاجر مع الإنسان بوصفه مستهلكًا، تُختزل علاقته بالفضاء الاقتصادي إلى عملية شراء قد تدوم دقائق. وتُقاس قوة المتجر بقدرته على التأثير في رغبات المستهلك وحثه على الاستهلاك المتكرر، لأن السوق بطبيعته لا يعترف بما هو دائم، بل بما هو جديد ومثير وذو قدرة على لفت الانتباه. وهكذا يصبح الزمن داخل المتجر زمنًا سريعًا، متقلبًا، لا يترك أثرًا عميقًا في الإنسان لأنه لا يسعى إلى النفاذ إلى قيمه، بل إلى جيبه. وعلى النقيض، تتحرك المؤسسة سواء كانت مدرسة، جامعة، مركزًا ثقافيًا، فضاءً إعلاميًا مسؤولًا، أو حتى تقليدًا فنيًا راقيًا، ضمن منطق مختلف، بل مضاد في جوهره لمنطق السوق. فهي لا تسعى إلى بيع منتج، بل إلى تكوين الإنسان وتنمية ملكاته العقلية والوجدانية والأخلاقية. إنّ مهمة المؤسسة ليست أن توفر للإنسان ما يحتاجه الآن، بل أن تمنحه ما يجعله قادرًا على مواجهة ما سيحتاجه لاحقًا: وعي، قدرة على الحكم، حس مسؤولية، وجدارًا من القيم يحميه من الريح الهوجاء للعالم السريع.
تتطلب المؤسسة زمنًا طويلًا وصبرًا ممتدًا. فهي لا تعمل بمنطق “الفورية” ولا تصل إلى نتائجها عبر لحظة شراء، بل عبر تراكم التجارب والمعارف والعلاقات. ولا تقاس نجاحاتها بالأرقام، بل بالتحولات التي تطرأ على الإنسان: قدرة الطالب على التفكير النقدي، وعي المواطن بقضاياه، انفتاح العقل على الحوار، نمو الذوق الفني، وارتفاع مستوى الإدراك الأخلاقي. لذلك فإن المؤسسة، بخلاف المتجر، تتعامل مع الإنسان بوصفه مشروعًا مستمرًا، وليس مجرد مصدر شراء. إن السلع محدودة بعمر استعمالها وتفقد قيمتها بمجرد ظهور بديل أحدث أو أرخص. فهي تنتمي إلى عالم الأشياء، حيث الملموس يحضر بقوة، وحيث القيمة تقاس بما يقدمه الشيء من منفعة مباشرة. أما القيمة، فهي غير ملموسة، لكنها أعمق حضورًا وأكثر تأثيرًا. القيمة لا تُستهلك، بل تُمارَس. لا تُشترى، بل تُكتَسب. ولا تنتهي، بل تمتد من جيل إلى جيل.
القيم كالمواطنة، المسؤولية، العدالة، الذوق، العقلانية، الاعتدال، احترام الآخر… هي التي تُبنى داخل المؤسسة عبر التعليم والتربية والممارسة. أما المتجر فهو عاجز بطبيعته عن إنتاج قيمة، لأنه ليس معنيًا إلا بخلق رغبة جديدة عند المستهلك، لا بتوجيه رغبته أو تهذيبها أو تسقيفها.
وبين السلعة والقيمة فارق وجودي: السلعة تُشبع الجسد، والقيمة تُشبع الروح. السلعة مؤقتة، والقيمة دائمة. السلعة تُمتلك، والقيمة تمتلك الإنسان.
بين المتجر والمؤسسة بون شاسع على المستوى البنيوي: من حيث الغاية المتجر يهدف إلى الربح في حين تهدف المؤسسة إلى بناء الإنسان. أما من حيث زمن العمل المتجر قصير النفس؛ المؤسسة طويلة النفس. كما أن نظرتهما للإنسان فتظهر هدف كل واحد منهما المتجر يراه مستهلكًا لأنه غايته الربح أما المؤسسة فتراه مواطنًا وكائنًا أخلاقيًا. لذبك فلغة الخطاب فمتباينة تماما فالمتجر يستخدم الإعلانات أما المؤسسة تستخدم التربية والمعرفة. لأن المتجر يعرض سلعة أما المؤسسة تعرض معنى. وبالتالي المتجر يبيع والمؤسسة تُنمي. فيكون معيار النجاح بالنسبة للمتجر هو قياس الأرقام أما المؤسسة فغايتها الأثر.
إن اختزال الفارق بينهما ليس مجرد مقارنة شكلية، بل قراءة لطبيعة الدولة وللمجتمع الذي تريد بناءه. فإذا غلب منطق المتجر على المؤسسة، أصبح الإنسان كائنًا استهلاكيًا، تحكمه رغبات آنية وتتقاذفه موجات السوق. أما إذا غلبت المؤسسة بمنطقها، صرنا أمام دولة تريد بناء مجتمع تحركه القيم وله قدرة على التفكير والتدبير.
الخطر الأكبر الذي يهدد المجتمعات الحديثة هو تحوّل المؤسسات إلى متاجر. حين تصبح المدرسة مركزًا لتحصيل الشهادات بدلًا من بناء المعرفة، وحين يتحول الإعلام إلى سلعة للترفيه بدلًا من مسؤولية في تشكيل الوعي، وحين ينقلب المثقف إلى مروّج أفكار آنية بدلًا من حامل رؤية… حينها يصبح المجتمع يعيش بعقل السوق فقط، ويفقد القدرة على إنتاج مواطنين يمتلكون البصيرة.
فالمؤسسة حين تخلط رسالتها بآليات الربح، تفقد جوهر وجودها، وتتحول إلى متجر يبيع «خدمات تربوية» أو «مضامين إعلامية» بدلًا من أن يبني إنسانًا. وهذا التحول أخطر من عجز المتاجر نفسها، لأنه يعني أن البناة تركوا مواقع البناء والتحقوا بسوق البيع.
في جوهر الأمر، المتجر يعالج الحاجات، والمؤسسة تعالج الإنسان. المتجر يمنحك ما تستعمله، والمؤسسة تمنحك ما تصير به. الأول يلاحق رغباتك، والثانية تهذبها. الأول يملأ وقتك، والثانية تملأ وعيك. ومن ثم فإنّ العلاقة بينهما ليست علاقة تناقض بل علاقة توازن: نحتاج إلى المتجر من أجل الحياة، ونحتاج إلى المؤسسة من أجل أن تكون للحياة قيمة.
إن المجتمع الذي يُعلي من شأن المتجر دون أن يقيم وزنًا للمؤسسة هو مجتمع يعيش في دائرة الاستهلاك، لا في فضاء البناء. وربما يملك ما يشاء من السلع، لكنه سيفتقد شيئًا أعظم: إنسانًا قادرًا على أن يختار، وأن يحكم، وأن يمنح للأشياء معناها الصحيح.
فالفرق بين المتجر والمؤسسة هو الفرق بين من يبيع حاجات، ومن يبني إنسانًا. الأول يُشبع لحظة، والثانية تُشبع عمرًا. الأول يربح من الاستهلاك، والثانية تربح من صناعة الوعي. ولعلّ مستقبل المجتمعات يتوقف على أيّ المنطقين ستمنح له صدارتها.



