إكرام عبدي تكتب: نوستالجيا الترسّل - Marayana
×
×

إكرام عبدي تكتب: نوستالجيا الترسّل

عبثا أعوض نوستالجيا الترسل، بقراءة مكرورة لرسائل مبدعين وفلاسفة إلى حبيباتهم أو أصدقائهم أو عائلتهم، كان يبدو من الغضاضة أن تظل مطوية طعمة للنسيان…
رسائل أشبه بمكاشفات ذاتية لنوازع النفس وهجسات القلب ولمعات الفكر، أمارس عبرها عادة التلصص على مزاجهم وطقسهم وحميميتهم ومحادثاتهم وحبهم وتفاهتهم أحيانا وأمور طارئة ليست ذات بال…

إكرام عبدي Ikram El Abdi
إكرام عبدي 

بي شوق إلى كتابة رسالة لشخص أفتقده؛ أدثرها بظرف بريدي ناصع البياض، أوشيها بقلم حبر أسود، أطويها بعناية، وأرمقها بنظرة أخيرة أشبه بنظرة فراق الأم لابنها في طريقه إلى الحرب، أرميها في صندوق البريد متوهجة كما طويتها، لتنعم بالهدوء والسلام بعيدا عن ضجيج العالم وجلبته، متخيّلة تقاسيم وجهه/ها حين استلامها.

طقس روحاني وتكثيف إنساني تنخطف فيه ذواتنا نحو الآخر المشتهى، ومشاعر من الصبر وعدم الاستسهال وترقب الجواب صعب استيعابها من الجيل الرقمي، حين غدونا اليوم أمام سطوة ماحقة للإيميل أو الواتساب أو الماسنجر، لننحاز للخفة كرد فعل على ثقل الحياة وتحجر العالم كما يرى إيتالو كالفينو، وماذا عن صندوقي البريدي الذي ظل فارغاً لسنين طويلة، هل عليّ التخلي عنه نهائياً بعد يأسي من إمكانية استعماله؟

عبثا أعوض نوستالجيا الترسل هذه، بقراءة مكرورة لرسائل مبدعين وفلاسفة إلى حبيباتهم أو أصدقائهم أو عائلتهم، كان يبدو من الغضاضة أن تظل مطوية طعمة للنسيان، رسائل أشبه بمكاشفات ذاتية لنوازع النفس وهجسات القلب ولمعات الفكر، أمارس عبرها عادة التلصص على مزاجهم وطقسهم وحميميتهم ومحادثاتهم وحبهم وتفاهتهم أحيانا وأمور طارئة ليست ذات بال، كرسائل بول سان كلير دافيل لفولتير، وأرفع هالتهم وأقنعتهم من شرفة أخرى غير أعمالهم الإبداعية أو الفكرية، عملية أشبه بفعل تفكيكي للكاتب سعيا إلى فهمه والتقرب منه أكثر، واكتساب رؤية كلية له بدلا من النظرة الجزئية القاصرة، مؤمنة  أنه ليس  ثمّة انفصال بيني أنا الكاتب وبين أنا الإنسان، وأن الحياة تنزع  أكثر وأكثر لأن تصير عملا فنيا أيضا.

انبهرت بسارتر العقلاني الوجودي العاشق في رسائله إلى سيمون دي بوفوار، وكذا علاقة الحب المحمومة والمتحررة من الانتظارات المادية والعاطفية ومن طابع الرفقة الخطرة في كسر المحرمات الاجتماعية في رسائل أناييس نن وهنري ميلر، وتألمت بالذات المثخنة بالطعنات والجراح في رسائل الشاعرة سيلفيا بلاث لعائلتها، والمراهقة الأبدية في رسائل بول إيلوار إلى زوجته غالا… رسائل أشبه بمرآة لأرواحهم يتعرى فيها الكاتب وينخرط في تفاصيل مهما صغرت، تحجب العالم.

الأمر يختلف في أدبنا العربي الحديث، حيث تظل الرسائل محافظة النزعة، عفيفة الخلق عذرية الحب، مغلفة بالكثير من الحرص والتكتم والتحفظ والشوق المحموم المودع في ثلاجة البوح، عبر ستار صفيق مضروب بين الكاتب وعالمه الواقعي، كرسائل مي زيادة وجبران خليل جبران ورسائلها أيضا مع العقاد ومصطفى صادق الرافعي…

وأحيانا تنشر الرسائل من جانب الرجل فقط؛ ويتم تحجيب البوح الأنثوي مراعاة للقيم المجتمعية المحافظة، كرسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان، ورسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان، وكذا رسائل السجن للكاتب المغربي عبد القادر الشاوي إلى الكاتبة المغربية الرائدة خناثة بنونة من 1976 /1985، رسائل للكاتب المغربي لم تفتح قلبها على مصراعيه، بل رسمت ملامح أركيولوجية للذاكرة الثقافية والاجتماعية والسياسية المغربية وتأملات رصينة فيها وقراءات وكتابات متنوعة للكاتب، وتحولات مشاعره في تضاريسها من  شوق وحب ويأس وأمنيات وحرمان وأسـى، حيث كتابة الرسائل تنعش وجود الكاتب القانط وتحرره مؤقتا من سجنه السياسي، مكتوبة بالكثير من الإيجاز والبساطة والعمق، وكأننا أمام رسائل تدخل  في باب ما أنجزه الكاتب  قبل من سير ذاتية وروائية في مساره الإبداعي والفكري المتجدد.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *