عبد الإله أبعصيص: دهشة اكتشاف الذات… أو نهاية الانتماء العاطفي للقبائل
دهشة اكتشاف الذات ليست سوى بداية لسؤالٍ لا ينتهي، ونهاية الانتماء العاطفي للقبائل ليست خيانة، بل محاولة لفهم ما إذا كان كل ما منحناه للقبيلة نابعًا من وعي، أم من خوفٍ قديم من المجهول.
حتما، حينما تنتهي الانتماءات العاطفية، ستبدأ الانتماءات الحرّة. وحين تسقط القبائل الرمزية، تبدأ الذات في التكوّن من جديد.

هل أستقل أم أستقيل؟
هل هذا هو السؤال؟ أو هل يحق لنا أن ندعي أننا نشترك مع الفلاسفة إصرارهم على الانتصار للعقل في مواجهة ما تفعله بنا الحواس. إن ما نكتبه ليس إلا مجرد تمرين على استكشاف المساحات التي تتيحها جرأتنا على التساؤل عن كل الأشياء. إنها دهشة اكتشاف الذات بعيدا عن كل زيف ممكن. وبعيدا عن كل يقين أيضا.
هل نستقل أم نستقيل؟
ما بين القرارين خيط رفيع ومسافة طويلة، صحراء ممتدة ومحيطات بلا ضفاف. حرب ضروس بين القلب والعقل. بين العواطف والمشاعر والاحاسيس من جهة، والعقل والأفكار والتصورات من جهة أخرى. ما بينهما كثير من الأسئلة وقليل من الأجوبة. ليس يهم صواب الأجوبة المهم ألا تكون الأسئلة خاطئة. مساحة شاسعة من اللايقين ومثلها تماما من اليقين المزيف أو المتوهم. خوف وطمأنينة. لا أعلم لماذا في هذه اللحظة بالضبط تتهاطل عليّ غيوم “ألبير كامو”. لست عبثيا كما قد يتبادر إلى الأذهان، لكن الأسئلة التي جعلت منه عبثيا تجد كثيرا من الجدوى والمعنى بالرغم من أنه تاه بسبب اللامعنى واللاجدوى من الحياة في ظل غياب الأجوبة عن سؤاله الكبير: ما الجدوى من كل شيء؟ ما دام العالم لا يقدم أجوبة وحتى وإن قدمها فإنها تكون سببا إضافيا لعبثيته. كما لو أن الحياة كلها عبارة عن فكرة نموت من أجلها دون أن نفهمها، أو لسبب لم يكن يعني أحدا، كما لو أننا في حرب لا نعرف لماذا اشتعلت ومتى ستنتهي بتعبير، غابرييل غارسيا ماركيز في روايته الشهيرة مائة عام من العزلة، واصفا حالة الكولونيل “أورليانو بوينديا” الذي انتهى به المطاف غارقًا في الوحدة واللاجدوى بعد أن خاض حروبا وحروبا من أجل الحرية. ففي النهاية يصبح السؤال عن الجدوى من هذا الذي نسميه “نضالا” دون جدوى حين ينقلب إلى مجرد تكرار أعمى، منفصل عن الواقع، وفاقدا لأي أثر على الذات والمحيط معا؟
هل صارت فكرة المثقف العضوي كما صاغها غرامشي الذي يرى أن المثقف لا ينبغي أن يكون كائنًا معزولًا، بل منخرطًا في قضايا الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، فاعلًا في البناء الثقافي والسياسي والاجتماعي، ومساهمًا في بناء مرجعية ثقافية مضادة للهيمنة السائدة. هذا المثقف يحمل مشروعًا تغييريا مرتبطًا بالمجتمع لا بالنخبة الحاكمة. هل صارت هذه الفكرة التي عمرت طويلا مجرد يوتوبيا؟ ففي ظل سيادة ما يمكن تسميته بالوعي الزائف، ألا يحق لنا أن نضع أنفسنا وما نقوم به أوما قمنا به أو حتى ما سنقوم به محط تساؤل؟ نعم لقد صارت طوباوية بالمعنى التقليدي، لكنها ليست ميتة. لا تزال تعيش في صور أخرى، أكثر تواضعًا، وفي مواقع المقاومة الصغرى، في الأحياء، في الجمعيات، في النضالات الميدانية، في الكتابات البديلة. لكنها لم تعد قادرة على المقاومة.
فالعالم يعيش ما يمكن أن نتجرأ على تسميته بعالم ما بعد التفاهة. تجاوز الغرب الحداثة إلى ما بعدها، ويجتاح العالم اليوم خطاب ما بعد الانسان فلماذا سنتردد في وصف حالة التردي الشامل بزمن ما بعد التفاهة.
هل نستقل أم نستقيل؟
في غياب الحس النقدي الناتج عن تراكم معرفي، أو خلاصة لاطلاع واسع ومتزن لما أنتجه الفكر الانساني، وفي غياب استقلالية حقيقية من أغلال اليقين الأيديولوجي والديني، سنكون حتما ضحايا هذا الذي يمكن تسميته بالوعي الزائف باليقين. بل قد نكون، إذا ما كانت لنا القدرة على الكتابة والإنتاج، أي مثقفين بالمعنى البسيط للكلمة، منتجين لوعي زائف ويقين مزيف. ففي زمن تتسارع فيه وتيرة الإنتاج المعرفي وتزداد فيه الضغوط الأيديولوجية والدينية، ضغوط الانتماء للقبائل الحزينة كما سماها حسن طارق، في مؤلفه “ما الذي تركته المشاعر للسياسة”، تبرز ظاهرة مقلقة يمكن تسميتها بــ”الوعي الزائف باليقين”. التي يمكن رصد بعض تجلياتها فيما أسماه مؤلف نظام التفاهة بالسطحية. سطحية في الفكر، سطحية في النضال، سطحية في الثقافة والفن، سطحية في كل شيء؟
إنها ظاهرة تتمثل في ذلك الشعور الخادع بامتلاك الحقيقة، دون أن يكون ذلك مؤسسًا على معرفة نقدية عقلانية أو تجربة شخصية أو جماعية حقيقية. إن الوعي الزائف باليقين أو الاعتقاد بصوابية الفكر السطحي في كل المجالات، هو نمط فكري ذهني، نجد كثيرا من تمظهراته في السلوك الاجتماعي والسياسي والثقافي أيضا، يجعل من الفرد مطمئنًا إلى أفكار أو معتقدات يعتبرها يقينية، رغم أنها لم تخضع لمساءلة نقدية. وهو وعي لا يكتفي بالتلقي السلبي، بل يتحول في كثير من الأحيان إلى مصدر نشِط لإنتاج خطاب يدّعي امتلاك الحقيقة، ويقاوم الاختلاف والتعدد.
غير خاف أن الحس النقدي يُعد ركيزة أساسية في تكوين العقل الحر، لدى المثقف المفكر والمناضل السياسي والفنان… فهو لا يقتصر فقط على الشك، وإنما هو ممارسة فكرية سياسية ثقافية اجتماعية، تستند على مجموعة من الخطوات المنهجية الأساسية كانسجام الأفكار واعتماد منهج منطقي سليم، فحص الأدلة، تحليل الخطاب، تمحيص المقولات… غير أن هذا الحس يضعف أو يغيب في السياقات التي تسود فيها السلطوية الفكرية ويستند النظام التربوي والتعليمي فيها إلى التعليم التلقيني الذي يقدس المرجعيات دون مساءلتها ويعادي التفكير الحر البناء. مما يؤدي إلى نشوء الفراغ المعرفي الذي يجد ضالته في اليقينيات الجاهزة.
لكن مادامت الأيديولوجيا والدين، (الأيديولوجيا كحقيقة والدين كما يتم تقديمه منفصلا عن العلم والعقل) منبعين لليقين المغلق، فقد تحولت الأيديولوجيا بالتالي إلى رؤية شمولية للعالم، وتقدم للفرد إجابات نهائية تغنيه عن التفكير. وكذلك الشأن بالنسبة للدين فقد اختزل في بعده السلطوي والوصائي، لا في بعده الروحي المفتوح على التأمل والتساؤل. في الحالتين، ألا يحق لنا القول بأن الإيمان تحول إلى يقين مغلق، والفكر إلى تكرار للموروث دون فحص.
إن المفارقة التي تستدعي الانتباه، هي حين يُنتَج الوعي الزائف من داخل النخبة، هنا تكمن المفارقة والخطورة معا، فبعض منتجي الخطاب الفكري والسياسي والثقافي يساهمون، بوعي أو بدونه، في ترسيخ هذا الوعي الزائف. فبعض الكتاب والمؤثرين حتى لا أقول “المفكرين” يوظفون اللغة العلمية والفلسفية لخدمة مقولات مسبقة، أو لتبرير مواقف أيديولوجية مقنعة بالحداثة أو المرجعية الدينية. وهكذا يتم إنتاج يقين جديد لا يختلف في بنيته عن اليقين التقليدي، وإن غلّف نفسه بمفاهيم عصرية.
لقد ساهم الإعلام الرقمي السائل في تعميم الوعي الزائف وساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تسريع تداول هذا النوع من الوعي، حيث أضحى كل فرد قادرًا على نشر يقينه الخاص كأنه حقيقة مطلقة، وهذا ما أدى إلى تآكل الحدود بين المعرفة والرأي، وبين التخصص والدعوى، وتضخم ثقة الأفراد بأنفسهم دون رصيد معرفي كاف. ويبقى الوعي النقدي التحرري هو السبيل لتجاوز هذا المأزق المعرفي، فمن خلاله يمكن إعادة الاعتبار للشك المنهجي، والانفتاح على التعدد، وتغذية الحس النقدي عبر الاطلاع المتوازن على ما أنتجته الإنسانية من أفكار وتجارب. فلا خلاص من الوهم المزيف باليقين الديني والايديولوجي إلا بالمساءلة، فلا حرية فكرية دون شجاعة وجرأة التساؤل.
إن الوعي الزائف باليقين ليس مجرد ظاهرة فكرية، بل هو معضلة اجتماعية وثقافية وأخلاقية. وهو لا يُعالج بمجرد استبدال يقين بيقين آخر، بل بخلق فضاءات حيوية للفكر النقدي والتعدد المعرفي. وحدها هذه الفضاءات كفيلة بتحرير الإنسان من أوهام وعيه اليقيني المزيف، ووضعه على دروب أقرب للحقيقة باعتبارها أفقًا مفتوحًا، لا محطات نهائية.
لكن ما علاقة كل ما سبق بدهشة اكتشاف الذات؟ أو ما دلالة ما أسميته آنفا بـ “نهاية الانتماء العاطفي للقبائل”. إن الدهشة المقصودة هنا هي اللحظة التي تجرأت فيها على طرح سؤال بسيط:
أين أنا، أين كنت وإلى أين تسير بي الخطى؟
وهو السؤال الذي يختزل كل التجربة الانسانية والسياسية والوجودية، والذي من خلاله فتح باب التساؤلات والتأملات اللامحدودة. أما نهاية الانتماء، فإنها لحظة جرأة على قول كفى للذات من السير في الخضم فقط لأنه خضم. لقد كانت محاولة لبناء وعي جديد بعيدا عن قصور الرمال التي بنتها القبائل القديمة، وربما هو انبعاث من رمادها. فلا هي فرح سطحي، ولا هي صدمة، هي لحظة اكتشاف التوازن الحقيقي بعيدا عن أعمدة الجماعة والقبيلة.
لقد كان الانتماء العاطفي لهذه القبائل يُشعر بالدفء، بالحماية، بالانغماس داخل “معنى جماعي”، لكنه في الوقت ذاته كان قمعا للاختلاف بمبررات شتى لعل أبرزها، ذاك الإكراه الناتج عن الاحترام، وإعادة تشكيل الفرد وفق قوالب جاهزة.
إن نهاية الانتماء العاطفي هي لحظة انفصال عن المسلمات، وقد تكون، في أسوء الحالات، تعبيرا عن شرخ في البناء الهوياتي القديم. هي لحظة تطفو فيها إلى السطح تساؤلات من قبيل من أنا خارج الجماعة التي شكّلتني؟ وهل كنت أتكلم بلساني أم بلسان غيري وأحسبه صوتي؟ ما معنى أن أكون حرًا في عالم مشبع بالرموز والانتماءات الجاهزة؟ هل أستقل أم أستقيل؟
إنها لحظة ولادة فكرية جديدة ولحظة موت البراءة. لحظة تُستبدل فيها الطمأنينة الزائفة بالحيرة الخصبة. وتُستبدل فيها “نحن” الحامية بــ”أنا” العارية.
هل هي لحظة تحرر أم تيه جديد؟
فحين يخرج الفرد من هذه القبائل، قد يشعر بالتحرر، وعليه أن يشعر بالتحرر وإلا فإنه سيتذوق مرارة الوحدة. فنهاية هذا الانتماء ليست دائما نورا، إلا لمن هو قادر على تحمل مرارتها لأنها قد تكون غربة مزدوجة. إنها تحتاج قوة حتى لا تفتقد الدفء الذي توفره القبيلة، وحتى تكون قادرا على صنع ما يجعلك مقبولا خارجها. إن الخروج من القبيلة لا يعني الخروج من المعنى، بل هو بحث عن معنى أعمق، لا يُفرض، بل يُنتج. لا يُستعار، بل يُكتشف.
إن دهشة اكتشاف الذات ليست سوى بداية لسؤالٍ لا ينتهي، ونهاية الانتماء العاطفي للقبائل ليست خيانة، بل محاولة لفهم ما إذا كان كل ما منحناه للقبيلة نابعًا من وعي، أم من خوفٍ قديم من المجهول.
فحتما حينما تنتهي الانتماءات العاطفية، ستبدأ الانتماءات الحرّة. وحين تسقط القبائل الرمزية، تبدأ الذات في التكوّن من جديد.