عبد الإله أبعصيص: لماذا لا نفكر في صياغة جديدة لمفهوم الديمقراطية - Marayana
×
×

عبد الإله أبعصيص: لماذا لا نفكر في صياغة جديدة لمفهوم الديمقراطية

ما يجب الانشغال به والبحث عن سبل فهمه لتجاوزه يبقى الجواب عن التساؤل التالي. كيف يمكننا صياغة مضمون إيجابي عن فكرة الديمقراطية حتى تتجاوز الانحباس الذي وضعت فيه باختزالها إلى مجرد مجموعة من الضمانات ضد تغول السلطة. أي سلطة تمثل الدولة؟.

baassis عبد الإله أبعصيص
عبد الإله أبعصيص

بصيغة قد تبدو قطعية، ربما بسبب الوضوح الفكري، وبلغة تبدو واثقة في حسم خيارات خاصة في الفكر والسياسة، وربما نتيجة خلاصات مسار طويل من تتبع ما يجري ويحدث    بعيدا عن سلطة الانتماء العاطفي. يمكن القول مع “ألان توران” إن الديمقراطية أصبحت مجرد كناية عن مجموعة من الضمانات التي تحمي المجتمعات من شرور بعض الكائنات، بعدما كانت هي الضامن من كل الشرور.

قد يكون الشر عبارة عن زعيم فاشي يريد الاستيلاء على السلطة بأي طريقة، أو حاكم يريد استطالة بقاءه فيها ضدا على إرادة الجميع. لقد أصبح الديمقراطيون، أو دعاة الديموقراطية، لاديمقراطيين من حيث لا يدرون وهم يتراجعون عن الدفاع عنها كما هي أو كما اقترحها الآباء الاولون. لقد أصبح الجميع يدافع عن ديمقراطية معينة. على المقاس. يقبل بالحد الأدنى منها، وبالخصوص، حصرها فقط في الدفاع عن مبدأ الحد من السلطة.

فكرة “الحد من سلطة الدولة” أو ما سماه البعض “الحد الأدنى من الدولة” أو “دولة أقل” يمكن أن تصبح سلطة في حد ذاتها، خصوصا بالنسبة للقاعدة الخلفية (الإعلامية والاقتصادية) لبعض السياسيين. قد يبدو الأمر تبسيطيا ولكن الواقع يظهر أن كثيرا من الإعلاميين ورجال الاقتصاد ليسوا إلا صيغة معدلة جينيا للسياسيين. أو بلغة أوضح الاعلاميون والاقتصاديون هم الوجه الآخر للسياسي، وقد يكون العكس صحيحا، لكن المهم في هذا المستوى من التحليل، هو اليقين بأن السياسي والاقتصادي والإعلامي، يمكن أن يشكلوا، في وضعية ما، هيكلا واحدا يدافع كل منهم عن الآخر بما يراه مناسبا.

ففكرة “اللوبي” لا تحمل معنى قدحيا إلا في الخطاب العادي المتداول والعامي البسيط، أما سياسيا فهي تشير إلى معنى جماعة الضغط، وهي مجموعة من الأشخاص والهيئات وأحيانا مؤسسات تجمعهم المصالح، يعملون على التأثير على أصحاب القرار من أجل تحقيق هذه المصالح.

الدولة بدون سلطة لا دولة، والدولة بتسلط أيضا لا دولة. لذلك وجب التمييز بين السلطة والتسلط، بين السلطة التي تحتكرها الدولة للقيام بواجبها، وبين التسلط الذي هو استعمال السلطة بإفراط، الذي سيؤدي طبعا الى الاستبداد. الدولة صاحبة سلطة وكل حد من سلطتها هو نهايتها، بحيث يبدأ الامر مع تفكك المجتمع السياسي، ويصبح الجميع كما أنه في سوق، بائع، مستشهر، ومشتر. رجل اقتصاد صاحب سلعة وإعلامي مستشهر ومواطن مشتري مستهلك…بدون مؤسسات وسيطة ضامنة لاستقرار حقيقي بين مكونات السوق (الذي هو في الأصل دولة بدون سلطة).

غياب الوساطة التي يضمنها المجتمع السياسي تؤدي بالضرورة إلى مواجهة حتمية بين مكونات السوق، وحتى وإن تأخرت المواجهة فإنها حتمية. فالتاجر جشع والمستشهر معه في نفس المركبة يقتات ويعتاش من عملية البيع والشراء، والمواطن المشتري المستهلك في حاجة لموارد جديدة، وغياب سلطة الدولة بسبب غياب المجتمع السياسي، سيفتح المجال لطغيان منطق التجار: الاحتكار والربح أولا. مما سيفتح الباب أيضا للفوضى.

إن السوق عبارة عن قِدْرٍ بإمكانه إذابة الجميع. العلم، الأخلاق، القيم، التربية،، الثقافة الدين، السياسة…في السوق لا مكان لكل ذلك، الربح هو كل ذلك. التعدد لا يصلح إلا للسلع المعروضة. الدين واحد والقيم واحدة. الربح هو قيمة القيم، الربح هو دين الديانات. الرغبات والاحتياجات لا قيمة لها إلا بما يخدم مصلحة صاحب المال وسلطته.

ما علاقة كل هذا بالفكرة الرئيسية التي يتضمنها سؤال العنوان؟ ما علاقة فكرة الديمقراطية بالسوق؟ العلاقة واضحة، فكرة الديمقراطية مرتبطة بالدرجة الأولى بمبدأ الاختيار، ومتى سقطت حرية الاختيار، انهار بنيان الدمقراطية، ومع سيادة منطق السوق انهارت فكرة الديمقراطية بما هي حرية اختيار.

واقع اليوم هنا وهناك، يقول: لقد انتهت كأسطورة قديمة.

إن ما يجب الانشغال به والبحث عن سبل فهمه لتجاوزه يبقى الجواب عن التساؤل التالي. كيف يمكننا صياغة مضمون إيجابي عن فكرة الديمقراطية حتى تتجاوز الانحباس الذي وضعت فيه باختزالها إلى مجرد مجموعة من الضمانات ضد تغول السلطة. أي سلطة تمثل الدولة؟.

إن تباعد السوق والتقنية عن عالم الهويات الثقافية، يفتح أبواب التشرذم على مصراعيها، ويعطي الفرصة لكل ما يمكن أن يكون وقودا للصراع بين أقليات متحكمة وأكثريات متعددة محكومة أو متحكم فيها. كيف السبيل إلى إعادة تركيب هذا العالم كما يقول “ألان توران”، هذا العالم الذي يتطاير شظايا، سواء من الناحية المجتمعية والسياسية أو من الناحية الجغرافية والاقتصادية.

“القوة المجتمعية الفاعلة”، هذا ما يقترحه” توران”. إن ما أسماه بالقوة المجتمعية الفاعلة، هي قوة مسلحة بالوسائل التي تتيحها التقنيات الحديثة، وصهرها مع كل ما تشكله ذاكرة المجتمعات. فبدون هذه الخطاطة، تصعب إعادة التركيب، وسيظل التشتت والتشرذم سيد الموقف. إن إعادة التركيب المذكورة ينبغي أن تتم، قبل كل شيء، على صعيد القوة المجتمعية الفاعلة. فردا كانت أو قوة أو جماعة. كما ينبغي أن يتم على الصعيد نفسه، دمج الفعل الذي لا مفر منه في عالم قائم على التقنيات والتبادلات، مع الذاكرة أو المخيلة الخلاقة التي لا وجود بدونها لفاعلين يصنعون التاريخ، بل لمجرد عملاء يعيدون إنتاج نظام منغلق على ذاته.

لقد تفتت الساحة السياسية وتدهورت فكرة الديمقراطية في حضرة السوق، وصار الاقتصاد “الإله الجديد”. إنه إله غير ديمقراطي ككل الآلهة. يفعل ما يريد. لا يقبل بالاختلاف والتعدد. تعدد الثقافات والهويات. لقد تقلصت الديمقراطية تبعا لذلك حتى صارت هي بنفسها سوقا. لكن التجارة فيها محدودة، والسلع المعروضة لا تجد من يدافع عنها أو يشهرها. إن السياسة، إذا لم تكن مجالا لاستثمار الثقافة والفكر، وميدانا لصراع الأفكار والمرجعيات والمصالح الاقتصادية المتعددة ككل غير مجزئ، ليست سياسة. إنها بشكل واضح تجارة باسم السياسة.

إن نظاما ديمقراطيا معناه، حسب البعض، علمانية واقتصاد سوق، علمانية كتجلٍّ ثقافي، واقتصاد السوق كخيار اقتصادي. هما فعلا عنصران مهمان ومحددان أساسيان، لكن من السذاجة الفكرية اعتبارهما المحددان الوحيدان لفكرة النظام الديمقراطي، إذ بغياب عناصر أخرى مهيكلة لفكرة الديمقراطية، قد تجعل من صلابة هذه الأطروحة محل ريبة وشك ومدعاة تساؤل، إذ لا وجود للديمقراطية بدون حرية اختيار الحاكمين من قبل المحكومين، ولا معنى لها أيضا بدون تعددية سياسية حقيقية. كل ذلك لا يعني أن الحديث عن الديمقراطية ممكن بوجود خيارين لا ثالث لهما. كأن نوفر الشروط السابقة ونحدد الخيار بين سيء وأسوأ. كأن نحصر الخيار بين أجهزة دولة متسلطة وجيش مثلا؟ أو بين تاجر رجل اقتصاد وتاجر آخر رجل دين؟ أو بين ثنائيات أخرى.

كثيرا ما وجدت المجتمعات نفسها في مواجهة وضعيات مماثلة، فكانت الحاجة إلى سلط أخرى ونظام قانوني فوق كل هذه الخيارات، بإدارة عامة مسؤولة أو مكلفة بإعادة توزيع الناتج الوطني، وبضمان حماية حقوق الأقليات التي لم تجد طريقها لانتزاع بعض من حقوقها أو لم تجد صوتا ليوصل صوتها.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *