عبد الإله ابعيصيص: السوقية في الخطابات السياسية في المغرب: معلمون ومعلمون - Marayana
×
×

عبد الإله ابعيصيص: السوقية في الخطابات السياسية في المغرب: معلمون ومعلمون

لم نسمع يوما بنسعيد أيت يدر أو محمد بوستة أو علي يعته أو عبد الرحيم بوعبيد يصفون مختلفا معهم في تقدير موقف، مهما كان، بالحمار أو الميكروب أو المركوع أو المدوخ، ولم يقل أحد منهم أنه سيعيد تربية المختلفين أو “سير سلم على لي مصيفطك” وهلم مصطلحات تتقاطر من مجاري الصرف غير الصحي.
ليبقى السؤال: لماذا نصر على الانتباه الى هذا الذي نسميه تفاهة؟ ألسنا نحن من أعطينا الفرصة لكل ” تافه” ليحتل مواقع الصدارة؟

“لا يوجد طريق ملكي إلى الرياضيات”

اقليدس

baassis عبد الإله أبعصيص
عبد الإله أبعصيص

هناك معلمون ومعلمون، في قول مشهور عن شمس الدين التبريزي يفرق فيه بين المعلم المزيف والمعلم الحقيقي. يقول: “يوجد في هذا العالم معلمون مزيفون أكثر عددا من النجوم في هذا الكون المرئي. فلا تخلط بين الأشخاص الأنانيين الذين يعملون بدافع السلطة، وبين المعلمين الحقيقين. فالمعلم الروحي الصادق لا يوجه انتباهك اليه، ولا يتوقع منك طاعة مطلقة له أو اعجابا تاما منك. بل يساعدك على أن تقدر نفسك الداخلية وتحترمها. إن المعلمين الحقيقيين شفافون كالبلور، يعبر نور الله من خلالهم”. يجوز في رأيي اسقاط نفس التعريف على المناضلين والقادة السياسيين والشعراء والأدباء وكل المثقفين والإعلاميين ونجوم الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي.

سؤال يؤرقني مند أن قرأت كتاب الصديق حسن طارق عن السياسة والمشاعر، هل حقا نفكر بعواطفنا؟

هل حقا ننتمي إلى الأحزاب والجمعيات والنقابات بناء على مشاعرنا ونذهب يوم الجمعة إلى صناديق الاقتراع لنختار من يدافع عن مصالحنا بناء على أحاسيسنا. أهكذا هو ترتيب بنية تفكيرنا. العواطف، المشاعر، الأحاسيس؛ في مفارقة عجيبة تجعل من سؤال “لماذا يصوت الفقراء على اليمين؟” الذي طرحه حسن طارق في مؤلفه الأخير، سؤالا ذكيا يختزل مفارقة عجيبة. من يريدون التغيير يختارون، للدفاع عنهم، من يريدون الحفاظ على الأوضاع كما هي.

هل علينا أن نعود إلى نقطة البداية ونعمل على إعادة صياغة تعريف الديمقراطية حتى يفهمه الفاعلون الذين يفترض أنهم الآباء والمعلمون والقادة والمسؤولون المؤتمنون على البلاد والعباد؟

في تقديري، لا بأس في ذلك.

فلربما نسوا في زحمة التطاحن والجشع والتعطش للإفتراس، أن يحملوا معهم أبجديات العمل السياسي. أو تناسوا أن “الخيار الدمقراطي” أو “الديمقراطية” ليست صناديق اقتراع فقط بل هي الملجأ الآمن لصراع الأفكار وأنها، من خلال وعودها ذات النفس الأخلاقي، توفر أرضية لتدبير الصراع حول المصالح تدبيرا سلميا لا مجال فيه للوقاحة وقلة الأدب.

الوقاحة في الخطاب ليست زلة لسان، بل هي آلية واستراتيجية يعتمدها بعض الساسة لأغراض معينة. قد يكون الغرض هو تحقير الخصوم أو الاستهزاء بهم أو تهييج الرأي العام ضدهم خصوصا من الموالين أو المريدين. وفي كل الحالات، هي دليل ضعف رغم أنها قد تكون بغرض إظهار القوة.

ديدان داخل جسم يتحلل. هكذا كان هتلر يصف اليهود. كما استعمل القذافي لفظة “الجرذان” لوصف الحشود التي خرجت ثائرة في فورة ما سمي بالربيع العربي. أمثلة كثيرة عن الخطاب السوقي تحضرني الآن، لكن الغاية من هذه المقالة ليست جرد لائحة قليلي الحياء والعفة في الخطاب على الأقل، بل الغرض هو محاولة فهم الأسباب وافتراض بعض النتائج.

بداية، وجب التنبيه إلى وجهة نظر أتبناها بشكل أقرب إلى العقيدة منها إلى الرأي أو الموقف السياسي. الفراغ لا ينتج إلا الفراغ. والسطحية لا يمكنها أن تقترح إلا الحلول السطحية. إلى وقت قريب، كان الحقل السياسي الوطني يعج بالآراء السياسية المحترمة والمواقف والتحاليل الرصينة من كل المشارب، رغم الاختلافات البينة؛ لكنها كانت آراء ومواقف تنم عن حس وطني لا شك فيه.

عودة سريعة الى أوراق المؤتمرات الوطنية للأحزاب السياسية المغربية تجعل القارئ يستغرب من قوة الأطروحات السياسية المحترمة جدا لحزب كالتقدم والاشتراكية أو حزب الاستقلال أو الاتحاد الاشتراكي أو منظمة العمل الديمقراطي الشعبي وغيرها من الأحزاب الوطنية. كانت التقاطبات السياسية بين أطياف الحقل السياسي واضحة ومبنية فعلا على مشاريع سياسية رغم تشابه مرجعياتها أحيانا أو تطابق مخرجاتها أو تباينها؛ لكنها كانت طروحات محترمة فكريا وسياسيا.

خطب الزعماء كانت خطب زعماء… عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي ومحمد بوستة وبنسعيد أيت يدر وعلي يعته والآخرون المحترمون، وغيرهم من الزعماء قولا وفعلا. فكرا وممارسة.

عندما قالوا لا للدولة، احترمتهم رغم اصطفافهم في المعارضة. عارضوا الحكومة والحكم معا. قالوا لا للملك بكل احترام وقالو نعم عندما استوجب الوضع قول نعم. تغيرت مواقعهم ومواقفهم حسب تقديرات كل مرحلة.

لكننا لم نسمع يوما بنسعيد أيت يدر أو محمد بوستة أو علي يعته أو عبد الرحيم بوعبيد يصفون مختلفا معهم في تقدير موقف مهما كان بالحمار أو الميكروب أو المركوع أو المدوخ، ولم يقل أحد منهم أنه سيعيد تربية المختلفين أو “سير سلم على لي مصيفطك” وهلم مصطلحات تتقاطر من مجاري الصرف غير الصحي.

التقاطبات السياسية يجب أن تنبني على مشاريع سياسية مجتمعية برؤى اقتصادية وخلفية أيديولوجية ثقافية. لكن العجز النظري والكسل الفكري والإفلاس الثقافي الذي وصلت اليه أحزابنا جعل التقاطبات تنبني على “خطاب سوقي” يمتح من قلة الأدب وقلة العفة ويستعير من حديقة الحيوانات أسماء سكانها.

قد نجد تبريرا لحدة الخطاب، فالرغبة في الوصول الى السلطة مبرر معقول ومقبول لرفع شدة التوتر كما أشار إلى ذلك فيليب برو. لكن، كيف يمكن تبرير سوقية الخطاب وانحطاطه؟ إن استعمال خطاب عنيف ومنحط قد يشرعن عنفا آخر يفوق في حدته العنف اللفظي. في النهاية، العنف المادي ما هو إلا ترجمة لعنف رمزي سابق له.

العقلانية والمصداقية والعاطفة والخطاب القصصي. هذه هي الخلطة السحرية التي اعتمدتها الأنظمة الحديثة لنشر التفاهة. العناصر الثلاث الأولى قديمة قدم الفلسفة اليونانية، فهي عناصر ثلاث أشار إليها سقراط في معرض تفسيره للمرتكزات الأساسية للإقناع، حيث أن العقلانية logos ويقصد بها معالجة الحقائق والشواهد الملموسة والمدركة؛ أما المصداقية ethos، فهي متعلقة بشخصية الخطيب ومصداقيته وتوجهاته وقدراته فيما يخص الحس الجماعي. في حين تهتم العاطفة pathos بتحريك مشاعر الجماهير واستمالتهم.

أما ما يقصد بالخطاب القصصي، فهو الانجح لأنه كثيرا ما يثبت نجاحا فائقا مع المجاميع العقائدية، فهو الأسلوب المفضل لرجال الدين عادة، بالنظر لحجم المخزون القصصي الديني. في تقديري، ينطبق تعريف المعلم كما صاغه التبريزي وخلطة الأنظمة السياسية الحديثة التي، من خلالها، عملت وتعمل على نشر التفاهة لقراءة واقعنا الحالي.

يبقى سؤال أخير: لماذا نصر على الانتباه الى هذا الذي نسميه تفاهة؟ ألسنا نحن من أعطينا الفرصة لكل ” تافه” ليحتل مواقع الصدارة؟ لماذا لا ندير ظهورنا على الأقل، نحن معشر من يسمون أنفسهم مثقفين وفاعلين ومهتمين، وننتبه أكثر إلى الجميل فيما يحيط بنا من أصناف الفنون، من أشعار وروايات وأفلام ولوحات فنية ومؤلفات في الفكر والأدب والسياسة؟ بمناسبة السياسة، ألسنا نحن من نظهر طوال المواسم ونختفي إبان الانتخابات حيث دورنا في المساهمة في رفع منسوب وعي الناس، لماذا نختفي كثعلب محمد زفزاف عندما تحتاجنا الأحزاب التي ندعي أننا نراهن عليها للتغيير طوال الفترات الرابطة بين الانتخابات، وعندما يحين وقت الجد، نرتدي ثوب العفة الكاذبة ونتوارى إلى الخلف ونترك الساحة لهذه المخلوقات التي ننتقدها اليوم؟

فقط أتساءل: لماذا؟

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *