الإبادة في غزة: أحداث متفرقة من مشروع يجري أمام أعيننا ونحن ننتظر موتاً وصمته لعله يرحم ضعفنا والعار - Marayana
×
×

الإبادة في غزة: أحداث متفرقة من مشروع يجري أمام أعيننا ونحن ننتظر موتاً وصمته لعله يرحم ضعفنا والعار

وتستمر الإبادة في غزة…والخطير في الأمر هو أن هذه الجرائم الفظيعة، يقوم بها الجنود والمستعمرون على حد سواء، بل ويصورون المشاهد ويتبادلونها على المواقع الاجتماعية في تعبير عن غطرسة وجَهَالَةٍ مرضية، لم نشهد لها مثيلا في التاريخ المعروف. ولعل الاستكبار والإفلات من العقاب والمحاسبة، ظاهرتان خطيرتان على البشر المستهدف، ولكنهما تهددان أيضا المجتمعات التي تشيع فيها وتنتشر. بل إنَّ، المجهود الكبير، الذي يُبْذَلُ حاليا من أجل ضمان عدم متابعة مرتكبي الجرائم المذكورة في التقرير، ستكون له كلفة كبيرة إن آجلا أو عاجلاً.
وفي انتظار ذلك، يتزاحم الأطفال والنساء وكل ساكنة غزة من أجل الماء والغداء والمساعدة على انتشال الجرحى والأموات من تحت الأنقاض والإسعاف وتكفين الشهداء والأشلاء في مواجهة مع مهام وواجبات لا قبل لهم بها.

miftah mostafa مصطفى مفتاح
 مصطفى مفتاح

اختلطت علينا الأمور وازدحمت الصور-المآسي، ونحن لا ندري، هل كابوسٌ هذا الذي يغمر الوقت والأفق، أم فرصة أخرى للنحيب العاجز، أم مناسبة للرثاء وأخد صورة أخيرة مع إنسانيتنا وكل ما أنار عمرنا الآفل إلى المجهول!

تصرخ في ضمائرنا المقررة الأممية لحقوق الإنسان: “يا أهل غزة، يا فلسطينيين، جوعكم عار علينا”. لكن ضمائرنا فاسدة يكفيها أن تنمق الكلمات، ثم تمضي إلى قناة إخبارية أخرى، أو شريط مسلي.

في مارس الأخير، قدمت اللجنة الدولية المستقلة لمجلس حقوق الإنسان، تقريرا صادما عن استخدام المحتل الغاشم، بشكل منهجي، للعنف الجنسي والإنجابي وغيره من أشكال العنف القائم على النوع بحق الفلسطينيات والفلسطينيين، بما فيهم الطفلات والأطفال. كما تم توثيق أشكال من الاعتداء الجنسي على السجناء من طرف الإدارات المعنية، بل وتم الإشهاد على جندي يتعرى على العابرات من حاجز للتفتيش.

والخطير في الأمر هو أن هذه الجرائم الفظيعة، يقوم بها الجنود والمستعمرون على حد سواء، بل ويصورون المشاهد ويتبادلونها على المواقع الاجتماعية في تعبير عن غطرسة وجَهَالَةٍ مرضيةHubris ، لم نشهد لها مثيلا في التاريخ المعروف. ولعل الاستكبار والإفلات من العقاب والمحاسبة، ظاهرتان خطيرتان على البشر المستهدف، ولكنهما تهددان أيضا المجتمعات التي تشيع فيها وتنتشر. بل إنَّ، المجهود الكبير، الذي يُبْذَلُ حاليا من أجل ضمان عدم متابعة مرتكبي الجرائم المذكورة في التقرير، ستكون له كلفة كبيرة إن آجلا أو عاجلاً.

وفي انتظار ذلك، يتزاحم الأطفال والنساء وكل ساكنة غزة من أجل الماء والغداء والمساعدة على انتشال الجرحى والأموات من تحت الأنقاض والإسعاف وتكفين الشهداء والأشلاء في مواجهة مع مهام وواجبات لا قبل لهم بها.

كل هذه المعاناة، عار علينا عظيمٌ.

وغداً سَيَنْبَري الواعظون يطالبون من يعاني اليوم ومنذ تسعة عشر شهراً في كرامتهم، بأنْ يكونوا أرحم بالإنسانية! لأن الجنود والمستعمرين وحلفاءهم ومسانديهم والنائحين، سيسرقون دموع الضحايا وسيسرقون الجثامين ليبيعوها لشريط سينمائي ضخم حول الصراع الأبدي بين الخير والشر في جبل الأولمب!

المحاربون هم الحاسوب والمُسَيِّرَة- الدرون والذكاء الاصطناعي:

في حرب الإبادة هذه لم يبق في الجبهة غير الجنود الذين يشغلون الدبابات والجرافات والمدافع الرشاشة، ولعل وظيفتهم أضحت مختلفة عن المعتاد. أما عمليات الاغتيال والقنص والإبادة، فيتكلف بها عسكريون آخرون، وأغلبهن، ربما عسكريات. أتصورهن، في القاعات المحصنة أمام شاشات حواسيبهن، تصلهم الصور ويعرض عليهن الذكاء الاصطناعي، الخطوات المقبلة فينقرن بأصابعهن على لوحة المفاتيح فيسقط الطابق الرابع من العمارة، أو تحترق الخيمة البئيسة بمن فيها وسط الخيام المحترقة قبلها وبعدها، هنا على الشاشة وهناك في مدرسة أو فناء بقايا مستشفى أو مقر لمنظمة دولية. أتصورهم يتمتعون بحرية كبرى مع الانضباط في اللباس العسكري ومواعيد الراحة والقهوة والتدخين بالنسبة للمدمنات والمدمنين.

ثم يعدن للقتل، هُنَّ وهُمْ، يعودون للعبهم الالكترونية الفتاكة. لا صوت غير صوت المكيفات والنقر المتواصل وصيحات خافتة: – “yes” أصبتُ الهدف!”

يُقَطِّبُ الضابطُ، ثم يبتسم. لقد تمت تصفية الأهداف الإرهابية التي حددتها الخوارزميات: إرهابيتان من الصغيرات وثلاثة إرهابيين من الشيوخ وأشلاء لا يمكن تبين جنسهم ولا سنهم. كان الحصاد جيدا، هذا الدوام!

وبالمناسبة، لقد تزايدت الارتباطات بين كبريات الشركات التكنولوجية الإعلامية وكبار المستثمرين الرأسماليين في الولايات المتحدة مع عدد من الشركات العاملة في نفس المجال في إسرائيل، والمرتبطة مباشرة بآلة الحرب الصهيونية، ومنها تلك التي تخصصت في أنشطة التخابر والاستعلامات والقرصنة المعلوماتية والهاتفية، وطورت فعالياتها في مراقبة الفلسطينيين في استعمال غير قانوني آخر لمراكز التفتيش المتعددة في كل الأراضي المحتلة. وبعد ذلك، وبسببه ربما، عادت شركات “وادي السيليكون” الكبرى إلى عرابها الأول، أي المجمع الصناعي-العسكري الأمريكي، واختتمته بإعلان الدعم والولاء لدونالد ترَمب وسياساته.  هو الذي يرفع كل القيود الأخلاقية على الشركات الرأسمالية، وتطالبه اليوم بإطلاق يدها لبيع كل المعلومات الفردية الخاصة بمآت الملايين من مستعملي الحاسوب والهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي والمضاربة بها لدى شركات الإشهار والقروض ولم لا للشبكات الإجرامية. وقد خَطَت “غوغل” خطوة كبرى حين اشترت بعشرات الملايير من الدولارات، شركة ستكون مهتمة بتأمين أمن منظومة السحاب المحاسباتي[1] وخزانات المعلومات.

في هذا الجو العام لرأسمالية هذه الأيام، من السهل أن نتصور أن عمليات الإبادة في غزة، ميدان تسويق حي لا يعوض، للمنتجات الحربية التكنولوجية.

ثم ماذا بعد؟ يسقط الضمير الغربي في الامتحان

لقد نزعت الحرب على سكان غزة وفلسطين، أوراق التوت عن العورة الأخلاقية للعديد من المفكرين في العالم الغربي، بدءا بـ”هابرماس”[2] من “مدرسة فرانكفورت”[3] حتى كبار رموز “معسكر السلام الإسرائيلي”، دون الحديث عن جزء من وجوه وقادة اليسار الغربي الأطلسي. وأنارت بالمقابل شجاعة وحيوية ضمائر حرة مثل “إيلان بابي Ilan Pappé”[4] و”أومر بارتوف Omer Bartov”[5] و”جوديث بتلرJudith Butler “[6] والفتاة الرائعة، التي فضلت السجن على الخدمة في الجيش الإسرائيلي “Ella Keidar Greenberg” [7] .

لكن المجازر والتدمير المنهجي والتجويع والحرمان من الماء والانتهاكات الجسيمة لكرامة النساء وحياة الأطفال والتقتيل الجاري للصحفيين والمسعفين، تستمر في جَهَالَتِها تبطش، وتُفني وتقْنِصُ وتقصفُ وتُهَدِّم، وتُعَرِّي في نفس الوقت عن وهم القانون الدولي، تذكرنا بأن أصوله وتطوراته حتى القرن العشرين كانت تتجلى في إيجاد تغطية لاحتلال قارات بأكملها وإبادة شعوب وحضارات واستعبادها من طرف الأمم الأوروبية. ولعل أول لبنة وضعها “فرانسيسكو دي فيتوريا Francisco de Vitoria “[8] الذي حلل حق الأوروبيين (الإسبان) في مقاتلة الشعوب الأصلية في القارة الأمريكية، التي كانت تعارض “التواصل” مع الحضارة، أي حرية تنقل البضائع والأشخاص والاستماع لخطابهم التبشيري. اللبنة المهمة الثانية وضعها.”هيكو كروتيوس Hugo Grotius “[9] الذي دشن مهارته بتسويغ قرصنة باخرة من طرف أحد أقربائه، في عملية مكنته وشركة البلدان المنخفضة للهند الشرقية، من الاستحواذ على ما يعادل مدخول إنجلترا في ذلك الوقت. والذي سيشرعن الحرب على الشعوب المختلفة إذا اعتبرها الغزاة غير “متحضرة”![10]

على هذا الأساس الاستعماري المتعالي، تم تأسيس النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية بتشكيل منظمة الأمم المتحدة التي بدأت مهمتها بإضفاء الشرعية على استعمار فلسطين وتقسيمها، وتأبيد حق “الفيتو” للدول “العظمى” على القرار الدولي.[11]

ولعلنا نعيش اليوم نهاية هذا النظام ونهاية “القانون” الدولي “الإنساني”.

ماذا تقول الفلسفة؟

في درسه الافتتاحي للفلسفة في جامعة ساو باولو بالبرازيل، يوم 3 أبريل 2024، فضل الفيلسوف “فلاديمير سفاتلي”[12] أن ينطلق من حرب الإبادة في غزة وفلسطين. حيث يرى فيها، إمكانية قطيعة أو تحول نحو انتصاب “نزع الإنسانية” كأسلوب عادي للحكم، علامة على “فلسطنة”[13] تجري في العالم. ما لم يتم توقيفها.

أربع سيرورات تتزامن فيما يجري أمام أعين العالم من إنكار فظيع لإنسانية عشرات الآلاف من البشر: التكرار وقتل الإحساس ونزع الطابع التاريخي و “الفراغ القانوني”.  بالنسبة للسيرورتين الأولى والثانية أدمجتهما في مصطلح “الإذهال” sidération الذي بفعل الغطرسة والتكرار والقصف الإعلامي يهدف إلى قتل كل ملكات الإدراك والتحديق فيما يجري، مقابل استهلاك خطاب إنكاري يموه الحقيقة في الإرهاب والمحرقة ومعاداة السامية والديمقراطية المعزولة والدولة المحاصرة المستهدفة المسكينة، جزيرة الحضارة وحصنها المتقدم ضد الهمجية الشرقية.

وتتحالف كبريات مؤسسات الإعلام والدول القوية في المزيد، عبر إعدام إضافي للضحايا، عبر تحويلهم لإحصائيات أو نقط أو “أهداف” لعبة للذكاء الاصطناعي، وعبر اعتماد سلاح الكذب حين تنفلت صورة من هنا أو خبر من هناك، حول طفلة ذات سبع سنوات اغتالتها هي وطفلة أخرى ورجال الإسعاف فرقة من الجنود أصدر الضابط المسؤول عنهم حكم الإعدام فنفذته، ولعلها نشرت الصور على مواقع التواصل الاجتماعي.

السيرورة الثالثة هي تنفيذ الإعدام في حق التاريخ، تاريخ المأساة الفلسطينية منذ أن صدر لنا الغرب الاستعماري دين محرقة اليهود في أوربا لنتحمل أوزارها في الأرض والطفلة والشعب والقضية التي لم يكن لها من ذنب، إلا قربها الحميمي من النفط والتوراة وبريطانيا العظمى.

أما الفراغ القانوني فهو استمرار أحد ثوابت الاستعمار، حيث القانون إن وجد، لا يطبق على “الأهالي” ومدنهم وقراهم وحقولهم وحقهم في الحياة، إلا حين يقرر المستعمر ذلك وحين يريد تقرير ذلك.

ويبقى الأمل الوحيد، هو الإيمان أن هذا النظام العالمي الظالم إلى زوال قريب، لأنه تجاوز كل الحدود، ومثل “والتر بنيامين”[14] كما يذكره الفيلسوف، لعل “ثورة” قريبة توقف هذا القطار الجامح المتغطرس الذي يسرع بنا وبكوكبنا وبالإنسانية إلى جهنم..

 

الجزء الأخير مأخوذ بتصرف كبير من مجلة Contretemps

[1] Clouds et bases de données
[2] هابرماس فيلسوف من مدرسة “فرانكفورت”، كان محسوبا على التيار النقدي خرج في نونبر 2023 ببيان مساند لإسرائيل في حربها على ساكنة غزة
[3] مدرسة فكرية نقدية من كبار وجوهها هوركهايمر وآدورنو و ماركوز واريك فروم و من شركائها والتر بنيامين وارنست بلوخ….
[4] مؤرخ وناشط إسرائيلي ضد الصهيونية
[5] مؤرخ إسرائيلي اختصاصي في “المحرقة ” إبان الحرب العالمية الثانية، ناشط ضد الحرب وضد السردية الصهيونية
[6] فيلسوفة نقدية ونسائية أستاذة جامعية في الولايات المتحدة الأمريكية جر عليها تصريحها “بأن 7 أكتوبر عملية مقاومة مسلحة” هجوم المتنفذين في الغرب
[7] مناضلة شيوعية إسرائيلية ضد الحرب على الفلسطينيين، رفضت التجنيد ودخلت السجن على موقفها
[8] فرانسيسكو دي فيتوريا من مدرسة سالامانكا بإسبانيا 1530 Francisco de Vitoria
[9] كان تأثيره كبيرا أصدر كتابه الأشهر سنة 1625 فرانسيسكو دي فيتوريا Francisco de Vitoria
[10] من مقالة للمفكر الماركسي البريطاني “بيري أندرسن” حول الحضارة، بمجلة “نيو لفت ريفيو”

[11]  من مقال ل”مريام أبو سمرا ” و”سارا ترويان” نشر في موقع mondoweiss” وأعاد نشره موقع Z Communications
[12] Vladimir Safatle au département de philosophie de l’Université de São Paulo le 3 avril 2024. L’auteur, philosophe dans la tradition de la Théorie critique et intellectuel public de premier plan au Brésil,
[13]  “palestinisation  ” كما يقول
[14] Walter Benjamin

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *