مصطفى مفتاح يكتب: الواقعية السحرية في سرديات الحركة الماركسية-اللينينية المغربية ومناضليها - Marayana
×
×

مصطفى مفتاح يكتب: الواقعية السحرية في سرديات الحركة الماركسية-اللينينية المغربية ومناضليها

ما أبسِطُهُ لا يعني أكثر من، أن تاريخ الاعتقالات، وتاريخ الحركة الماركسية-اللينينية المغربية ولو في مكان محدود، مثل “مركز درب مولاي الشريف”، تحتاج لأدوات علمية حتى نعرفها في مختلف جوانبها، في قوتها وصمودها ومقاومتها وفي نقاط ضعفها…
ربما، سيكتشف المؤرخون، أن أكبر جريرة ارتكبتها قياداتنا، هي حَقْنُنا بأوهامٍ رومانسيةٍ لم تكن لِتُعِدَّنا بأبسطِ عناصر وأدوات المقاومة… ولعل أكبر خطايانا هو أننا ساهمنا في محاولة انتزاع مقومات الإنسانية من بعضنا، برومانسية بليدةٍ مغامرةٍ، حين بدأنا السجن بكيل الاتهامات المجانية المتسرعة للبعض منا!

miftah mostafa مصطفى مفتاح
مصطفى مفتاح

من المُعَقّدِ جِدّا وشبه المتطاول، أن تغامر بتحليل “موضوعيٍّ” وشاملٍ للكتابات التي أبدَعَها عددٌ من مناضلي الحركة الماركسية-اللينينية المغربية حول تجربتهم مع القمع الذي تعرضوا له منذ ميلاد حركتهم، وما أوردوه من روايات حول حركتهم نفسها، التي عرفت المعتقلات أكثر مما عرف أعضاؤها الحياة، وذلك لاعتبارين اثنين، أولهما عدد وتنوع الإنتاجات، وثانيهما، صعوبة التخلي عن إطلاق الأحكام والتقييمات السريعة، على مادة أدبية، لعلك من شخوصها أو شهودها أو رواتها ولو بشكل غير مباشر.

لكل كاتبِ سيرةٍ من “أدب السجون اليساري” حيلةٌ أو حيلٌ يستعملها، بوعي أو بدونه، حين يتصدى لترجمةِ تجربةٍ إنسانية مادية حية، إلى سردية تحمل قِطَعًا من الواقعِ كما حَصَلَ، لكنها قطعٌ تسْبحُ في لجة من التخييل أو إعادة الخلق.

يبدع الكاتب حِكايةً إذن، صورةٌ مختَلِفة، لكنها حميمية، صادقةٌ ومُموَّهَةٌ في نفس الآن، عن تاريخ، ربما لِيعيدَ تذَكُّرَهُ منقوصا أو مزيدا، بطوليا أو منهزماً!

وبدون نية ولا قصد التمويه، ساهمت كتابات رفاقنا المتعددة عن التجربة، وما دَأَبْنا على صيانتِهِ من طقوسِ الاحتفال بها وببعضنا، في بناءِ “تاريخ” مجتزأ، لم يساعدنا أو لم يساعد المهتمين، على رصْدِ خيوطِ نسبِهِ الفعلي ومكانته في تاريخ المغرب الحديث.

طبعا، ومنذ البداية، حين نغامر بالكتابة، نعاني من عطبٍ تأسيسي: وهو أننا نحن الرواة، فاعلون منفعلون متفاعلون، في صناعة وعيش وكتابة هذه التجربة، مع أننا لا نتوفر على العدة العلمية المنهجية لكتابةٍ يمكن أن تُعْتَمَدَ لتاريخنا.

والأمر أعقد، حين نتصدى لتاريخ الحركة الماركسية-اللينينية المغربية، ذلك أننا نستعيد مهارتنا على السجال والجدل والأحكام.

وحين لا نجد وقائع تطمئننا على استفحال التناقضات المدمرة في الوضعِ، نصنعها في مختبر “الموضوعية”، ثم نمر إلى ما تبقى لنا من مهام ونهتز جذلين مزهوين ببلاغتنا وفصاحتنا في تحليل كل ما كتب أو عرف عن تجربتنا مع الاعتقال والقمع ومع التزامنا النضالي.

ثم تغمرُ كلَّ نواقصِنا، في سنوات القمع الوحشي الذي كان بالمرصاد لتطلعاتنا ونبيل آمالنا لشعبنا، فنرى أننا كنا حَلقةً متفرِّدةً رائعةً من تاريخ نضال شعبنا من أجل التقدم والتحرر والكرامة. ويعَمِّدُ صمودُنا، كل تجربتِنا النضالية ويرمى “ستاراً” من التشكيك والتخوين على كل انتقادٍ، حتى أكثره تعاطفا ومساندة.

ونستمرُّ في خضوعنا، أو أغلبنا، لقانون غير مكتوبٍ يمنعنا من أن نكون موضوعيين، حين نقلب أوجاع تجربتنا ونفحص أحداثها ونقيس أخطاءها ونعتز بعناصرها النبيلة!

وكمثالٍ، جزئي، لأنني لم أطلع على كل ما كتب، أعتقدُ أن أقسى ما في تجربة مركز “درب مولاي الشريف”، هو الحديث عما جرى في زنازينه، ومكاتبه، وغرفه، وممراته، وأيامه، ولياليه، وما بقي يمور في أجسادنا، وجوارحنا وذاكراتنا ونفسياتنا وأنفسنا منه، إلى الآن، رغم مرور نصف قرن، بالنسبة لحالتنا. رغمَ، أن رفاقنا كتبوا الكثير عما جرى وعن المكان والعذاب الذي يرمز إليه.

أرى أن البوح بما جرى عذابٌ، ينبري لينكأ كل إنسانيتنا وكل الندوب، التي لن تندمل، رغم أننا ننسى، ثم نحاول أن ننسى ثم ننسى، ما نريد نسيانه، ولا ينسانا مالا يريد أن ننساه، أو أن نطمره في ثقبٍ أسود، لا نعرف له بعد إغلاقه رسماً ولا سبيلا.

يعذبك الجلاد وتعذب نفسك، يفاجئك المحقق فتتفاجأ ثم تحزن لسقوطك في الفخِّ، ثم يأتيك بعد كل هذا العذاب، واجب الحياة، فتسقط في دوامة السؤال: ماذا أقول لكل من يعرف الرجل بعد الدرب عن الرجل في نار الدرب؟ كل من كتبوا عن الدرب، من مجموعتنا، حاروا بين انتقاء ما يرونه مناسبا للبوح و”التخليد” حولهم، أو ما يراه البعض، تعرية، تَستعمِل مِبْضَعاً مدببا تحتاجه نزاهة الشهادة، أو يأمر بها هول أو مدى الهزيمة، التي لحقت بالتجربة والرفاق والكاتب أو الكتبة على رأس القائمة. بل إنني أكاد أجزم، أن كل الكتابات عن الدرب كان فيها بهذا القدر أو ذاك، بذلك التركيب والمزج أو هذا، الانتقاء والتعرية الجارحة المُهينة المُهانة.

وأسأل نفسي، أنا المصطفى، مجرد رقم معصوب العينين ومقيد اليدين يشترك مع “الهيبوش”[1] والوسخ بِدْلةً كاكيةً وشبهِ كاشَّتَين[2]، في المركز: هل أفرض على أسرتي، كل ما سامني به هذا المركز الرهيب، وكل أسماء معاناتي النبيلة والمتواضعة، والصامدة والمنهارة؟ هل أكتفي بما تحتفظ لي عندها بالصورة التي أُفَضِّلُ أنا أو يُفَضِّلون هم؟ أو أرميهم بما سيجرح اعتزازهم، فيهتز بعض ركن من حياتهم، خصوصا من الجيل الموالي؟ رغم أن الأقربين، ربما، يحدسون، يعرفون مقدار التدليس و”الصنعة” فيما أبوح به وما “أخفيه” ولكن هل يرغبون في المزيد؟ لن أجيب على هذا السؤال!

تحضرني الليلة بعد نصف قرن من الزمان، دُنْيا مفردة أو متعددة، كالِحةٌ مخيفةٌ غامضةٌ، واضحٌ وداهمٌ شرُّها وخطرُها من كل الزوايا والاتجاهات، تَمَّ رَمْيُنا فيها بعد أن جُرِّدْنا، عراةً، إلا من خوف مطبق طفولي، ونحن عراةٌ إلا من اليقين، أن ضربة من هنا أو طعنة من هناك، أو لدغة من تحت، أو مخالب من فوق، جنٌّ وإنسٌ وحشراتٌ وأفاعٍ وقوارضٍ وكائنات أو أشباه عدمٍ يدور بنا وندور بهِ ونحن في خيشٍ مخشخشةٍ أصواتهُ، جربٌ، لزوجةٌ، بردٌ وكلُّ معاجم الكابوسِ، لا حول لنا ولا قوة الاستغاثة. ولا قدرة على تبين الضربة-الصفعة-اللسعة-الشوكة القادمة!

ما أبسِطُهُ لا يعني أكثر من، أن تاريخ الاعتقالات، وتاريخ الحركة الماركسية-اللينينية المغربية ولو في مكان محدود، مثل “مركز درب مولاي الشريف”، تحتاج لأدوات علمية حتى نعرفها في مختلف جوانبها، في قوتها وصمودها ومقاومتها وفي نقاط ضعفها، ونعرف اختيارات أطرافها ونفهمها بما تستحقه من الاحترام والتقدير دون تقديس أو تبجيل ودون تجني وتصفية حسابات.

ربما، سيكتشف المؤرخون، أن أكبر جريرة ارتكبتها قياداتنا، هي حَقْنُنا بأوهامٍ رومانسيةٍ لم تكن لِتُعِدَّنا بأبسطِ عناصر وأدوات المقاومة، وإضافتها لسوط الإحساس بالانكسار والانهيار، بهذا القدر أو ذاك، على ماكينة القمع والاجتثاث الفظيعة. ولعل أكبر خطايانا هو أننا ساهمنا في محاولة انتزاع مقومات الإنسانية من بعضنا، برومانسية بليدةٍ مغامرةٍ، حين بدأنا السجن بكيل الاتهامات المجانية المتسرعة للبعض منا!

يشفع للقادة، الذين قد تحاسبهم قراءة ماضي “المركز-الدرب”، أنهم شاركوا آلامنا ونال البعض منهم جزءاً أقسى من نصيبنا من البطش. ويشفع للآخرين أنهم نزلوا من عليائهم “القيادية” إلى قملنا وأنيننا وروائحنا والجوع والخوف والعطش.

تجرحني، كما عدد من الرفاق، الأحكام الرفاقية التي تتحدثُ عن “هزيمة” حركتنا و”انهزامنا”، وأظنها أحكامٌ غير مُنْصِفة لصمودنا ومُكابَرَتِنا، وعنادنا ضد الاجتثاث وشروط السجن، ولما قام به الرفاق وقامت به الرفيقات من مجهود جبارٍ لبناء حياةٍ بعد ورغم السجن، إنسانيا ومهنيا وأسرياً. لكني، أعتبر أن قسوتها قسوة على أنفسِ من يقولون بها. وفوق وبعد كل هذا وذاك، أختم قولي:

– إنَّ ذَاكرتنا تتوهن، ورموزنا يرحلون تباعا، أي أن المادة الأولية الخام لتاريخنا تندثر، وتاريخنا لم يكتب بعد. فإِذَنْ، “ما العمل؟”

ولي عودة ستتناول سردية الحركة.

 

[1] حشرات مثل القمل
[2] مفرد كاشة: غطاء

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *