مصطفى مفتاح: بين “درب مولاي الشريف” و”السجن المركزي”… السماء المربعة لـ 18 سنة من الاعتقال - Marayana
×
×

مصطفى مفتاح: بين “درب مولاي الشريف” و”السجن المركزي”… السماء المربعة لـ 18 سنة من الاعتقال

سيقف المؤرخون لتجربة الحركة الماركسية-اللينينية المغربية، حين سيعلمون أن “السرفاتي”، من سجنه في الدار البيضاء، انزعج من أن رفاقه في المركزي بالقنيطرة قد عاقبوا رفاقا لهم.
…وسينتبهون أنه في السماء المربعة، كان الرفاق الذين اعتبروا “رَخْوين” ضعاف، لا ثقة فيهم أو “يمينيون”، لم تتح لهم فرصة عيش سنوات سجنهم بشكل عادي، أو أن يقرروا في أشكال تجسيد صمودهم ومقاومتهم ونضالاتهم داخل السجن والدفاع عن كرامتهم.

miftah mostafa مصطفى مفتاح
 مصطفى مفتاح

السرد-السيرة الذاتية، – التي كتبها محمد السريفي “الروخو” بعنوان “السماء المربعة”، والصادر حديثا عن دار النشر “الفنك”، لبنة أخرى من تاريخ سنوات الرصاص، كما عانى منها مناضلو منظمات “23 مارس” و”إلى الأمام” و”لنخدم الشعب”.

سرد مشبع، من أوله إلى ختامه، بالحنين والشجن والوفاء لحركة شبابية متمردة ثارت بكل جرأة ضد موازين القوى وثقل التقاليد. حركة رومانسية قادرة على التفتح وأيضا على الجمود العقائدي والتعصب، على البذل الكريم والإقصاء. حركة مغربية أصيلة تستحق أن يعرفها الناس أحسن.

في هذا الإطار، تأتينا “السماء المربعة” لتذكرنا بأن سنوات الرصاص، إذ هي قهرت المغرب لسنوات طويلة، فإنها كانت أيضا سنوات مقاومة ومغامرة نضالية مقدامة وشجاعة من أجل مغرب مستقل متقدم وقوي بمواطناته ومواطنيه.

السرد في هذه السيرة ذو وتيرة متسارعة، قد تكون متوترة حادة، ولكنها مغرية بقفزاتها إلى الأمام أو إلى الخلف، بأحكامها النهائية الصارمة كمربع العنوان، بفلتاتها في الطفولة أو في الحياة بعد السجن.

سرد يلعب فيه الروخو دور البطل الوسيم الجذاب الشاعر، الساحر الذي يربط مدينة طنجة بالتزامه، وبالحرب الأهلية الإسبانية، وبملحمة عبد الكريم الخطابي. بطل حنون محب، ابنٌ بار وأخ وجار وشاعر حبيب خجول لربيعة منذ الثانوية وإلى الأبد.

شرفني بتضمين سيرته نصا كتبتُهُ حول والدته السيدة “خوانا” حبيبته، يضمهما بحنان ورفق “خاي أحمد” أبوه العظيم.

شخصية الكاتب وموقعه في منظمة “إلى الأمام” والكبوات، التي نحدسها بين السطور ومسؤولياته، ودوره فيما جرى بالسجن المركزي بالقنيطرة ومحاكمة 1977، والإضراب الكبير عن الطعام، كلها تجعل من هذه السيرة مؤلَّفاً مهمًّا سيثير عددا من ردود الفعل لدى المعنيين، ذلك أن عددا من مناضلي “اليسار الجديد”، قضوا سنوات أطول من التزامهم السياسي رهن الاعتقال، بعيدا عن الناس الذين كانوا /كن يناضلن /يناضلون من أجلهم.

…فهذا الروخو، قضى ثمانية عشرة سنة من الاعتقال، مقابل سنتين أو ثلاث من العمل خارج الأسوار في السرية، غالبا!

اعتقل في سن 22 بضع وقت بعد الخروج من المراهقة، ولم يعرف الحرية إلا بعد الأربعين، بترت من حياته أجزاء حاسمة في معيش إنساني. يقدم لنا، رواية ليست بسيطة ومستقيمة، جغرافيتها مليئة بالحفر والمرتفعات، وشعاب الاعتزاز والفرح والألم، واللقاءات والخيبات والوعود.

لم يكن وحده، لكنه من الأسماء المعروفة في هذه التجربة التي لم تحظ بالاهتمام الذي تستحقه بالنظر إلى أثرها في تاريخنا الحديث.

لهذا من المفهوم أن تكون السيرة غير منتظمة الوتيرة، ومليئة بالمنعرجات والتوقفات الفجائية والسبل المقطوعة والرجوع إلى الوراء والقفز إلى أمام. فالذاكرة تستعمل، تارة، نظارات مكبرة أو عصابة، تعتمد التكرار وبدايات لا تكتمل وإعلانات جازمة، تارات. ألم يقل الشاعر “روني شار”[1] أن “للذاكرة أحابيل كثيرة”.

هذه الذاكرة تقدم الأشياء بطريقتها الانتقائية ونزواتها، خصوصا أن “الروخو” دائم الالتزام باحتياطات “السرية” حيث لا يدخل لسردية ليس لها باب سري للخروج والإغاثة، ولا يقر بوقائع عينية قد تخدش أسطح وفائه.

لكن “السماء المربعة” تقرأ بمتعة، تبسط يقينياتها وتسافر بالقارئ مع بطل رومانسي، مقدام، شاخص النظر إلى أفقه الثوري، مرتكز على يقينياته االحمراء النهائية، تضيئه أنوارها السديدة. سرديةٌ واقعيةٌ اشتراكيةٌ وفي آنٍ واحدٍ، سحريةٌ، غرائبيةٌ وبطولية.

ثلاث شخصيات رئيسية في هذا السرد المحكم للشيوعية الماركسية-اللينينية المغربية التي انبثقت نهاية سنوات 1960. بَطَلان اثنان: السريفي و”إلى الأمام” وعدوهما الاستبداد وجحافل زبانيته المدمنون على التعذيب. الاستبداد بالبنط العريض “لأن الشهداء لم يغفروا أبداً ” كما يقول “الروخو”.

وكما في أغنية “جاك بريل”[2] أو وجودية سارتر[3] هناك “الآخرون: مناضلو منظمة “23 مارس” “المعربون” … والذين عاشوا بألم ومعاناة اعتقالهم “لأنهم كانوا يدافعون عن نفس موقف الحسن الثاني (حول مسألة الصحراء)”. هؤلاء الرفاق الذين عانوا في الحقيقة من ممارسات عزلهم وإقصائهم من طرف رفاقهم الأماجد في الاعتقال.

بل إن ثلاثة من قادة “23 مارس” في السجن وهم الفقيد “عبد السلام الموذن” الذي توفي في ظروف غامضة، وعبد العالي بن شقرون وعلال الأزهر، أخذوا الكلمة في المحاكمة لا ليتسولوا ويستعطفوا رحمة من النظام، أو أن يرتفع نواحهم، بل بالعكس، لعرض النقاط العريضة لبرنامجهم السياسي. بل بلغت بهم الصفاقة أن يعلنوا معارضتهم للنظام!

من بين الآخرين، أيضا، العديد ممن اضطروا أن يسلموا زمام القرار في مصيرهم للقادة الذين كان همهم، سد الثغرات، التي يمكنها أن تُفَتِّتَ الصخر الثوري الذي اعتبره الفقيد السرفاتي “شرف حياته” حين أطلق تصريحه في محاكمة 1976 لصالح “الجمهورية الصحراوية” في موقف لم يحترم لا الرأي الرسمي لـ”إلى الأمام” ولا لباقي المعتقلين المُحاكَمين.

وبغض النظر على هذه الإشارات “الملتبسة” من طرفي، يبقى كتاب “السماء المربعة” مفعما بروح التضامن، حيث يبدع السريفي في التعبير عن تعاطفه الإنساني مع المحكومين بالإعدام القاطنين في عنبر الموت، ينتظرون “استيقاظ الذئبة”، كما يقولون. أو أكثر إنسانية حين يهزنا بقصة ديك الفقيد “عبد العزيز الوديع” الذي ما إن خرج لضوء الشمس في ساحة السجن حتى هرول راجعا لزنزانته!

طبعا هذه السردية لا تحتمل “النقد الذاتي” حول الممارسات الغريبة عن التضامن والتعاطف الإنساني، والتي مورست في حق رفاق شاركوا رفاقهم صروف التعذيب وسنوات السجن الطويلة، لكنهم كانوا يفكرون بشكل مختلف عن قيادة “إلى الأمام” في السجن. نقد ذاتيٌّ ممنوعٌ لا يمكن انتظاره من هذه السيرة.

سيقف المؤرخون لتجربة الحركة الماركسية-اللينينية المغربية، حين سيعلمون أن “السرفاتي”، من سجنه في الدار البيضاء، انزعج من أن رفاقه في المركزي بالقنيطرة قد عاقبوا رفاقا لهم، كما عوقب الزعيم البلشفي “بوخارين”[4] من طرف قاهره و رفيقه “ستالين”! وسينتبهون أنه في “السماء المربعة” كان الرفاق الذين اعتبروا “رَخْوين” ضعاف، لا ثقة فيهم أو “يمينيون”، لم تتح لهم فرصة عيش سنوات سجنهم بشكل عادي، أو أن يقرروا في أشكال تجسيد صمودهم ومقاومتهم ونضالاتهم داخل السجن والدفاع عن كرامتهم.

أذكر وبإجلال رفاقا لنا مثل “البو حسن” و “أشديني ميلود” و “محمد فكري” و “الشاف”[5] و”أحمد حبشي” و “بلعباس المشتري” و “عبد الله المنصوري” وآخرين ممن كانوا ضحايا مرتين: ضحايا جور النظام وضحايا ممارسات “الرفاق الذين اصطفاهم الخط الثوري السديد”.

كل هؤلاء الرفاق الصامدين وضعوا جانبا آلامهم وحافظوا على شعلة التضامن حية متقدة مع الكل، أيا كانت مواقعهم أو مواقفهم، رغم “نير السياط الثورية” والتي حاولت الرقابة حتى على الإبداع الأدبي[6]. لكنها انهارت في مواجهة الصخرة الصلبة للروح الرفاقية المتفتحة والودودة

من حسن حظنا أيضا أن عائلاتنا، وعلى الخصوص الأمهات الرائعات تمكنَّ من نسج وتنمية التضامن وتغدية مقاومتنا.

ومع كل هذا، فالسريفي “الروخو” لم يكن “جلاداً” أو من “الزبانية”، رغم ما قد يفهم من بعض ما تبناه في “السماء المربعة”، بل صديق مرح يزرع حوله الألفة والابتسام.

هي إذن، سردية تتناول حلقات مغامرة سياسية وثقافية وإنسانية، على التاريخ والشباب أن يعرفوها في تعدديتها وتناقضاتها وصمودها وقت سنوات الرصاص.

والاعتراف واجب: أن السريفي بعد السجن، هو وربيعة الرائعة، قد أغدقا دائما دفء عواطفهما الجميلة لكل قدماء المعتقلين السياسيين، الذين ينعمون بلقائهما وحرارة الاستقبال في عش الحب الطنجاوي الذي بنياه، دون أن تبدر منهما أي علامة للإقصاء والتمييز، على العكس!

شخصيا حظيَتْ أربع نصوص كتبتها بالذكر من طرف صديقي، كتعبير عن الود مما يغمرني بالسعادة.

كتبتُ هذه الشهادة لأنني سقطت صريع سحر هذه السيرة التي أثارت فيَّ أشجان “دون كيشوط”[7] و “أجراس همنغواي”[8] ورومانسيات “كارسيا لوركا”[9] و “غريكو” لـ”كازانتزاكيس”[10] ودروب الدار البيضاء من “الحي الأوربي” حتى “اسباتة” من طرف طنجاوي قح أحبَّ مدينتي و”بيضاوتها”.

 

شكرا رفيقي محمد

بقلم المصطفى مفتاح: مناضل من منظمة 23 مارس، عاش سنوات سجن غنية

[1] شاعر فرنسي ومقاوم René Char
[2] Jacques Brel « ces gens-là » مغني بلجيكي-فرنسي
[3] الفيلسوف الفرنسي الوجودي Jean Paul Sartre,
[4] قائد بلشفي حاكمه وسجنه ثم أعدمه نظام ستالين
[5] لقب عبد السلام الموذن في السجن
[6] إشارة إلى قصيدة عممها في دفتر داخل المركزي “عبد القادر الشاوي” سنة 1978 عنوانها “البحر” أثارت بعض الحمى من تبادل النقد والألقاب
[7] بطل رواية “ثيربانطيس”
[8] إشارة إلى رواية همنغواي “لمن تدق الأجراس”
[9] الشاعر الكبير المغتال كارسيا لوركا
[10] « Le Greco » de Kazantzakis كاتب تقدمي يوناني له رواية “زوربا”

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *