مصطفى مفتاح يكتب: خطبة الهندي الأحمر الأخير… غزة تعلن جدارتها بالحياة
العالم كما عرفناه يموت أمامنا وينفجر، يدخل في الظلام هناك في فلسطين وفي بقاع أخرى، يحتضر أمام الغطرسة والجنون الامبريالي الأخرق.
المنطق يفقد منطقه والجوار العربي يبحث عن كهف نفطي ليختبئ… والخوف حاضِرُ البشرية الجاثم بكلكله والأطفال حطام في كل فلسطين ولبنان وسوريا التي امتدت فيها غزة الرعب…. وغزة العزة.

“زعيم واشنطن الكبير” يقول لي، في رسالته، إنه يريد أن يشتري بلادنا.! لكننا … نعرف أننا إذا لم نبعه بلادنا فسوف يجيئنا الرجل الأبيض مدججا بسلاحه وينتزعها. …
كيف نبيع طلاقة الهواء؟ كيف نبيع حُبابَ الماء ونحن لا نملكها؟
كل شبر من تراب.. كل خيط من ورق الصنوبر، كل مدى من الضباب في غياهب الأحراج، كل حشرة تمتص ما تمتص أو تطن، كله مقدس في ذاكرة شعبي.
النسغ الذي يسيل في الأشجار… الغزال والحصان والنسر العظيم كلهم إخوتنا. القمم الصخرية. ندى المروج. ودفء جسد الحصان كلهم ….
زعيم واشنطن الكبير يقول… إنه يريد أن يشتري بلادنا وأنه سيهبنا مطرحاً يلمّنا وأنه سيكون لنا أبا وأننا سنكون أبناء له، … عرض لا يطاق لأن أرضنا مقدسة.
ينهزم الإنسان الأحمر أمام زحف الإنسان الأبيض مثلما ينقشع ضباب الجبال أمام شمس الصباح. لكننا نرى رماد آبائنا وقبورهم بقيعا مقدساً. وهكذا نرى الهضاب والأشجار. ونعتبر هذه البلاد قسمتنا. ونعرف أن الرجل الأبيض… الغريب الذي تسلل في ظلمات الليل فنال من هذه الأرض كل ما تمنى. إنه لا يرى الأرض أختاً له بل عدوا يقهره ثم يمضي. …. إنه يسرق… وها هو ينظر إلى أمه السماء فلا يراها إلاّ سلعة تسرق أو تباع، جشعه يلتهم الأرض….
لا يترك هذا الرجل الأبيض… شبرا دون ضجيج. لم يبق لديه مكان لسماع حفيف الأوراق وتفتحها أو لسماع طنين أجنحة الحشرات. …الهنود يفضلون صوت الريح وهي ترمح فوق بركة المياه، ورائحة الريح المعشقة بمطر الظهيرة أو المعطرة برائحة الصنوبر.
… أما الإنسان الأبيض فيبدو أنه لا يعرف أنه يتنفس، وكأنه رجل مات منذ أيام. كل ما فيه بليد حتى النتانة. …
الإنسان يعود إلى الأرض.
… لم يعد يهم أين نمضي بقية حياتنا. إنها أيام معدودة، بضع ساعات إضافية، بعض شتاءات… ثم لن يكون هناك أطفال من هذه الشعوب العظيمة، وها هي ذي شراذم ضئيلة تتسكع في أعماق الأدغال. لن يكون هناك أطفال يبكون على قبور… ولكن لماذا أبكي زوال شعبي؟ إن القبائل لا يصنعها إلا الرجال… حتى أنت أيها الرجل الأبيض الذي تمشي مع ربك… لن تنجو من هذا المصير. ولعلنا في النهاية إخوة وسوف نرى.
إنكم تعتقدون أنكم تملكون الإله مثلما إنكم تريدون أن تملكوا أرضنا… وربما ستمضي قبل غيرك… الرجل الأبيض أيضا لن يفلت من يد المصير. وفي النهاية…لعلنا أخوان وسوف نرى.
خطبة الهندي الأخير، “سياتل” زعيم هنود “دواميش”
ألقيت سنة 1854 حين أجبر على تسليم بلاده
حين شدوا وثاق الزعيم، فتشوه، يبحثون ربما عن خارطة الكنز الذي تكلم عنه وقد شُبِّهَ لهم ذهبا ودولارا. عروه، فابتسم لأنهم سمحوا لأمه الأرض والسماء أن تغمر جسده العظيم. فتشوا وفتشوا ولم يجدوا غير ورقة عربية بخط محمود درويش صاغ فيها لصاحبه الهندي الأحمر مسودة الخطبة ما قبل الأخيرة، فقرأت الفراشات والبيزان والنجوم، وقرأ الهواء المثخن بالإبادة، الورقة يقترض فيها الشاعر من أخينا وصديقنا وأبينا لسانه ليقول للمستعمر المستوطن المدجج بالبارجات الطائرات الراجمات المدرعات بالذكاء الاصطناعي البليد، ما ترْجَمْتُهُ بكل تصرف وعجالة:
1
… يا سيّد الْبيض ! عالِيَةٌ رُوحُنَا، .. وُلدْنَا هُنَا بَيْنَ ماءٍ ونارٍ.. ونولَدُ ثانيةً في الْغُيومْ
… عَلِّم حصانك أنْ يعْتَذِرْ. /
2
فمِنْ حقّ كولومبوس الْحُرّ … أن يُسمّي أَشْباحَنا فُلفُلاً أوْ هُنودا..
يَبْحثُ.. عَنْ ذَهبٍ في جَماجِم أجدادنا الطّيّبين…. إذًاً
لماذا يُواصلُ حَرْب الإبادَة، من قَبْرِه، للنِّهَايَةْ؟
لنا ما لنا… وَلَنا ما لَكُم منْ سَماءْ… ولكُمْ ما لَنَا من هواءٍ وماءْ
لَنا ما لنا منْ حَصًى… ولكم ما لكمْ منْ حَديدْ…
3.
…
لا تَدْفنُوا اللّهَ في كُتُبٍ وَعَدتْكُمْ بِأرْضٍ على أَرْضِنا
ستْنقُصكُمْ عُزْلَة الأبَديَّة في غابةٍ لا تُطلُّ على الْهاوِيَةْ
وتنْقُصُكُمْ حكْمَةُ الانْكسارات… ذكرى تُروّضُ خَيْل الْجُنون
وَقَلْبٌ يحكّ الصّخور لتَصْقُلهُ في نِداء الكَمَنْجاتْ…
4
..نَعْرفُ ماذا يُخبّئ هذا الْغُموضُ الْبليغُ لَنَا…
أنّ الحقيقَةَ أَقْوى من الْحَقّ، فمن سوْفَ يَرفَعُ أَصْواتَنَا
إلى مَطَرٍ يابسٍ ؟
… قال الْغريبُ: أنَا سَيّدُ الْوقْتِ، فَمُرّوا أمامي، لأحْصيَكُمْ جُثّةً جُثّةً…” لِيَبْقى ليَ الرّبُّ …أَبْيَض.. ويحفرُ في الأرض بِئْراً ليدفن فيها السّماءَ. …
خُذُوا دَمَنا…فاتْرُكوا النّايَ للرّيحِ تَبْكي
على شَعْبِ هذا المَكَان الجَرِيح.. وَتَبكي عليكم غَداً..
5
وَنحْنُ نُودّعُ نيرانَنَا. ..لا تطلُبُوا معاهَدةً للسّلام من الميّتين، …
لن أوقّع الصّلح بين القتيل وقاتله…
لم يبْق شيءٌ لنا في الزّمان الجديد
هنا تَتَبَخَّرُ أجْسَادُنا، غيمةً غَيْمةً
هُنا تتلألأ أرواحُنا، نَجْمةً نَجْمةً…
6
سَيَمْضي زمانٌ طويلٌ ليصبح حاضرنا ماضيًا مثْلنا
… مِنْ مقابِرِنا تَفْتَحون الطَّرِيق إلى الْقمر الاصطناعيِّ.
هُنالك موْتى ومستوطناتٌ وبولدوزراتٌ،
ومستشْفياتٌ وشاشاتُ رادار ترْصُدُ مَوْتى
يعيشون بَعْد الممات يُربّونَ وحْش الحضارات مَوْتًا،
يموتون كيْ يحملوا الأرض فوق الرّفاتْ.
سَنَمضى إلى وَطن … يحاصِرُكُم، أيّها البيضُ، موتى يموتون يعيشونَ، يَعودونَ، موتى يبوحُونَ بالسِّر…
على هامش الخطبتين، وجد الجنود نصيهما في ورقات مطوية بعناية مع الحمض النووي لما تبقى من جثة “هند رجب” وشهيد يمتشق عصا يهش بها على “الكواد كابتر” المدججة بأقمار الذكاء المصطنع، قائد شهيد يعرف أنه ربما سيُطْبِقُ الفولاذ والإبادة على الوطن ويعرف أن أخاً بليداً يفتح الباب للجحافل كي تقصف الخنساء والعامرية وزرقاء اليمامة…هي نكبة أخرى فلا يجزع لأن الشعوب الأولى هي الأخيرة… فليقترضوا من فرعون واليا أشقر على الكعبة المقدسة وليسجدوا لما يشاء….
فالعالم كما عرفناه يموت أمامنا وينفجر، يدخل في الظلام هناك في فلسطين وفي بقاع أخرى، يحتضر أمام الغطرسة والجنون الامبريالي الأخرق.
والمنطق يفقد منطقه والجوار العربي يبحث عن كهف نفطي ليختبئ والخوف حاضِرُ البشرية الجاثم بكلكله والأطفال حطام في كل فلسطين ولبنان وسوريا التي امتدت فيها غزة الرعب…. وغزة العزة.
وجدوا بالكنعانية والفينيقية والعربية والمسمارية والأرمنية ولغة المسيح والإسراء كلام الشاعر الفلسطيني:
“لأن غـزة لصيقة بالأعداء… لأن غـزة جزيرة لا تكف عن الانفجار خدشت وجه العدو وكسرت أحلامه وصدته عن الرضا بالزمن.
قد ينتصر الأعداء على غزة
قد يكسرون عظامها
قد يزرعون الدبابات في أحشاء أطفالها ونسائها وقد يرمونها في البحر أو الرمل أو الدم ولكنها
لن تكرر الأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعم
وستستمر في الانفجار
لا هو موت ولا هو انتحار ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة..”
كتبت سنة 1992
أما نحن ومعنا الشعراء فالصمت قدر نهاية العالم التي نشاهد!
لا وقت بعد كل هذه الأشلاء من جهنم
لم يبق قبر ولا بقي النشيد
ولا ارتفع النحيب
ازدحم الشهيد مع الشهيد
انتهى الموت والمظاهرات
هل أفترش كوفية أو كيسا من البلاستيك أيها الصحفي؟
هل لي أنامل لأرتب أشلائي وروحي؟
هل ما زالت الروح عند الله عزيزة؟
هل ترتقي أو تختنق؟
هل ستخرج الروح من جثتي التي احترقت قبل أن أتهجى الشهادتين؟ هل سيُغَسِّلونَني أماه؟
هل تحتفظين لي بحِجْرٍ بعد احتراق حضنك؟
كما احترقت الجامعة الغربية ومذكرات التوقيف والقرارات واحترقنا.
لم يبق موت والقيامة اندثرت وتحت الركام قصائد والشعراء
وتضرب السلطة بالنار في جنين ونابلس وطوباس وطولكرم والخليل والقدس وما تبقى من مكاتب في المقاطعة في بيت لحم.
وتجتمع على القطاع المخيفات الجحافل والمسيرات والدبابات والغارات والجرافات والمعابر المغلقة من الجانب العربي والقناصة والصمت الأممي والحذر والتهديد والقرارات والتقارير والخيانة والخوف أول العرب وآخرهم حتى المعابر ومكة.
يتطلع الطولك شو[1] لإخلاء غزة قصد إعمارها بمائدة القمار فترعى مصر وقطر وقف إطلاق النار هنا، لتنتقل القيامة إلى هناك في الضفة المقدسة.
وتمعن الغطرسة المدججة بالقنابل الثقيلة والأكثر ثقلا في إخلاء المخيمات كي تعمر بعد ذلك للسياح والمستوطنين.
تعربد الطائرات والدبابات في لبنان وسورية “المحررة” لتوها وربما سيفنيهم الجيش عن آخرهم بين غارة وأخرى
أما نحن الشهود فقد تجمدنا ننتظر. انتهى الموت وأقفلت القيامة نشورها.
لم ينفخ الصور
وبين الحطام والجثث قطع مغلفة من ملاحمنا حين كنا نسكر بالمعلقات
لم يبق منفى أو خيامٌ أو ضمير
دعونا وصراطنا بين السعير القريب وذكرى الهندي الأحمر الأخير
وانصرفوا إلى قمة أخرى عربية أو غيرها.
لكنكم لا تعرفون: “رامبو” خائف تماما كالوحش الكاسر يكسرنا ولكن…
الليل حالكٌ ظلام مصاب بالسعار وبالهلع…
سيهرع القوم إلى رُهابِهم وستمضي الشعوب تنحت في الصخر ذكراها
والتاريخ لا يهمل النمر المقوى بالجبروت رغم المآسي… والنكبات تتوالى علينا والأشلاء أسماؤنا الأخيرة وهولاكو انتهى ولن ننتهي ونخاف ولا ننتهي.
[1] Talk schow