مدونة الأسرة: هل ما زلنا نحتاج لتشريعات فقهية في واقع مجتمعي لا قِبل للطبري وابن قدامة وابن حنبل به؟
لِمَ هذا الإصرار، من قبل الدول الإسلامية، على إعمال قانون خاص، موضوعه الحصري هو طبيعة العلاقات بين المرأة والرجل، مستوحى من مصادر غير تلك التي تمتح منها في باقي أوجه تنظيم مختلف العلائق الأخرى، إلم يكن بسبب الرغبة الأكيدة للقائمين على تسيير شؤون تلك المجتمعات، في التحكم التام في أبسط الحلقات في المجتمعات البشرية، والأكثر تأثيرا في تشكيل الوعي المجتمعي العام، سالفا وحاضرا ومستقبلا: المرأة والطفل، عبر مدونة الأسرة؟

كنت أظن، قبل عشرين سنة مضت، بأن القانون المغربي الوضعي يطبق بحذافيره، في كل مناحي حياتنا اليومية، دون استثناءات ولا تحفظات؛ سواء تعلق الأمر بعلاقات المواطنين مع بعضهم أو في علاقاتهم، جميعا، مع مؤسسات الدولة؛ أو حتى في علاقات مؤسسات الدولة تلك مع بعضها. إلى أن فوجئت بحشود غفيرة من الإسلاميين والمخلصين لهم تجتاح الفضاء العام احتجاجا على مشروع إصلاح مدونة الأحوال الشخصية المقترح سنة 2004 والمعروض للنقاش من قبل كافة الفعاليات التي لها صلة بالموضوع. وإلى أن سمعت وقرأت وشاهدت، ما يفيد بأن الرجل وزوجته وأبناءهما ووالديهما، قيد حياتهم جميعا، وبعد وفاتهم، بما كسبوا وما اكتسبوا، موضوع قانون ملحق، خاص، لا يخضع لنفس القواعد ولا الضوابط المسطرة في القانون العام. تستوي في هذا كل الدول الإسلامية، من المحيط إلى الجحيم.
قانون استثنائي، مستوحى من روح الشريعة الإسلامية. سمي عندنا سابقا، بقانون الأحوال الشخصية. ثم لاحقا، بمدونة الأسرة.
قانون خاص، قد يتوافق لماما مع بعض مقتضيات القانون العام الوضعي، المعمول به اليوم. لكنه يغتاظ، بل يستشيط، حين تتعارض ثوابته مع تلك المقتضيات، وينتفض بكل ما أوتي من قوة، في وجه كل محاولة للعبث بالمعلوم من الدين بالضرورة.
تساءلت، بغير قليل من السذاجة مؤخرا: هل لدى الدول غير الإسلامية أيضا، قانون للأحوال الشخصية؟ ثم سألت بعض أهل الاختصاص. رغم علمي المسبق بتفاهة سؤالي، فكان الجواب البديهي، المطابق أيضا لما أفاد به أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي: “في الدول الغربية، لا يوجد عادةً ما يُعرف بــ مدونة الأحوال الشخصية، بالشكل الموجود في بعض الدول العربية أو الإسلامية. بدلا من ذلك، يتم تنظيم قضايا الأحوال الشخصية، مثل الزواج والطلاق وحضانة الأطفال والميراث، من خلال قوانين مدنية عامة أو قوانين خاصة بالأحوال الشخصية، ولكنها تكون جزءا من النظام القانوني العام وليست مدونة منفصلة”.
رد يتمخض عنه، بداهةً، سؤال الغائية: لم هذا الإصرار من قبل الدول الإسلامية على إعمال قانون خاص، موضوعه الحصري هو طبيعة العلاقات بين المرأة والرجل، مستوحى من مصادر غير تلك التي تمتح منها في باقي أوجه تنظيم مختلف العلائق الأخرى، إلم يكن بسبب الرغبة الأكيدة للقائمين على تسيير شؤون تلك المجتمعات، في التحكم التام في أبسط الحلقات في المجتمعات البشرية، والأكثر تأثيرا في تشكيل الوعي المجتمعي العام، سالفا وحاضرا ومستقبلا: المرأة والطفل.
نبهني بعض ذوي الاختصاص إلى أن هناك حالة، لم يشر إليها الذكاء الاصطناعي في معرض جوابه السابق، تتعلق بوجود مدونة شخصية يهودية للأحوال الشخصية في إسرائيل لا تخضع، في أغلب تعاليمها، للقانون المدني، وتتطابق مع المدونة الإسلامية في كونهما معا، مستمدتان من الدين. مع فوارق “بسيطة” تتجلى في أن مدونة الأحوال الشخصية في إسرائيل تتميز بكونها، على الأقل، لا تفرض على الأقليات الدينية داخل مجتمعها، قانونها الخاص للأحوال الشخصية، فضلا عن كونها قطعت منذ عقود مع فكرة تطبيق النصوص المقدسة في حرفيتها، بخصوص قضايا مثل الإرث، دون أن يحتج أصوليوهم على أن ذلك يمثل خرقا واضحا لمقتضيات نصوص “قطعية الدلالة”. غير تمايزات أخرى لا يسع المجال للتدقيق فيها.
وجود مدونة للأحوال الشخصية، في سياق أزمنة سحيقة مضت، كان مبررا ومفهوما بالنظر إلى أن الإنسانية لم تكن بعد قد راكمت من المعارف والتجارب العلمية والتشريعية، ما يتيح لها إمكانية تنظيم العلاقات العامةـ وتحديد أوجه وحدود تشابكها مع النطاق الخاص بالشكل الحضاري المفترض اليوم.
كانت كل الأشكال التنظيمية المجتمعية البدائية وقتها، مستوحاة مباشرة من نوعية علاقات السلطة السائدة داخل خلية الأسرة والعائلة والقبيلة. النواة الاجتماعية الأول، التي أملت كل أشكال التنظيمات الدولتية البدائية سابقا.
وقتها، لم يكن هناك وجود للعلوم الإنسانية بمباحثها المختلفة، حيث ينصب التركيز على دراسة سيكولوجية الكائن المفرد أولا، ثم وهو في علاقة بمحيطه المباشر، ثم الأوسع، وانتهاء بعلاقته كفرد من مجموعة اجتماعية، بالدولة.
وقتها، لم يكن لمفهوم المواطن الفرد المستقل بذاته معنى. وحيث كان الفرد المفرد، مجرد حلقة تافهة في سيرورة جماعية، خارجة تماما عن إرادته وعن سيطرته.
كانت طبائع البشر وقتها بدائية، وكان الأقوى يفرض قانونه “الأسمى”.
اليوم، والإنسانية قد راكمت ما راكمته من علوم ومعارف وتجارب علمية وعملية، ما الذي يجبرنا على تحكيم تعاليم كناش قديم، شكل دستورا لأقوام مضت، ولم يصبح لها أي أثر يذكر في سياق تفاصيل حياتنا اليوم؟
اليوم لم تعد الإنسانية بحاجة لقانون إلهي للأحوال الشخصية، جامع مانع، صالح لكل زمان ومكان.. صار مدعاة للشفقة أكثر منها للاستهزاء.
النفاش الدائر اليوم حول مدونة الأسرة، في المغرب، يتراوح بين المطالبة بالإبقاء على الشريعة كمصدر وحيد للتحكم في كل تفاصيل حيوات الناس، وبين الرغبة، عن احتشام، في تحجيم بعض الآثار المدمرة لتلك الشريعة.
لا أحد فكر أو جهر باحتمال ثالث: أن تقلع الدولة مثلا، عن تقمص دور القاضي الشرعي بين الزوجين وأهلهما، حتى في أتفه تفاصيل حياتهم جميعا، وأن تسن قوانين مبدئية في قضايا الأحوال الشخصية. على أن يكون التوافق هو المحدد فيما استحدث من تفاصيل، وعلى أن يكون المرجع النهائي إن تعذر التوافق، هو القانون العام، وليس أي تشريع آخر، مستمد من زمن عفى عنه الزمن.
قد يكون للنقاشات الإصلاحية الجارية الآن جدوى، تتجلى في محاولات تحجيم بعض مظاهر المظالم التي تحفل بها المدونة إياها، إلم يكن في الإمكان التخلص منها إلى غير رجعة. غير أنها تظل محاولات توفيقية، بله تلفيقية خجولة، تؤدي في النهاية إلى تأبيد هيمنة وتحكم جهات ومؤسسات هي اليوم خارج السياق العام لأي تشريع حديث، يتغيى العدالة الاجتماعية، وفي توافق تام مع جميع المواثيق والتشريعات الكونية، باعتبارها ثمرة لسيرورة تطور شاق وعسير لمفهوم حقوق الإنسان عبر العالم.
ما الذي يجبر المواطن البسيط اليوم على التفاوض مع قوى الماضي البائدة، بشأن قضايا لا ينبغي أن تكون لها سلطة عليها اليوم؟
فيم لا يستطيع ذلك المواطن، الآخذ ولو بالنزر اليسير من التعليم، أن يسير علاقاته الشخصية مع محيطه في أدق تفاصيلها، بما لا يجعله عرضة باستمرار للاستجداء بنصائح فقيه الحي أو “ركن المفتي”، أو حتى الأزهر “الشريف”؟ ما دام قادرا على أن يستفتي ضميره بدءا؟
وحتى إن راوده الشك في قدرته الشخصية على الفصل في ما استجد من أمور حياته، فله مطلق الإمكانيات، عمليا، على أن يراجع ويمحص على رسله، في طوفان المعلومات التي ستوفرها له الشبكة العنكبوتية بعد ذلك، وأن يختار منها ما يوافق ضميره وقناعاته، دون أي حجر أو وصاية مسبقة من أي كان؟ سيما أو أن هناك من الحالات الاجتماعية والإنسانية المستجدة اليوم، ما لا قبل للطبري ولا لابن قدامة ولا لابن حنبل بها.
وحتى ولو لم يستحدث منها شيء، سيبقى ضرب المرأة، في عرف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان اليوم، اعتداء على حرمة جسد، حتى وإن تم بواسطة ألطف وأحن أنواع السواك.
وسيبقى ميراث المرأة لنصف ما يرثه صنوها، ولو كانت هي قديسة وكان صنوها مثالا للسفاهة، اعتداءا… أيا كان التبرير.
ستبقى مصالح أبناء المطلقة رهنا للامبالاة والدهم أو لرغبته في الثأر لـ”كرامته المجروحة” من أمهم “الناشزة”.
وسيبقى الكثير من المآسي الأخرى، المسكوت عنها، رهنا لمناورات “أهل الحل والعقد”.
قوى الحداثة، المتقاعسة والمتخاذلة عن المطالبة بالخروج من منطق الخصوصية المتوحشة إلى رحاب الكونية، تسهم عن قصد أو عن غير قصد، في استدامة التخلف والظلم الاجتماعيين، وتأبيد وصاية دولة الفقهاء على الدولة الحديثة، حين تنافق وتغازل النوازع الدينية العاطفية لأغلبية مخاطبيها، اتقاء لرد فعل هؤلاء، أو لمضايقات المؤسسات الدينية المتكلسة وممثليها، أو بعض من يضطلعون بمهمات رسمية حتى.
حذف المدونة الحالية مطلب مشروع تماما، وعلى هذه القوى أن تراجع أولوياتها، وأن تعي بأن معركتها الحقيقية تتجلى في تجفيف منابع الظلم الاجتماعي والاقتصادي الجاثية على تشريعاتنا، عوض محاولات تحجيم بعض آثارها المدمرة، كلما صكت آهات الضحايا مسامعهم، أو دُعوا للمساهمة في محاولة إنعاش جسد متهالك، كان الأولى بهم الدعوة إلى تأبينه إلى مثواه الأخير.