سعيد بنكراد: الذكاء الاصطناعي ووَهمُ الشّعرِ
كمَا أنَّ اَللَّه قَادِرٌ على خَلْق كُلِّ شَيْء عدَا قُدرَتَه على خَلْق خَالِقٍ يُضاهِيه فِي الخَلْقِ، فَإِنّ الذكاء الاصطناعي يُمْكِن أنْ يُبْدِع كُلَّ شَيْءٍ عدَا العبْقريَّةَ، فَهِي لَيسَت صِفةً مِن صِفَاتِ الآلَة، بل هِي مَلكَةٌ مِن ملكاتِ الإنْسانِ وحْدَه.
يُعتبرُ الذَّكَاءُ الاصْطناعيُّ آليّةً تواصليّةً جَديدةً تَهدفُ إلى محاكاةِ الذّكاءِ الإنْسانِيِّ، يَستَنِدُ في ذلك إلى خوارزميات يَتمُّ تَطبيقُها في الفَضاءِ المعلوماتيّ. إنّه سلسلةٌ مِن عمليَّاتِ البرْمجةِ التي تَتمكّنُ من خلالها الآلَاتُ مِن القيَام بِمهامَ كثيرةٍ كَانَت تُوكَلُ قديماً إلى الإنْسانِ. يَشمَلُ ذَلِك سِجِلَّ الحركاتِ البسيطةِ التِي نَسْتعْملُهَا اليوْم بِشَكل آليٍّ فِي المنزلِ والسَّيَّارةِ والهاتفِ المحْمولِ وآلاتِ التحكّمِ عن بُعدٍ، أو نَستعملُها في أنْشطةٍ مُركّبةٍ تَقتَضِي بَرمجَةً عَالِيةَ الدقّةِ تَقُودُ إِلى صِياغةِ نُصُوصٍ اسْتنادًا إِلى كمٍّ هَائِلٍ مِن المعْطياتِ هِي التِي تُغَذّيهَا وتتحَكَّمُ فِي تَنوِيعِ “سياقاتِ” تحقّقِها؛ فذاك هو الشَّرْطُ الضَّروريُّ لِلْحدِيثِ عن كِيَانٍ قَابِلٍ لِلْعزْلِ، كمَا هُو الحالُ مع النّصُوصِ الأدَبيّةِ.
ويُمثِّلُ الشَّات جبت [1] chatgp، في هذا السِياقِ، أرقَى النّماذج في تاريخِ الكتابَةِ القائمةِ على تَدبيرٍ افتراضيٍّ للخبرةِ الإنسانيّةِ. إنّه أداةٌ جديدةٌ في التّبادلِ الآليِّ مبنيّةٌ على وجودِ مصادرَ متنوعةٍ منها يَستمِدُّ أجوبتَهَ ورُدودَه. لذلك، كانتِ اللّغةُ هي المادَّةَ المعْتمدَةَ عنده من أجلِ خلقِ حالةِ حوارٍ تفاعليٍّ بينه وبين مستعمِلِ الآلَةِ شبيهٍ بالحوارِ الواقعيِّ. إنّ اللّغةَ تَحضرُ فيه بِاعْتبارهَا مجموعةً من الـمَفاهِيم المعزُولةِ، أو بِاعْتبارهَا سِياقَاتٍ مُسْتنْبتَةً بشكلٍ اصطناعيٍّ في ذَاكِرةٍ جَدِيدَةٍ هِي ذَاكِرةُ الحاسوب. يتعلّقُ الأمرُ “بنَماذِجَ” مُوَجّهَةٍ إلى توْلِيدِ نُصُوصٍ مَخْصوصةٍ. إنّه بذلك قادرٌ على توليدِ مضامينَ تتميّزُ بقدرٍ من التّماسُكِ والانسجامِ.
إنّ طاقتَه التّوليديّةَ والحواريّةَ كبيرةٌ جداً، فهو لا يَكتفي بالإجابَةِ عن أسئلةٍ تخُصّ راهناً أو ماضياً، بل يَستطيعُ أنْ يُحلّلَ ويتوقّعَ ما يُمكنُ أنْ يَحدُثَ استقبالاً. إنّه يتوفّرُ على نماذجَ جاهزةٍ مُتولّدةٍ عما يَتمّ تخزينُه في ذاكرةِ الآلةِ. وتتبلورُ هذِه النَّماذجُ استناداً إلى وجودِ مَتْنٍ عريضٍ مِن النُّصوصِ القبليّة تَتَضمَّنُ مفاهيمَ وصيغاً تعبيريّةً وصوراً بلاغيّةً جَاهِزة ومبادئَ ترْكيبيَّةً، ورُبمَا يتضمّنُ أيضاً بَعْض البناءاتِ النَّصِّيَّةِ الجاهزةِ (مَا يُطلَق عليهِ “المركّباتُ المسكوكةُ”). وتُعدُّ هَذِه البرْمجةُ الأسَاسَ الذِي يَعتمِدُه الذَّكَاءُ الاصْطناعيُّ مِن أَجْل تَقدِيم نَماذِجَ جَاهِزةٍ في الكتابةِ يُمْكِن أنْ يَستعِينَ بِهَا المستعملُ مِن أَجْل بناءِ قصائدَ لا تُنْسبُ إلى الشّاعرِ، بل إلى صوتٍ افتراضيٍّ قابلٍ لكلّ أشكالِ التّماهي. بذلك، لا يَكتبُ في حقيَقةِ الأمرِ شِعراً، إنّه يُرتّبُ الكلماتِ وَفق ما تَقتضيه رغباتُ “السائلِ”، إنّه يُلْغي بذلك الشّعرَ والشّاعرَ في الوقتِ ذاتِه.
عند هذه النّقطةِ، يتوقّفُ كلُّ شيءٍ. فقدرتُه التخزينيّةُ الهائلةُ هي ما يؤكّدُ في الوقتِ ذاتهِ محدوديّتَه من حيثُ القدرةُ الإبداعيّةُ، ومن حيثُ خصوصيّةُ فعلِ الإبداعِ اللّغويِّ ذاتِه. فهو في الأصلِ موجودٌ خارجَ “التّجربةِّ الشّعريّةِ”، فالذّاتُ القائلةُ في الشّعرِ لا تَكتَفي بصياغةِ حدودِ الانفعالِ في اللّغة، إنّها “تَعيشُه” ضمن “لحظةِ حالٍ” هي جوهرُ الشّعرِ وعَصبُه.
إنّ “الجهازَ التِّقْنيَّ” لا يُمكنُ أنْ يَقولُ كُلَّ شَيْء عن حالاتِ النفْسِ، فهو عَاجِزٌ عن وَضْعِ الانْفعالِ فِي كَلِماتٍ تَلِجُ الحاسوبَ محمَّلةً بكلِّ طاقاتِهَا الدَّلاليَّةِ. فِي جميعِ حالاتِ الحوارِ الافتراضيِّ أو حالاتِ تَوليدِ نُصوصٍ في الشّعرِ أو القصّةِ، سَتظَلُّ الانْفعالاتُ والأهْواءُ والرَّغباتُ والأحْلامُ خَارِج مُمكنَاتِ الخوارِزْمياتِ، وخارِج قُدْرتِهَا على صِياغةِ “كَلَامٍ” بِكْرٍ يُحيلُ على حُزْنٍ حَقيقِيٍّ أو فرحٍ حَقيقِيٍّ. فهذه الانفعالاتُ تكونُ، فِي سِيَاق الافْتراضيِّ دائماً، مُعدّلَةً ومُصفاةً ومُمَعْيرةً. إِنَّ البرْمجةَ تَنْزعُ عَنهَا كُلَّ مَا يُخصِّصُ ويُحيلُ على ذَاتِيّةٍ مُتميِّزةٍ، إنّها ليستْ سوى محاكاةٍ مُصطنعةٍ لما سبَقَ أنْ تسلّلَ إلى الكلماتِ من تجربةٍ حقيقيّةٍ. إنّ المسافةَ بين الكلِمةِ وما تُسميهِ قصيرةٌ في الحاجة النّفعيّةِ، أما في الشّعرِ فممتدةٌ في الكَلمةِ ذاتِها.
إِنَّ شَكْلَ البنَاءِ هذَا وأسُسَه وَطَبيعَةَ اِشتِغالِ عَناصِر تَكوّنِه هُمَا مَا يُشكِّكُ مُنْذ البدايةِ فِي إِمْكانيَّةِ بِنَاءِ نُصُوصٍ إبداعيّةٍ تُضَاهِي تِلْك التِي يُمْكِن أنْ يُنْتجَهَا كَائِنٌ كان يُسمَّى قديمًا شاعرًا أو رِوائيًّا. ذَلِك أنَّ الحاسوبَ يَضعُ بيْننَا وبيْن وَاقعِنا شاشاتٍ هِي التِي تَقُوم بِغرْبلَةِ انْفعالاتِنا، إنّها تَتَصرَّفُ فِي مُجمَلِ أهْوائِنا التِي تَتَأبَّى في الغالبِ على النَّمْذجةِ والتّمثيلِ الكلّيِّ. إنّ النُّقْصانَ سِمةٌ رئيسةٌ في السُّلوكِ الإنْسانيِّ، مَا يُصنَّفُ ضِمْن التَّرَدُّدِ والحيْرةِ والشَّكِّ والقَلقِ، أيْ ضمن كُلِّ مَا يُمْكِن أنْ يُحيلَ على اللّامُتوقّع والتكهّنِ بكلّ أشكالِ تحقُقِه. إنّ الحاسوبَ قطعيٌّ في أحكامِه، إنّه لا يُنَسّبُ القولَ أو يُنوِّعُ من شكلِ حُضورِ قائلِه. أمّا الشّعرُ فرؤيا، إنّه ليس معنيّاً بالأحكامِ، إنّه “جوابٌ عن الكينونةِ”(هايدغر). بذلك، يَتحدّثُ عن زمنيّةٍ أخرى غير تلكَ التي تُعاشُ في المألوفِ، إنّه أَرحَبُ وأوْسعُ مِن مُمكنَات الاحْتمالِ الافْتراضيِّ.
إنَّ ضَيَاعَ “الكُتلةِ” الانْفعاليَّةِ وانتشارَها فِي دَوالِيبِ الافْتراضيِّ، يُعدّانِ دلالةً على اِنْفصالِنا عَمَّا يُشكِّل هَذِه الانْفعالاتِ ذاتِهَا. فالخزّانُ الآليُّ يَضعُ للتّداولِ “كمّاً” هائلاً من الانفعالاتِ الجاهِزَةِ، إنَّه يَضعُها للتّسويقِ والاستعمالاتِ العامّةِ خارجَ حالاتٍ مخصوصةٍ للتلفّظِ. إنّنا نَعيشُ الانفعالَ داخلَ فضاءٍ مُغلقٍ؛ فلا أفُقَ له سوى نفسِه. إنّ الخصوصيّةَ فيه ليستْ في النّفسِ التي تَنفَعِلُ، إنّها مودعةٌ في الانفعالِ ذاتهِ باعتبارهِ كمّياتٍ قابلةً للقياسِ في وَضعياتٍ تُستَثارُ في الذّاكِرةِ الافتراضيّةِ.
إِنَّ الكَلماتِ فِي البرْمجةِ مَحدُودةٌ رغم وفْرتِها، مثلما أنّ السِّياقاتِ مَوجُودةٌ أيضاً. لكنّها لا يُمكنُ أنْ تُوجدَ إلا في ما يُشكِّلُ ذاكرةً لا تَتَصرَّفُ إِلَّا فِي مَا هُو مُمْكِنٌ فِي عُموم تَجْربتِها. إِنَّ سِياقَاتِ الحاسوب لا تُعدُّ ولا تُحصى، أمّا سياقاتُ التّجربةِ الفرديّة فمحدودةٌ، وذاك ما يُشكِّلُ أصالتَها. إنّها لا تُدْرَكُ اسْتنادًا إِلى ترابطاتٍ لَفظِيةٍ قَارَّةٍ، بل اسْتنادًا إِلى خِبْرَةٍ حَيَّةٍ يأْويهَا حَدسٌ شِعْريٌّ مخصوصٌ. وَهُو مَا يَعنِي أنَّ الشّعر يُولَدُ ضِمْن خِبْرَةٍ إِنْسانيَّةٍ “حَقيقِيّةٍ” تَتَبلوَرُ ضِمْن مُمكنَاتِ شَرْطِ الإنْسانِ فِي الأرْضِ، يَتَعلَّق الأمْرُ بِاسْتثارةِ أَهوَاءٍ هِي مِن صُلْب الاسْتعْمالِ الفرْدِيِّ لِلُّغةِ. إنّ الشّاعرَ يَنفخُ في الكلماتِ من روحِه لتُصبحَ قادرةً على استيعابِ الشّوقِ والتّوقِ والحيرةِ والتمزُّقِ داخلَه.
لذلك، لا تُنتحُ البرمجةُ المسبقةُ شعراً، كما أنّ الأفْكارَ لا تَصنَعُ شاعرًا، إِنَّ الشّاعرَ يُروِّضُ الكلماتِ ويُجبِرُها على التَّخَلِّي عن معانِيها المأْلوفةِ، إنّه يَدفعُها إلى التخلُّصِ مِن حَقائِق الأشْياءِ فِي الطَّبيعة لِيُسرِّب إِليْهَا حَقائِق تَختَفِي فِي الظِّلَال الحسِّيَّة ِكما يلتقطُها وجدانُ المتلقِّي. فهذا يَبحَثُ فِيهَا عن علاقَاتٍ قد يُنْكرهَا العقْلُ. لكِنّ الوجْدانَ يرى فِيهَا مَأوىً وملجأً وروحاً جديدةً تَحمِي الذّاتَ مِن صُرُوفِ الدَّهْر وعادياتِه. وَكمَا أنَّ اَللَّه قَادِرٌ على خَلْق كُلِّ شَيْء عدَا قُدرَتَه على خَلْق خَالِقٍ يُضاهِيه فِي الخَلْقِ، فَإِنّ الذَّكَاءَ الاصْطناعيَّ يُمْكِن أنْ يُبْدِع كُلَّ شَيْءٍ عدَا العبْقريَّةَ فَهِي لَيسَت صِفةً مِن صِفَاتِ الآلَة، بل هِي مَلكَةٌ مِن ملكاتِ الإنْسانِ وحْدَه.
لِذَلك، لا يُمْكِن “لِلشِّعْر الافْتراضيِّ” أنْ يَكُونَ سِوى “مُحاكَاةٍ” مزيّفةٍ لِشعرٍ حَقيقِيٍّ، مثلما أنّ “الزّمنَ محاكاةٌ مشوهةٌ للخُلودِ”[2]: إنّه الانْطلاقُ مِن عددٍ هَائِل مِن النَّماذج الشّعريَّةِ السَّابقةِ مِن أَجْل إِنتَاجِ مِئَاتِ القصائدِ بِنقْرةٍ فأْرةٍ. يَتَعلَّق الأمْرُ بــــِ”روبوتات” شِعْريَّةٍ لا تَختَلِفُ عن الرُّوبوتات الموجَّهةِ لِلْقيَام بِالـمهامِّ المنْزليَّة. إِنَّها لا تُبْدِع إِلَّا مَا سبقَ أن تعلَّمَتْه مِن النَّماذج التِي تُغذِّيها. وعلى عكس الشّاعرِ الذي يجب أنْ يَنسى ليَكتُبَ شعراً، فإنّ الحاسوبُ مجبرٌ على التذكّرِ دائماً. لذلك، كان الشّعرُ إِبْدَاعاً لصُوَرٍ جديدَةٍ، إنّه اسْتعْمالٌ لِكلمَاتٍ بِطريقةٍ خَاصَّةٍ هِي أَصْلُ الشّعرِ، إنَّه يَتَعامَل مع اللّغةِ خَارِج طاقاتهَا التَّعْيينيَّة، إنّه يفرضُ عليها التخلّصَ مما لَحِقَها من مَراجِعَ لا شيءَ يفصلُ بينها وبين الخبرةِ. إِنَّ الكلماتِ تَحضُر فِي النُّصوصِ مِن خِلَال بُعْدِها الرمْزِي فِي المقَام الْأَول.
حِينهَا، لا نَقُومُ ونحْن نَقرَأُ الشّعرَ سِوى بِاسْتعارةِ اِنْفعالاتٍ من بْلازْما باردَةٍ لا صِلَةَ لَهَا بِتجْربتِنا كما يُمكنُ أنْ تُعاشَ ضمنَ شرطٍ إنسانيٍّ مخصوصٍ هو وحدَه ما يُحدّدُ عمقَ الانفعالِ وخصوبَتَه. ذلك أنَّ نَصيبَ الغامضِ والملتبسِ والـمُشوَّشِ كبيرٌ فِي شَكْل حُضُورِ الإنْسانِ فِي الحياةِ.
إِنَّ الذِّهْنَ البشَريَّ يَغتَنِي بِمَا لا يعرفُ وبما لا يَستطيعُ توقُّعَه، أو بِمَا يَتحرّكُ خارج النّفعيِّ والمألوفِ في تَفاصيل ِمعيشِه. إنّ سيروراتِ إدراكِ الإنسانِ لعالـمِه لا تَستنِدُ دائماً إلى عقلٍ لا يَسهو، إنَّ المخيّلةَ فيها، “قادرةٌ على إنْتاجِ صورٍ بلاغيّةٍ قد لا يَستقيمُ العقلُ دون وجودِها”[3].
وَهُو مَا يَعنِي أنَّ قِيمةَ الموْضوعِ الشّعريِّ مُسْتمدَّةٌ، فِي جُزْء كبير مِنهَا، مِن القُدرةِ على خَلْقِ سِياقَاتٍ مُسْتقِلَّةٍ تَتَمتَّعُ بِالوحْدةِ والانْسجامِ فِي البنَاء وتنوِيع الآثَار المعْنويَّة وَفِي التَّلَقِّي أَيْضا. إِنَّ “الغايةَ الفنيَّةَ” هِي مَصدَرُ الإبْداعِ وبؤْرَتُه القُصْوى، ولن تَكُون الإحالاتُ على عَالَمٍ طَبيعِيٍّ مَألُوفٍ فِي العيْنِ سِوى تجلِّيَات مُمْكِنة لِطاقاتِ الإبْداعِ. إِنَّها إِحالةٌ على كُلِّ مُمكنَاتِ اللَّحْظةِ الموْصوفةِ الممتدّةِ في النّفسِ الحاسّةِ لا في خزّانِ الكلماتِ. إنّ العبقريّةَ تُقالُ بالمفرَدِ المطلَقِ، لا بتعدّدِ الأصواتِ وكثرتِها. إنّ ” الأنا” في الشّعر مطلقةٌ، إنّها واحدةٌ في ذاتِها من حيثُ هي السّبيلُ إلى انصهارِ الواحدِ في الواحدِ، إنّها الذّهابُ إلى الأشياءِ، كما هي خارجَ كلِّ توسّطٍ. أمّا في الحاسوبِ، فهي جماعُ كلّ أنواتِ النّصوصِ السّابقةِ. إنّ الحاسوبَ يُحَاكِي الحيَاة، لِأَنّه مَحكُومٌ بِمعْطياتهَا، أمّا “أنا” الشّعرِ، فلا تُحاكي سوى نفسِها.
وهذا معناه أنّ “حُريَّةَ ” الفَنِّ ” ُقَيدَةٌ”، على خِلَاف مَا يَحدُث فِي الحدِيثِ اليوْميِّ، أو فِي مُمكنَاتِ السِّياقاتِ كمَا يَتِمُّ تخْزينُها فِي الحاسوبِ. فالحدِيثُ سَجيَّةٌ عِنْد الإنْسانِ، والسِّياقاتُ فيه لا تُعدُّ ولا تُحصَى، أَمَّا الفَنُّ فبناءٌ يَسْتدْعي، فِي البدايةِ والنِّهايةِ، حسْمًا فِي الإثْبات وحسْمًا فِي الإقْصاء والاسْتبْعاد أَيْضاً. وبناءً عَليهِ، فَإِنّ بِنَاءَ نصٍّ مَا لا يَتِمُّ مِن خِلَال تَجمِيعٍ لِعَددٍ لا مَحدُودٍ مِن الملْفوظاتِ، أيْ مَجمُوعةٍ مِن النُّصوصِ التِي تمَّ تخْزينهَا فِي ذَاكِرةِ الحاسوبِ، بل يَتِمُّ مِن خِلَال بِنَاءِ عَالَمٍ اسْتنادًا إِلى عددٍ مَحدُودٍ مِن الملْفوظاتِ، أيْ كمَا يُمْكِن أنْ يعيشَهَا فِي الزَّمنيَّةِ الفعْليَّةِ شَاعِرٌ قَرَّر أنْ يَكتُب قصيدَةً.
هذا معناه أنّ مُمكنَاتِ الدّلالَةِ في اللّغةِ لا محدودةٌ، ولكِنّ سِياقَاتِ الشِّعْر محدودةٌ. إنّ الانفعالَ الخاصّ يحُدُّ مِن غَلْواء التَّمْثيل وهوَجِهِ. فقد يَكُونُ “البحْر” أفقاً لِكلِّ الدَّلالاتِ، ولكنَّه في القصيدةِ محاصرٌ بالقصدِ الخاصّ، إنّه لا يَتَجاوَز حُدودًا بِعيْنِهَا ضِمْن هذَا السِّيَاق النَّصِّيِّ أو ذَاك. وَذَاك هُو الفرْقُ بَيْن الخطَابِ كمَا يَتَحقَّقُ فِي الشعْرِ، وبيْن مُمكنَات النَّسقِ اللِّسانيِّ خَارِج الاسْتعْمال، أيْ كمَا يُمْكِن أنْ يُخَزِّنَه حَاسُوبٌ. إِنَّ الخطَابَ بِنَاءٌ مُستَمَدٌّ مِن ذاتٍ تَتَكلَّمُ أو تَكتبُ، أَمَّا اللِّسَانُ فمسْتوْدعٌ غُفْلٌ، إِنَّه مَوجُودٌ قَبْل الذّاتِ وخارِج سُلْطتِهَا وَسُلطَة الوقائع الإبْلاغيَّةِ.” إِنَّ القواميسَ صامتةٌ لا تَتَكلَّم” كما يقول ريكور.
هذا معناه أنّنا في الشّعرِ نَنْزاحُ بِالكلماتِ عن اِسْتعْمالاتِها المأْلوفَةِ لِكيْ تُصْبِحَ دَالَّةً على شَيْءٍ آخر غَيْر النفْعِيِّ فِيهَا. إنّها تُصبِحُ كلماتٍ لذاتِها. وذَاك هُو الفاصلُ بَيْن الضروريِّ في حياتِنا، وهو الفنُّ والشّعرُ خاصةً، وبين العرَضيِّ فيها، أيْ ما يَعودُ إلى إشباعِ حاجاتٍ لا مُتعةَ فيها. إنّ الشّعرَ لعبٌ يَستعيدُ من خلالِه الشّاعرُ والمتلقّي ما ضاعَ منهما في تفاصيلِ عيشٍ يَتميَّزُ بالروتينيّة والتّكرارِ الدائمِ، أمّا الذّكاءُ الاصطناعيُّ فيأْتمِرُ بذاكِرةٍ ليست ملكاً له. إنّه لا يَلتقِطُ جمالَ الوَردَةِ، كما يُمكنُ أنْ تَراها عينُ الشّاعر في الحديقةِ، فلا عيونَ له، إنّه في النّظْمِ يكتفي باستعادةِ ما قالَه الشّعراءُ في الحقيقةِ عنها. وهذا معناه أنّ الشّعرَ لغةٌ تتأسّس على أنقاضِ لُغةٍ أخرى[4]. إنّ وُرودَ اللّغةِ أجملُ بكثيرٍ من ورودِ الطّبيعةِ[5]. إنّ الورودَ لا تُصبِحُ دالّةً إلا عندما تَصِفُها الكلِماتُ.
وهي صيغةٌ أخرى للقولِ إنّ الكلِماتِ لا “تَتَكلَّمُ” مِن تِلقاءِ نفْسهَا، إِنَّها مَحكُومةٌ بِقَصدٍ يُوَجّههَا، وهو ما يَرسمُ لها سُبلَ التَّسَلُّلِ إِلى سِياقَاتٍ هِي مِن وَحْيِ المتلفِّظِ، لا من الخزّانِ اللّغويِّ السّابقِ. لِذَلك، لا تَقُومُ الاسْتعارةُ على وُجُودِ خَزَّانٍ مِن الصُّورِ الجاهزةِ، إنَّها تُولَدُ ضِمْن قصْديَّةِ التلفّظِ ووفق شروطِ مقاماتِ التّواصلِ في اللّحظةِ الآنيّةِ أو في الزّمنِ المؤجَّلِ. يتعلّقُ الأمرُ بحَصْرِ التّجربَةِ في حَدْسِ اللّحظةِ[6]، فالشّعرُ كان دائماً أو في غالبِ الأحيانِ عَودَةً بِالذّاتِ إِلى مآلِها خَارِج التَّوَسُّط المفْهوميِّ. إنّ الصُّورةَ اِنْفعالاتٌ تَستوعبُها العينُ وتَنتشِرُ في أفعالِها الممكنَةِ، أَمَّا المفْهومُ فصياغةٌ لاحقةٌ لَهَا. الأولى انفلاتٌ من قَيدِ المجرّدِ وانصِهارٌ في الحسيِّ، أمّا الثانيةُ فلا تُمسِكُ سوى بما يُعمّمُ ويُوحّدُ. لذلك، لنْ تكونَ الاستعارةُ مفهوماً، بل هي صورةٌ، إنّها تُشخّصُ الانفعالَ في كلماتٍ.
وتلْك هِي القاعدةُ الأساسيَّةُ التِي تَتَحكَّم فِي كُلِّ تَجرِبةٍ فنِّيَّةٍ. فالفنَّانُ لا يَتَميَّز بِقدْرَتِه على قَوْل كُلِّ شيْء، إنّه قادرٌ فقط على بِنَاء سِياقَات لَا تَحتَمِل كُلَّ قوْل، إِنَّه لَيْس مُقَيّدا بِنموذجٍ سَابِقٍ، كمَا هُو الشَّأْنُ مع “شَاعِرِ” الحاسوبِ. فقد يَكُون بِالإمْكان الذَّهَابُ بِالإحالاتِ إِلى أَقصَى مَا يُمْكِن أنْ يُبيحَه منطقُ الكلامِ، أو تُبيحَه مُخَيلَةٌ جَامِحةٌ تَهفُو إِلى مُعَانقَة كُلِّ السِّياقات الممْكنة، إِلَّا أنَّ ذَلِك لا يُمْكِن أنْ يَصنَع تَجرِبةً فَنيَّةً قَابِلةً لِلْعزْل. لذلك عُدَّ الفَنُّ أسْراً لِلْقوى الرَّمْزيَّة الجامحةِ ومرِّوضاً لها مِن خِلَال ضبْطهَا ضِمْن سِياقَات تمْنحُها هُويَّةً وموقِعاً فِي الوجْدانِ والتَّاريخِ. إِنَّ عَوالِم الفَنِّ أَرحَبُ وأوْسعُ مِن مُمكنَات الاحْتمالِ الافْتراضيِّ.
إنّ “الشّعر “لَعِبٌ بِالكلماتِ”، “تَزحلُقٌ فوْقهَا إِلى حدِّ التَّعب”، كمَا كان يَقُول فاليري، فالقصيدةُ لا تُخبِرنا عن طبيعةِ الأشياءِ، ولا تبلِّغُ أيّ معلومةٍ عنها، إنّ الكلماتِ تَستعيدُ في الشّعرِ طبيعتَها، إنّها في المنطلَقِ والمنتَهى كيانٌ جيء به لكيْ يكونَ بديلاً عن المرئيِّ في العينِ. لذلك كان هناك تداخلٌ دائمٌ بين السّحرِ والبيانِ والمبهَمِ والغامِضِ والملتبِسِ. وهذا لا يُشكّلُ هروباً من المعاني، بل هو التّملّصُ من الاستقرارٍ على واحدٍ منها قد يُقلِّصُ من حجمِ التّجربّةِ”[7].
“علينَا أنْ نُقيّدَ أنفسَنا بإكراهاتٍ لكيْ نُبدِعَ بحريّةٍ”[8]. هو ذا المبدأُ الأساسُ الذي يَقومُ عليه بناءُ نصوصٍ فنيّةٍ. فخارجَ هذه القُيودِ، سيُصبحُ جميعُ النّاسِ شعراءَ وقصّاصين. إنّ الفنَّ بناءٌ، إنّه لا يَنتقِي فحسب، إنّه يُقصي ويَستبعدُ أيضا، فالجمالُ ليس في الطّبيعةِ، مثلما أنّ الخلاعةَ ليست في الجسدِ العاري بل في العينِ التي تَراهُ. إنّ الجمالَ هو ما يَروقُ العينَ والوجدانَ. بذلك، يَكمُنُ في هذا البناءِ بالذّات. يتعلّقُ الأمرُ بسياقاتٍ خاصةٍ هي وحدَها القادرةُ على استيعابِ الأهواءِ الموصوفَةِ. إنّ الانتقاءَ تنظيمٌ، أي صياغَةٌ جديدةٌ للمُعطى. والفنَّ هو ما يُنظّمُ ويفصلُ ويَعزلُ ويَضعُ هذا بديلاً عن ذاك ضمنَ لُعبةِ التّقابلِ بين المواقعِ وحالاتِ النّفسِ.
لقد كان هُولْدرلين يَتَحدَّثُ عن الإنْسانِ بِاعْتباره شاعرًا قُذفَ بِه إِلى الأرْضِ، وكان يَقصِدُ بِذَلك أنَّ الإنْسان هُو الكائنُ الوحِيدُ الذِي لَم يَقبَل بِشرْطِه ككَائِنٍ طَبيعِيٍّ. لَقد تَصرَّف فِي مَا يأْتيه مِن الطَّبيعَةِ، وحَوّلَ كُلَّ مَا فِيهَا إِلى رُموزٍ. لَقد سَمّى آدمُ الأشْياءَ والكائناتِ كُلَّها، أمّا الشَّاعرُ فَنوَّع مِن حُضورِهَا فِي العالم، إِنَّه لَم يَلتَقِط مَا تُدْرِكُه الأبْصارُ، بل احتفَى بِمَا يُمْكِن أن تَخلقَه العيْن مِن خِلَال نظْرتِها، فالرؤيةُ، فِي الشَّعْر خاصَّة، لا تَصِفُ الكائناتِ والأشْياءِ، بل تصفُ خزّان الانْفعالاتِ فيها وفِي العلاقاتِ التِي تَجمَعُ بيْنها.
[1] – كلمة الشات جيبت هي تركيب لكلمتي « chat » الدالة على ” لتحادث” و « GPT » الدالة على” نموذج لاستنبات لغة إسقاطية.
[2] – كانت الغنوصية ترى في الزّمنِ محاكاة مشوهةً للخلود.
[3] – Giambattista Vico فيلسوف وبلاغي إيطالي من القرن السابع عشر.
[4] – كان بول فاليري يقول : “الشعر لغة في اللّغة”.
[5] – يُقال “إنّ أزهار اللّسان لا تُشبه إلا قليلا أزهار ليني”، وليني، linné، عالم نباتات سويسري من القرن الخامس عشر.
[6] -كان غاستون باشلار يعتقد أنّ “الزّمن لا واقع له سوى في اللحظة”.
[7] -سعيد بنكراد: التأويل وتجربة المعنى”، المركز الثقافي للكتاب، بيروت 2023، ص 51
[8] -أومبيرتو إيكو : “حاشية على اسم الوردة” في “آليات الكتابة السردية”، ترجمة سعيد بنكراد، دار الحوار، اللاذقية، سورية، 2009، ص35 .