سعيد بنكراد: غارِقون في الحكايات - Marayana - مرايانا
×
×

سعيد بنكراد: غارِقون في الحكايات

إنّ حكاياتِ الفرنْسيِّين مع الضّفادِعِ معروفةٌ، وحكاياتُ الصّينيّينَ مع الأفاعي معروفةٌ أيضاً.
لكنّ حكاياتِنا مع كرْشِ الخروفِ وأمعائِه ورأسِه وحوافرِه معروفةٌ أيضاً.
تصفُ حكاياتُ الآخرينَ في تصوُّرِنا سلوكاً “همجيّاً” يَحُطُّ من قيمةِ الإنسانِ، أمّا حكاياتُنا فهي جُزءٌ من سلوكٍ غذائيٍّ “طبيعيٍّ”. والحاصِلُ، إنّ نمطَ سردِ الوقائِعِ في الحكايات هو ما يُشكِّلُ حقّاً “حدَثاً” في التّاريخِ.

إلى محمد الولي،

صوت بلاغيّ بنبر العشق

يُقَالُ إِنَّ السّردَ وحدَه يَجعلُ الإنسانَ قادراً على العيْشِ خَارِج مَدارَاتِ ذَاتِه، فهو الّذي يُـمَكِّنهُ مِن صَبِّ مُجمَلِ اِنْفعالاتِه ومواقِفِه فِي هُويَّاتٍ بَدِيلَةٍ تَتَبلْورُ ضمنَ تخييلٍ مُوجّهٍ إلى بناءِ نصٍّ مُكتَفٍ بذاتِه. وهذا ما يَجعلهُ وَسِيلَةً من أجلِ الاحْتماءِ بالذّاكرةِ ووَسِيلَةً لِمُواجَهةِ الآتِي أيْضًا. إِنَّه الذَّهَابُ إِلى الماضِي مِن أَجْل عَودَةٍ آمنةٍ إلى الحاضِرِ. إنّه بذلك يَـمْنَحُ الْحيَاةَ مَعْنى، إنّه يُعيدُ بِنَاءَ مَا وقعَ، أو مَا يُفتَرَضُ أَنَّه وقعَ، ضِمْن مُمكنَاتِ التَّخْييلِ. وبِذَلك صُنِّفَ ضِمْن “المحْتمَلِ”، فهو لا يَبحَثُ عن “حَقِيقَةٍ”، وَإِنّمَا يَتَساءَلُ عن شُرُوطِ بِنائِهَا. ذلك أنَّ اَلمحْكِيَّاتِ لَا تُحَدّثُنَا عن أشياءِ واقِعِنا، بل تُحيلُ على مَوقعِها داخلَ التَّجْربةِ الإنْسانيَّةِ، أيْ على مَعانِيهَا.

وتلكَ إشارةٌ إلى أنّنا لا نَهرَبُ إلى السّردِ من واقعٍ يَستَعْصِي على الضَّبطِ، بل نُحَاوِلُ تَصحِيحَ تَفاصيلِه، أو نَفعلُ ذلك رغبةً في التحكُّمِ في بعضِ مَصائِره، فقد لا يَتمَكَّنُ الرّوائيُّ من وقائِعهِ إِلَّا عِنْدمَا يَتَخلَّصُ مِن هَواجِسِ الواقعيّةِ داخِلَه. لِذَلك كَانَت كلُّ الشَّخْصيَّاتِ الرّوائيَّةِ، أو جُلُّها، مُسْتوْحاةً مِن مُمكنَاتِ الذّاتِ التي تَكتُبُ أو تَرْوي، أكثرَ ممّا هي مُستعارةٌ من واقعٍ فِعْليٍّ. “فالرّوايةُ، في جميعِ الحالاتِ، ليستْ بوْحاً خاصّاً يُوضَعُ على لسَانِ الرّوائيِّ، بل هي استكشافٌ للحَياةِ الإنسانيّةِ كما تُعاشُ في العالَمِ”[1]. وبذلك كانَ السَّردُ، في كلِّ تجليّاتِه، أداةَ توسُّطٍ مُثْلى بين الحياةِ والموتِ[2].

استناداً إلى ذلك، لنْ يكونَ النّشاطُ القصَصِيُّ استِنْساخاً لِواقعٍ مَحْدُودٍ، أو مجرّدَ محاكاةٍ له، إنّه، على العكسِ من ذلك، ما يَستجْلي مَكامِنَه. ذلك أنّ خطابَ السَّردِ لا يَكتَفي بإنْتاجِ مَعْنى حَوْل الحياةِ، بل يُشكِّكُ أو يُعيدُ صِياغَةَ ما ألِفَه النّاسُ من المعانيِ في حَياتِهم. وهذا ما يَجعلُ الحُدودَ واهيّةً بَيْن التَّخْييلِ والواقعِ، فالحياةُ هي التي تُحاكِي عوالمَ التّخْييلِ[3]، فنحنُ نَأتِي إلى الوُجودِ ضِمْنَ ما خُزِّنَ في الذّاكرةِ الجماعيّةِ أو ما استَبْطَنَه الفردُ في غَفلةٍ منْه. يتمُّ ذلك في غالبِ الأحيانِ من خلالِ ما يَأتي من تَمثيلٍ تخييليٍّ للوُجودِ قد لا تُصبِحُ الحياةُ مُحتمَلةً دونَ الاستِعانَةِ بعوالمِه. إنّ التّخييلَ السّرديَّ، وَفق ذلك، ليس انزِياحاً عن واقعٍ لا رادَّ لحقائِقِه، بل هو ما يُغطِّي على الكَثيرِ من أشْكالِ الخصَاصِ فِيه. فنحْن لَا نَتَعرَّف على الواقعِ بِشَكلٍ مُبَاشِرٍ، إِنَّنا نَفعَلُ ذَلِك استناداً إلى الحِكاياتِ التي تَصِفُ بعضَ مَعالمِه.

وهي صيغةٌ أخرى للقولِ إنَّ السّردَ، مَثَلُه في ذلك مثلُ كلِّ ضُروبِ الفنِّ، يدفَعُنا إلى اكتِشافِ ما أصبَحَ مألوفاً لديْنا. فالتَّخْييلُ السّرديُّ يَنطَلِقُ ممّا يقتَضيه عيشٌ يَوميٌّ هو شرْطُ بقائِنا في الأرضِ، فالإبداعُ لا يتِمُّ من عدمٍ، “ولكنّه يَذهَبُ بِنَا إِلى الـمُمْكِن، أي إلى مَا يُحْتَملُ أنْ يَقَعَ أو مَا كان من المحتملِ أنْ يكونَ، أو ما قد يَحدُثُ اِسْتقْبالاً”[4]. إنّ أصالَتَه ليستْ مستمدّةً من “غرابَةِ” العوالمِ التي يَقومُ بتَمْثيلِها، إنّها تُقاسُ بقُدرتِهِ على العوْدةِ بالذّاتِ إلى شرْطِها الواقِعيِّ، “فحتّى عندَما نخلُقُ عوالمَ مُمكنةً في التّخييلِ، فإنّنا لا نُغادِرُ أبداً الكونَ المألوفَ لديْنا”[5]. فالنّاسُ يَنْشدّونَ إلى المحكيّاتِ أكثرَ مما يَستهويهِم الخبَرُ أو المعلومةُ.

وتلك هي إواليّاتُ التّمثيلِ، فالذِّهْنُ لا يستطيعُ ابتِكارَ عوالمَ إِلَّا استناداً إلى ما يُمكنُ أن يُوَازيها فِي التَّجْربةِ الواقعيَّةِ، بِالحقيقَةِ والـمَجازِ. فالطِّفْلُ فِي سنَتيْه الأولَيَيْن لا يُحَاكِي نَماذِجَ مُجَرّدَةً، وإنّما يُعيدُ تَمثِيلَ مَا تَرَاه عَيْناهُ في جوارِه، ما كان يُسمّيه جان بياجي “المحاكاةُ المؤجلةُ“، وهي عنده لحظةٌ هامّةٌ ضِمن سُلميَّةِ “الوظيفَةِ السميائيّةِ”. وبذلكَ كانَ السّردُ جزءاً من لُعبةِ الأقنِعَةِ التي تُغطّي على ما خَفِيَ أو على ما فاضَ عن حُضورٍنا في الفضاء العموميِّ، إنّه الرّغبةُ الكرنفاليّةُ في التّنكُّر، أو هو رغبةٌ في تقمُّصِ أدوارٍ نودُّ القيامَ بها، وهو أيضاً الفاصِلُ بين الكذِبِ “الحقيقيِّ” والواقِعيِّ “المزيّفِ”. إنّه في جميعِ الحالاتِ، تَـمْثيلٌ “مشخّصٌ” لما قد تَعيشُهُ الذّاتُ في شَكلِ مَفاهيمَ صامتَةٍ.

وهي صيغةٌ أخرى للقولِ، إنّ عوالمَ التّخييلِ السّرديِّ لا تَقولُ الحقيقةَ، ولكنّها لا تَكذِبُ أيضاً. إنّها تَصِفُ حدودَ الحياةِ كما يَعيشُها النّاسُ، ولكنّها لا تكْتَرثُ لصِدْقِ الوقائِعِ أو زيْفِها. إنّ السّردَ فيها يُقدِّمُ لنا عوالمَ نَستَوطِنُها في الحُلُمِ والاستيهامِ والرّغَباتِ الغامِضَةِ. وهذا معناهُ أنّ حقائقَ التّخييلِ أشدُّ تأثيراً من حقائِقِ الواقعِ. “إنّ التّاريخَ شبيهٌ بما يَحكيهِ أوجين سو Sue [6]، أكثرَ ممّا هو شبيهٌ بما كان يَودُّ هيجل قولَه”[7]. لذلك “لم يكنِ المحكيُّ أبداً معنياً بمَقاصِدِه”[8].

إنّ الروائيَّ، وفقَ ذلك، “لا يُعيدُ الحياةَ للواقعيِّ، إنّه يَبعثُ الحياةَ في الـمُمْكِنِ”[9]. قد يُشكّلُ ذلك محاولةً للمُصالحَةِ “بين الواقعيِّ في التّاريخِ وبين اللاواقعيِّ في التّخْييلِ”[10]، أو قد يَكونُ محاولةً نَتعلَّمُ من خلالِها كيف نَكتَشِفُ بَداهاتِ وُجودِنا في مَعيشٍ قلّما يَلتفِتُ إلى البَداهِيِّ فيه. إنّ التّخييلَ، في الحالتَين معاً، يُنبِّهُنا إلى ما نَسينَاهُ أو تَناسيْناهُ أو ما لم نُدركْ وجودَه أبداً. وتلكَ إحْدَى وظائفِ السّردِ الرّئيسَةِ، إنّه يَستَعينُ بالكَثيرِ من “أكاذِيبِ الواقِعِ” من أجلِ بناءِ “حقيقَةٍ تخييليّةٍ” هي ما يَستَهوِي عامّةَ النّاسِ وخاصّتَهم. فالمحكيُّ التّخييليُّ هو سبيلُهم الوحيدُ، في الكثيرِ من الحالاتِ، للحَديثِ عن أشياءَ “حقيقيَّةٍ” أو يَعتقدونَ أنّها حقيقيّةٌ.

وذاك ما يُضاعِفُ من حجْمِ الزّمنيّةِ في الوجودِ، فالزّمنُ واحدٌ في ذاتِه، ولكنّه متعدِّدٌ في الوَعيِ الذي يُجسّدُه في الفعلِ. وتلْك هِي الرَّوابطُ، الخفِيّةُ والصَّريحةُ، بَيْن السَّرْد وبيْن شَرْط الإنْسانِ فِي الزّمنِ. فقَدَرُ الإنسانِ أنّه مُوجّهٌ إلى أمامٍ لا يتوقّفُ أبداً، إنّه وُضِعَ ضمنَ زمنيّةٍ هي جوهرُ كيْنونَتِه. لذلك لا وجودَ لمحْكيٍّ خارجَ نظامِ الزّمنِ، فدَاخلَه تُقاسُ الحالاتُ وتحوّلاتُها، وداخلَه يتِمُّ الحكمُ عليها أيضاً. إنّه بذلك طريقةٌ في استِيعابِ زمنٍ “خَارجِيٍّ” لا يُمْكِن أنْ يُصبِحَ مرئيّاً إلّا عندما يَتمُّ تشْخيصُهُ في خبرةٍ تتَّخذُ شكلَ وقائعَ ملموسَةٍ. إنّ الدازاين[11] خُلِقَ لكيْ يموتَ، وبذلك لا يَستطيعُ ردَّ قضاءِ الرّاهنِ والآتي، إنّه لا يَتحكّمُ في أشكالِ القَلقِ الذي يُحرِّكُه إلّا بالانغِماسِ في سرديّاتِ وجودِه، إنّها وحدَها تملِكُ القدرةَ على ترْويضِ زمنٍ لا يَستطيعُ خلاصاً منه. إنّ السّردَ، على غرارِ كُلِّ العلاماتِ، أداةُ توسُّطٍ بين الذّاتِ وعالـمِها.

وبذلك كان السّردُ احتفاءً بالزّمنِ. إِنّه “يُدْرِجُ سلوكَ النّاسِ ضِمْن زَمَنيَّةٍ هِي الشَّاهدُ الوحِيدُ على وُجُودِ تجربةٍ إِنْسانيَّةٍ قَابِلةٍ لِلتَّبْليغ”[12]. وقد يَكونُ هذا هو مَصدرَ التّداخُلِ بين أنماطِ السّردِ المتنوِّعةِ: ما يَأتي من الرّواياتِ والنّوادرِ والمسرحِ، وما يَأتي منَ التّاريخِ والسيَرِ الذاتيّةِ والغيريّةِ، وما يُودعُ في المثَلِ السَّائر والحِكَمِ والـمُزْحةِ العابِرةِ. إنّه إحْدَى تجليّاتِ الكيْنونَةِ، “فتَشكُّلُها تَزامَنَ مع تَشكُّلِ المعنَى”[13]، والمعنَى تَنظيمٌ وترتيبٌ وفصلٌ بين السّابقِ واللّاحقِ في الوقائِعِ. فعلَى “هوامِشِ “الزّمنيّةِ الموضوعيّةِ”، أو ضدّاً عليها، تَطَوَّرتْ زمنيّاتٌ أخرى تمكّنَ من خلالِها الإنسانُ من استِعادةِ ما نَسيَهُ وما سُلبِ منه أو ما ضَاعَ في تَفاصيلِ المعيشِ اليوميِّ، أو ما صادَرتْه السّلطةُ”[14].

———

ومعَ ذلكَ، لن تكونَ الحكاياتُ شرطاً لتَعميمِ مَضامينَ تُوحِّدُ بين النّاسِ، فالمضامينُ من طبيعةٍ ثقافيّةٍ. إنّها تُولدُ ضِمنَ سيَاقاتِ العيْشِ وضمنَ سياقاتِ الدّينِ والإيدْيولوجيا والكثيرِ من مُخلّفاتِ العِرْقِ والمذهَبِ كما تسرّبتْ إلى المِخْيالِ الفرديِّ والجماعيِّ. إنّ الحكاياتِ أشكالٌ حاضِنَةٌ للمَضامينِ فقط. ذلك أنّ الوجودَ الحقيقيَّ لِهَذه المضامينِ مُودَعٌ فِي إِمكَان تَحَقُّقهَا ضِمْنَ وضعيّاتٍ إنسانيّةٍ مخصوصَةٍ، لا فِي طَابعِها الـمُجرّدِ. إنّ حكاياتِ الفرنْسيِّين مع الضّفادِعِ معروفةٌ، وحكاياتُ الصّينيّينَ مع الأفاعي معروفةٌ أيضاً. ولكنّ حكاياتِنا مع كرْشِ الخروفِ وأمعائِه ورأسِه وحوافرِه معروفةٌ أيضاً. تصفُ حكاياتُ الآخرينَ في تصوُّرِنا سلوكاً “همجيّاً” يَحُطُّ من قيمةِ الإنسانِ، أمّا حكاياتُنا فهي جُزءٌ من سلوكٍ غذائيٍّ “طبيعيٍّ”. والحاصِلُ، إنّ نمطَ سردِ الوقائِعِ في الحكاياتِ هو ما يُشكِّلُ حقّاً “حدَثاً” في التّاريخِ.

وهي صيغةٌ أخرى للقولِ، إنّ السّردَ هو مَا يُمَكِّن النّاسَ من التَّصَرُّفِ فِي الزَّمنِ لكي يُصبِحَ حاضنًا لِتجْرِبةٍ تُقَاسُ على دَفْقِه وانْتشاره فِي لَحَظاتٍ دَالَّةٍ على التَّقَدُّمِ والنُّكوصِ، أو تكونُ دالّةً على التّيْهِ والضّياعُ أيضاً. إنّه وَسيلتُهم فِي تَعمِيم مَا يَعيشُه الفرْدُ وحدَه، ولكنّهُ يحْتَفي بِه ضِمْن مَا بلْورَتْه الجَماعةُ. فنحنُ نحيا فِي الأرْض قِصَّةً وَاحِدةً: قِصَّةَ الحُبِّ والحِقدِ والكراهيّةِ، والـمودَّةِ والرَّحْمةِ، وقِصَّةَ النِّضَالِ مِن أَجْل العزّةِ والعيْشِ الكرِيمِ وَالدّفاعِ عن وحْدَة الأوْطانِ أو العمَلِ على تَـمْزيقِها، وهي أيضاً قصّةُ الكثيرِ مِن المعاركِ الصَّغيرةِ التي تُعدُّ جميعُهَا غطاءً لعُمُرِنا الحقيقيِّ أو الافْتراضيِّ. إِنَّنا نَعيشُ هَذِه القصصَ فِي لُغَاتِنا، وفِي شِعْرنا وَنَثرنا وَفِي منْتجاتِنا اليَدويَّةِ وفي دِيكورِنا، وفي تَدبيرِ شُؤونِ السّفرِ وبرامجِ القُبلةِ وإعْداد الوجَباتِ، وهي أيضاً طَريقتُنا في استِقبالِ الضّيفِ وفي تنظيم طُقوسِنا الاجتماعيّةِ.

ليْس غريبًا أن يَسْعَى الرُّومانْسيُّونَ الأوائلُ إِلى البحْثِ عن الأُصولِ الأُولى لِمحْكيَّات النَّاسِ، أيْ البحْثِ عن الحكايةِ الأُولى التِي تَفرّعَتْ عَنهَا كُلُّ حكاياتِ الكونِ. إِنَّها الرَّغْبةُ ذَاتُها التِي دَفعَت بَعضَ اللِّسانيِّين إِلى البحْث عن لِسَانٍ أَصْل مِنْه اِشْتُقَّتْ كُلٌّ الألسنةِ[15]. يتعلّقُ الأمرُ في الحالتينِ معاً بسبيلٍ نحو العودَةِ إلى الواحدِ المطلقِ. أو هو التّوقُ الدّفينُ الذي يدفعُ النّاسَ إلى استِكشافِ لحظةِ الخلْقِ الأولىَ. إنّ وَضْعُ اليَدِ على الأصْل هو وَضْع اليَد على الشَّكْل الأوَّل للْمعنى. يَجِب أن نَدفَع بِالتَّجْريد إِلى حُدوده القُصوى لِكيْ نُمْسِكَ بِمَا يُوحِّدُ بَيْن النَّاسِ في الزّمنِ الكُلّيِّ، مَا يُوحي بِوجودِ نُقطَةٍ لا شيء بعدها، إنّها سِدرةُ المنتَهى حيثُ جنةُ النّعيمِ أو جَحيمُ المأوى، فتلك هي بؤرةٌ الحياةِ ومنْشَؤُها ومنْتَهاها. فهذه النّقطةُ وحدَها يُمكن أنْ تُحافظُ على التّوازنَ عبر إسقاطِ حالاتٍ للبدْء والنِّهايةِ داخلَ زَمَنيَّة لا تَتَوقَّف أبداً.

وهي صيغةٌ أخرى للقولِ، إنّنا نَبنِي من خلالِ شرْطنا السّرديِ هذا قَصصاً ترسُمُ لَنَا مَوقعاً فِي التّاريخ الاجْتماعيِّ والدِّينيِّ والسِّياسيِّ. يتعلّقُ الأمرُ بجُزْءٍ مِن هُويَّةٍ تَتَحقَّقُ بالجمْعِ والْمفْردِ في التّاريخِ، وهي الواصِلُ والفاصلُ بَيْن المحَلِّيِّ والكوْنيِّ. إنّ قصَّةَ الإنْسانِ في الأرْضِ واحدةٌ، ولكنّ بداياتِها مُحدّدةٌ في المعتَقَدِ والمذهبِ والإيديولوجيا وأوهامِ “العِرقِ” أيضاً. وقد تُشكّلُ هذه النّزعةُ أقصى درجاتِ العُزلةِ في الوُجودِ (يُسارعُ البعضُ اليومَ إلى الاحتِفاءِ بــحكايةِ “أصلِنا” في هذهِ الأرض، أي بعِرقنِا السّامي الذي يُميّزنا عن غيرِنا، فنحنُ الشّكلُ الأوّليُّ للحياةِ الإنسانيّةِ في الكونِ). وتلك هي روحُ كُلِّ المعتقداتِ، لَقد أصرَّ الإنسانُ فيها على أنْ يَجِد لَه بِدايةً فِي الكوْنِ، لقد كانتْ قصّةُ الخلقِ عنده بحثاً عن أبٍ كُلِّيٍّ هو حاصلُ خرقٍ لـمحظورٍ استنادا إليه وُلِدَت محكيّاتُنا في الأرضِ. إنّها الرغبةُ في الإمْساكِ بالأصلِ فيهِ، وهي الرّغبَةُ في قتْلِه أيضاً.

وهذا معناه أنَّ القصّةَ هي عصَبُ الوُجودِ، إنّها ما يُحدِّدُ كينونةَ الإنسانِ وكينونَةَ الأشياءِ التي تُحيطُ به. يتعلَّقُ الأمرُ بتوزيعٍ ثُلاثيٍّ يُحدِّدُ ماهيّةَ السّردِ وأنماطَ صياغةِ مادّتِه وما يُحَدّدُ آثارهُ في النّفسِ أيضاً، ما يَشمَلُ الوقائِعَ الغُفلَ وما يَعودُ إلى تَشْخيصِها وما يَرصُدُ وقْعَها في وعْيِ المتلقّي. فنحْن لا نُبرْمِجُ حَيَاتنَا فِي القَصَصِ، إنّنَا نُولَد داخِلهَا، فهِي مَادَّة تَشَكُّلِنَا ضمنَ النّسِيجِ الاجْتماعيِّ، وَهِي هُويَّتُنَا فِي عَيْن الآخر أيضاً. فنحنُ لا نُدركُ مضمونَ الأشياءِ إلا حين نتخلّصُ من حُضورِها المباشرِ في العيْنِ. وَذَاك هُو الحَدُّ الفاصل بَيْن مرْجعيَّتِهَا في الواقعِ وبيْن مَعْنَاها فِي الذِّهْن. الأولى مَحدُودٌةٌ فِي الوعْي الـمُدْرِك، أَمَّا الثَّاني فَمُمتَدٌّ فِي اِسْتعْمالاتهَا المجازيَّة.

لذلك كان سرْدُ الحكاياتِ وثيقَ الصِّلَةِ بما توفّره الحياةُ الثّقافيّةُ ومرتبطاً باستِعداداتِنا الفطريّةِ في رِوايةِ حكاياتٍ هي شرطٌ من شروطِ قيامِ رابطٍ اجتماعيٍّ بين النّاسِ. إنّه وسيلةٌ في تَعميمِ المعارفِ والخبراتِ، وهو طريقةٌ أيضاَ في تَصريفِ الأهْواءِ: لم يكنْ روميو وجولييت سوى صيغةٍ سرديّةٍ للحبِّ عندما يصلُ حدودَه القُصوى ويُصبِحُ هوًى ولوْعَةً ولاعِجاً. ولَم يَكُن أُوديب في الأسطورةِ سِوى اِسْتعارةٍ كُبرَى ضَمَّت فِي ثناياهَا القدَرَ والكثيرَ مِن المشاعِرِ المكْبوتَةِ نَحْو الأُمِّ بِالرَّغْبة والامتلاكِ، ونحْو الأَبِ بِالمقْتِ والإقْصاء. فمَا “تَختزِنُه التِّراجيديّاتُ الكُبرى مِن تَشوِيقٍ هُو أنَّ أبْطالهَا يتوغَّلون فِي الهاويّةِ عِوضَ أن يُفْلتوا مِن قَدَرٍ فظيعٍ، فهُم لا يمْلكوَن أَيَّة فِكْرَة عَمَّا ينْتظرهم”[16]. إنّهم يُشبهونَنا، فشرطُنا في الواقعِ ليس مختلِفاً عن شَرطِهم في التّخييلِ، فنحنُ أيضاً نُصرِّفُ َأقدارَنا في ما نَرويهِ عن أنْفُسِنا: نتخلّصُ من أهوائِنا بوضْعِها في نكاتٍ أو نوادِرَ عابرةٍ.” لذلك كانتْ حقيقتُنا أغربَ ممّا نعيشُه في واقِعنا”[17].

وتلْك هِي القُوةُ الضاربةُ للمحكيِّ، “إِنَّه يُمَكِّننَا، اِسْتنادًا إِلى طاقتِه الأسْطوريَّة، مِن إِعطَاء التَّجارب الفرْديَّة مَعْنى عامًا يتجاوزهَا”[18]. لَم يُصْبحْ عنترة العبسي شَخصِيّةً في التّاريخِ إلّا عندما تَحوَّل في التّخييلِ السّرديِّ إِلى قِصَّة كُبرى تَحكِي آلامَ كُلِّ العاشقينَ الَّذين حالَ اللَّونُ أو الفقْرُ أو الدّينِ بيْنهم وبيْن حبيباتِهم. وهذا أيضاً ما يجعلُ الطُّغَاةَ الحقيقيّين يتعرّفونَ على أَنفسِهم فِي نُصُوصٍ تَتَحدَّثُ عن طُغَاةٍ مِن صُنْع الخيالِ فيُسارعونَ إلى مصَادرتِهَا. وهذا معناه أنّ التّخييلَ السّرديَّ ” يُوحي إِليْنَا بِأنَّ الرُّؤْية التِي نُكَوِّنهَا عن العالم الواقعيِّ قد تَكُون هِي الأُخرى نَاقِصةً، تمامًا كنُقْصَان الرُّؤْيةِ التِي تمْلكهَا شخْصيَّاتُ التَّخْييل عن العالم الذِي تَتَحرَّك فِيه. وَلِهذَا السَّبب، يكْثُرُ أنْ تُصْبِح الشَّخْصيَّاتُ التَّخْييليَّةُ الكُبرى نَماذِجَ لِلشَّرْطِ الإنْسانيِّ “الواقعيِّ”[19]. فالكثيرُ من شخصيّاتِ التّخييلِ أصبَحتْ جزءاً من نظامِنا الأخلاقيِّ بالسّلبِ والإيجابِ.

وهذا معناه أنّ السّردَ هو الطريقةُ الوحيدةُ التي تُمكّنُنا من التّواصُلِ مع عوالمَ نَجهلُ عنها كلَّ شيءٍ. فكُلُّ الكائناتِ التِي خلقهَا الإنْسانُ مِن خَيالِه لم تكنْ فِي وَاقِع الأمْرِ سوى رَغَباتٍ لَم تَتَحقَّق أو تَحقّقتْ بِشَكلٍ نَاقِصٍ. إنّ ما يُروى في الحكاياتِ يَستمِدُّ مادّتَهُ من نماذِجَ حياتيّةٍ عاشَها النّاسُ بالجمعِ والمفْردِ ضِمنَ شروطٍ بعينِها. إنّ أصلَ قصّةِ الكَونِ كلّهِ ليستْ سوى مجموعِ القَصصِ التي عاشها النّاسُ فُرادَى. وهكذا، “وكمَا هُو الشَّأْن مع كلِّ الأساطير المؤسِّسةِ، فَإِنّ الدْراميَّاتِ الكبيرةَ لَيسَت نَماذِج يَجِب تقْليدُهَا، إِنَّها تُمثِّل، على العكْسِ من ذلك، اِنْزياحًا عن المعْيارِ الذي يَجِب فَهمُه وترْويضُه واسْتيعابُه ضمن الإرْث الثَّقافيِّ”[20] الخاصِّ.

———

إلى هذه السرديَّةِ المعمّمَةِ استندتْ الفينومينولوجيا القصصيّةِ عند ويلهام شاب[21]  Wilhelm Schapp. لقد كان اعتقادُهُ راسخاً في أنّ “الذّاتَ لا تَتعلَّم ولا تُدركُ العالمَ الخارجيَّ إِلَّا ضِمْن مآل، ويَـمْثُلُ هذَا اَلْمالُ أَمَامهَا ويُنظَّم بِاعْتباره محْكيًّا. إِنَّنا جُزْء مِن الكثِير مِن المحْكيَّات، فيقينُنَا الوحِيدُ هُو أنْ نُروَى. فمَا نُسَميه “مَاهِيّةً” أو ” طابعاً ” هُو ما يقومُ النَّشَاطُ الفكْرِيُّ بتَسريبِهِ إلى المحْكيَّاتِ وهو مَا يَنتزِعُه مِنهَا “[22]. نَحْن “غارقونَ فِي القَصصِ”، “فلَا وُجُود لِلْعالم خَارِجها[23]، فهي التِي تُحدِّد نمطَ حُضُورِ الكائناتِ والأشْياءِ فِي الكوْنِ. تَندَرِجُ ضِمْن ذَلِك حِكايَاتُ الدِّين والدُّنْيَا، وحكاياتُ اَلآلِهة والْأبْطال الخارقيْنِ والشّهداءِ وضَحايا العسْفِ، وحكاياتُ الشّطارِ والخبَّازين والعمَّال فِي المعامل والفلَّاحين فِي الحُقول، وحكاياتِ المرْأة فِي المطْبِخِ والطَّلبةِ فِي الجامعاتِ.

إنّ الحكاياتِ بذلك حَاضِرةٌ فِي كّلِّ مَا يُسْنِد فِكْرنا ومعْتقداتِنا وأحْلامَنا وأوهامَنا، فإذا حُرمَ النّاسُ من كلِّ ما يَرْوي شَرطَهم الدّينيِّ، تحوّلتِ العقيدةُ عندهم إلى مفاهيمَ عائمةٍ لا يُمكنُ أنْ يَستوْعبها العقلُ التّناظُريُّ. إنّ المحْكيَّاتِ وَحدَها تَجعَل الدِّينَ سلسِلةً من المواقِفِ هي ما يُجسدُه في سلوكِ النّاسِ. فالـهَرْموسيّةُ، وهي البنتُ الشّرعيّةُ للظّاهراتيّةِ، كانت دائماً تُفكِّر في المحكيِّ في علاقتِهِ بالإنسانِ، لَقد اسْتغْرقَتْ الحكايات كُلَّ شَيْء فِي حياتِه وفي محيطه. وبذلك كان النّصُّ في جميعِ أسنادِهِ “هو الوَسيطُ اللّفظيُّ بين المعيشِ الزّمنيِّ وبين الفعلِ السّرديِّ”[24].

إنّ الحكاياتِ لا تُولدُ مِن عدمٍ، هناك دائمًا فِيمَا مضى وَفِيمَا سَيأتِي وفيما يحدثُ الآن، فِي المعادِل أو النّقِيض، حِكايَاتٌ تَتَناسَلُ فِيمَا بيْنهَا. يَتَعلَّق الأمْرُ بِانْغماسٍ ذَاتِيٍّ وانْغماسٍ فِي الآخرَ وانْغماسٍ جَماعِيٍّ. إِنَّها حِكايَتي فِي ذَاتِي وحكايتي مع الآخرين، وهي المحكيّاتُ التي تَجمَعُ بين النّاسِ كلّهم فِي قِصَّة وَاحدةٍ. فنحنُ أبطالٌ منتصرونَ في قَصَصِنا وفلولٌ مهزومةٌ في قَصصٍ يَرويها الآخرونَ عنّا أو ضدّنا. وَهُو مَا يَعنِي فِي تَصوّرِ شابْ دائمًا ” أنَّ سبيلَ البحْثِ عن الواقعيِّ أو الواقعيِّ القَصِيِّ هُو اِنغِماسُ الإنْسانِ فِي القصصِ…”. إنّه “الواقعُ” الوحِيدُ الذِي تَحتَفِظ بِه الذَّاكرة. إنّ سُمْكَ المفاهيمِ لا يَكمُنُ في طابعها المجرّدِ، بل في قُدْرتِهَا على استثارةِ قَصصٍ فِي الذَّاكرةِ. فالْأشْياءُ عَابِرةٌ فِيها، ولكنّهَا ثَابِتةٌ فِي القَصَصِ التي تَصِفُها وتُحدِّدُ موقعَها في الوَعْيِ.

بل قد يكونُ التّاريخُ ذاتُه من طَبيعةٍ سرديّةٍ أيضاً، إنّه سِلسلةٌ من المحكيّاتِ هي وحدها أداةُ المؤرّخِ في وضْعِ اليدِ على مَعنى الحدَثِ وموقعِه في الذّاكِرةِ، كما تصوّرَ ذلك هايدن وايت[25]. فلا قِيمةَ لِلْوقائِعِ، في تَصوّره، قَبْل سرْدِهَا، أيْ قَبْل أنْ تُصْبِح محْكيّاً يُدينُ أو يُثمِّنُ أو يَحتَفِي بحدثٍ أو بواقعةٍ. فمَا “يَكتَشِفه المُؤرخُ لَيْس سِلْسلةً مِن الوقائعِ، بل شَكْلٌ، أي صِيغةٌ تشْخيصيَّةٌ. وتلْك هِي بُؤرَة “الحقيقَةِ” في الحدَثِ التّاريخيِّ. إنّ تارِيخَ الظُّلْم فِي الأرْض لا تُجسِّدُه مَفاهِيمَ تَصِفُ الظُّلْم، بل يُودَعُ فِي محْكيَّات تَروِي شكلَ التّفاوتاتِ بين النّاسِ فِي مَتاعِ الدّنيا. بِعبارة أُخرَى، إنّ الوقائعَ خرساءُ في ذاتِها، إنّ المؤرّخَ وحدَه قادرٌ على إنْطاقها. إنّه لا يختلقُ الحدثَ من عَدمٍ، هذا أمرٌ مؤكّدٌ، ولكنّه هو من يُسهمُ في صياغةِ مَضمونِه. وتلْك هِي الرَّوابط بَيْن “حَقائِق” قِصَّتِنَا فِي التّاريخِ وبيْن استيهاماتِنا ورغباتنا في التّخييلِ.

إنّ المؤرخَ لا يختَلفُ كثيرا عن الروائيِّ، فهو أيضاً يَضعُ الوقائعَ ضِمْن نِظَامٍ مُحدَّدٍ بِغايةٍ. وَبذَلِك كان وُجودُهَا وُجودًا نصِّيًّا خالصًا، “فالتّساؤلُ عن مضمونِ السّردِ هو التّساؤلُ عن الطّريقةِ التي نَضعُ من خلالها تجربةً يوميّةً في كلماتٍ”[26]، فاللّغةُ وحدَها تَجعلُ الحدَثَ واحداً في ذاتِهِ ومُتَنوّعاً في صياغاته. وليْس غريبًا أن يُحيل وايْتْ على الجُملَةِ الشَّهيرة لَبارث، “لا وُجُود لِلْوقائع إِلَّا فِي اللِّسَان”. لم تكنْ هذهِ الجملةُ تَنكُّراً لِلْوقائعِ أو إلْغَاءً لها، بل كانت تُؤكّدُ فَقط أنَّهَا لا يُمْكِن أن تُوجَد إِلَّا مِن خِلَال صِياغةٍ لُغَويَّةٍ بِعيْنِهَا. وتُعَدُّ هذِه الصيَاغةُ جُزْءًا مَركزِياًّ فِي تَحدِيدِ مضْمونهِا. لذلك كانَ “المحكيُّ واصِفاً وشارِحاً ومُحاجِجاً”[27]، في الوقتِ ذاتِه. فَقد تَكوُّن وَقائِع المُؤرخِ هِي غَيْرُ وَقائِع الرِّوائيِّ، ولكنَّهمَا يعْتمدان نمطًا واحدًا فِي التَّمْثيلِ. إِنَّ الحقيقةَ وَفْق ذَلِك تُبْنَى فِي طُرُق التَّمْثيل وليْس خارجهَا.

ومركزيّةُ القَصَصِ هاتِه هي التي دَفعتْ بول ريكور إلى جعْلِ الزّمنَ وثيقَ الصّلةِ بالسّردِ، فهُما فِي تَصوُّرِه مُترابطان ومركزيّانِ فِي صِياغة تَجرِبة المعِيش الإنسانيِّ فِي كُلِّ تجلِّياتهِ. إنّ ترابُطَهما هو المدْخلُ الرّئيسُ نَحْو تَحدِيدِ مَضامِين التَّجْربةِ الوجوديَّةِ فِي الأرْضِ. وذاك ما مكّنَه من بَلورَةِ صِيغةٍ جَدِيدَةٍ سيَبدُو مِن خِلالِهَا المحْكِيُّ أداةً في تَشخِيصِ التَّجْربةِ الزَّمنيَّةِ، وسيَبدُو الزّمنُ فيها مادةً رئيسةً لكلِّ المحكيّاتِ. فالحنينُ والأَملُ والرَّجاءُ والنِّداءُ والنّدمُ والتَّأسِّي والكثيرُ مِن الانْفعالات، كلُّ ذلك لنْ يُصبحَ قابلاً للإدراكِ إلّا من خلال فعلٍ سرديٍّ يُجسّدُه في سياقاتٍ هي أصلُ معناه. فذاكَ هو شَرطُ الكَشْفِ عن شَكْل العلاقةِ القائمةِ بَيْن الإنْسانِ وزَمنيّتِه الخاصَّةِ والعامَّةِ.

وشرطُ ذلك عندهُ يكمنُ في تسْريدِ التّجربَةِ الزّمنيّةِ لكي تَتّضحَ معالمُ شرْطِ الإنْسانِ في الأرضِ. فمن خلال هذا التّسريدِ “لن تكونَ دلالةُ المحكيّ شيئاً آخرَ غيرَ قُدرتِهِ على رسمِ معالمَ تجربَةٍ زمنيّةٍ”[28]. فالزَّمن مُمْكِن فِي حُدُود وُجُودِ قصّةٍ تُخْبِر عَنه، والسَّرْد لَيْس سِوى وجهٍ مشخّصٍ لكَمٍّ زَمنِيٍّ لا يُمْكِن أنْ يُصْبِحَ قابلاً لِلتَّعَقُّل إِلَّا مِن خَلالِ الحكايَةِ. وعلى هذا الأساسِ، عُدَّ السّردُ، في تَصوّرِ ريكور دائماً، رابطاً ضّروريّاً بين زمنيّةٍ داخليّةٍ هي زمنيّةُ الوعيِ، وبين زمنيّةٍ خارجيّةٍ، هي زمنيُّة الكونِ. ومن خلالِ هذا التوسُّطِ تتسلّلُ تجربةٌ تخييليّةٌ تُعادُ داخِلَها صياغُةُ حدودَ زَمنٍ إنْسانيِّ يتأرجحُ بينَ أفعالٍ تَتحقّقُ في التّاريخِ، وبينَ أخرى مصدَرُها نصوصُ التّخييلِ. وذاك هو الأسَاسُ عنده الذِي قَامَت عليْه هُويَّاتُ الأُممِ والْأفْرادِ. فــ”الهوِيةُ السَّرْديَّةُ”، عِنْد الفرْدِ والجماعةِ، هي حَاصِلُ مَا عَاشَه النَّاسُ فِعْلا فِي الحقيقَةِ ومَا عَاشُوه فِي الحُلم أو الاسْتيهامِ.

 

[1] -قولة ل ميلان كانديرا وردت في : Dominique Fernandez : L’art de raconter, éd Grasset,2006, p.13
[2] – كان كلود ليفي شتراوس يعتبر: “الأسطورة أداةً منطقيةً الغاية منها هي التوسّطُ بين الحياةِ والموتِ”، انظر: Paul Ricœur : Du texte a l’action, éd Seuil, 1986, p. 173
[3] -انظر ما يقوله أوسكار وايلد، ” فالحياة عنده هي التي تُحاكي الفن”.
[4] – Jérôme Bruner : Pourquoi nous racontons nous des histoires ? éd  retz, 2002, p. 16
[5] – Jérôme Bruner : op cit, p.82.
[6] – أوجين سو Eugène Sue روائي فرنسي من القرن التاسع عشر.
[7] -أومبيرتو إيكو: تأملات في السرد الروائي، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 2015، ص 189
[8] – Varga, A Kibedi: Discours, Récit , Image, éd Mardaga éditeur, Bruxelles,1985, p. 66
[9] – Albert Thibaudet : Réflexions sur le roman,1938, éd électronique
[10] – انظر: Paul Ricœur : Du texte a l’actionop cit, p.19
[11] – الدازاين Dasein شرط الإنسان في المعنى، أي وعي الكينونة كما قذِف بها إلى الوجودِ.
[12] -سعيد بنكراد: الهويّة السرديّة، المحكيُّ بين التّخييل والتّاريخ، المركز الثقافي للكتاب، بيروت 2022، ص 24
[13] – Paul Ricœur : Du texte a l’action op cit, p.171
[14] -سعيد بنكراد: التأويل وتجربة المعنى ، المركز الثقافي للكتاب ، بيروت 2023، ص17
[15] – Varga, A Kibedi, op cit, p.66
[16] – أومبيرتو إيكو: اعترافات روائيٍّ ناشئ ، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي للكتاب، ص 132
[17] – Jérôme  Bruner : op cit, p.47
[18] – Varga, A Kibedi: Discours, Récit , Image, op cit, p.72
[19] – أومبيرتو إيكو: اعترافات روائيٍّ ناشئ ، ص153.
[20] – Jérôme  Bruner : op cit, p.81
[21] -Wilhelm Schapp : Empêtrés dans des histoires, l’être de l’homme et des choses, éd Cerf, 1992
[22] – Varga, A Kibedi, op cit, p.73
[23] -Wilhelm Schapp : Empêtrés dans des histoires, éd Cerf, 1992
[24] – Paul Ricœur : Du texte a l’action,p.15
[25] – انظر :هايدن وايت : محتوى الشكل، الخطاب السردي والتمثيل التّاريخي، ترجمة نايف ياسين،  الطبعة الثانية 2019، وانظر أيضاً : Hayden White : L’histoire s’écrit , éd de la Sorbonne, 2017
[26] -J M Adam : Le récit ,P U F, éd que sais-je, 1984, p.9
[27] -10 J M Adam : Le récit , p.
[28] -Paul Ricœur, Temps et récit 1, éd Seuil, 1983, p.17

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *