هشام روزاق: في انتظار فرح الريف… تشابهت علينا الدولة ومعارضوها
الحقيقة… أنه في الحالة المغربية… ليس لدينا السلطة التي نستحق فقط.
لدينا السلطة التي نستحق، والمعارضة التي نستحق، وأشباه المناضلين الذين نستحق… وشبه الحلم الذي نستحق.
ولنا كل الكوابيس التي لا تستحقنا. لنا حتى التفاهة والشعبوية التي لا نستحق.
… كان المأمول اليوم، أن يكون للمغرب فرحه المكتوب بلغات الريف.
كان يمكن اليوم، أن نقول للرائعة سعيدة فكري، جبال الريف لم تعد تكذب… لم تعد تتصنع الفرح. [1]
كل شيء بدا بسيطا وممكنا للحظة.
كثيرون انتظروا أن يتم إعلان العفو عن نشطاء حراك الريف وإطلاق سراحهم، كي تستقيم لغة الفرح التي عمت البلد منذ أيام، وكي تختفي منها كل الجمل الاعتراضية التي ما عاد لوجودها معنى، غير ضرورة تأخير المبتدأ وبناء الأفعال للمجهول.
عادة… بحجم انتكاسات الفرح تكون الخيبة، وبحجم الخيبات تتحول اللغات إلى تعابير غضب وإحباط وألم. لكنني اليوم أعترف… لم أعد أستطيع للغضب سبيلا، وما عاد للإحباط عندي سبب ولا مرادف، وما عاد شيء يؤلم.
لسبب ما، صرت أنتظر الفرح بأكفان لغة قابلة للدفن.
… وصرت أنتظر العزاء في كل موعد عرس.
لسبب ما سأنتظر بكثير أمل أن نفرح كي لا يضطر الريف لتصنُّع فرحه، ولسبب ما أشعر أن وأد الحزن قريب، وأن بلدي سيفهم أخيرا، أن حالة الحزن المفتعلة، ليست لغة… هي فقط مناغاة [2] رضيع يقتفي أثر الكلام.
كغيري… أجدني اليوم مثل تعيس استقل مصعدا في ناطحة سحاب، فتعطل به المصعد… لا هو ظل في “الريدشوسي” الذي ألفه … ولا هو لامس السحاب. ظل سجين مصعد لم يخبره أنه تعطل… ولم يمنحه فرصة فتح الباب والنجاة.
في تعليقه على استثناء نشطاء حراك الريف من العفو، كتب أحد الذين اكتشفوا النضال بعد رحيل ادريس البصري واليوسفي قدور و”اللعب القاصح”: “لكل أمة، السلطة التي تستحق “…
والحقيقة… أنه في الحالة المغربية… ليس لدينا السلطة التي نستحق فقط. لدينا السلطة التي نستحق، والمعارضة التي نستحق، وأشباه المناضلين الذين نستحق… وشبه الحلم الذي نستحق. ولنا كل الكوابيس التي لا تستحقنا. لنا حتى التفاهة والشعبوية التي لا نستحق.
تأجيل، وأعني ما أقول ولو من باب الأمل، حلم معانقة نشطاء حراك الريف للحرية، ليس هو آخر أحلامنا المؤجلة…
أحلامنا المؤجلة التي يفترض أن نعيد ترتيبها، تفترض في البداية، أن نواجه أنفسنا بالكوابيس. تفترض أن تكون لنا شجاعة الاستيقاظ… كي لا تداهمنا أحلام يقظة.
علينا، قبل الحلم، أن نتقن اليقظة قبل الخلود للنوم، ولا أعتقد أننا يمكن أن ننام أو أن نحلم، أو أن ننتظر كوابيس معتدلة حتى، ونحن نراهن على باعة أحلام، لم نعد نفهم على أي سرير يعانقون هذا الوطن، وبأي غرض يفترشونه معنا.
لن نستطيع أن نحلم بمغرب حرية توزع فيه إحداهن “بطائق النضال” على أسرتها وذويها وتمنعها عن كل الآخرين، وسط تهليل الأتباع وصمتهم.
لن يكون للحلم معنى… في بلد، يزايد فيه مدعو الحرية على كل من خالفهم، ويخونون كل من لم يتفق معهم، بدعوى نبل الحرية وصفائها… وهم يرتعدون لمجرد “خطأ” نشر صورة زجاجة نبيذ. إذ السؤال هنا… أليست الحرية أصل الحكاية؟ أم أن لغات التبرير والقص والحذف التي صاحبت “زجاجة نبيذ” كشافة لكل تلك التقية التي تعني ببساطة، أن المعركة الأصل ليست من أجل الحرية، ولكنها بعض من انتماء للغات القبيلة والتجييش؟
لن يكون للحلم في بلدي سرير ونحن نتسابق للنوم على “جنب الراحة” الذي يعني أن الانتماء الإيديولوجي مرادف للقداسة والطهر، وأن نصرة “الزعيم” والقائد” أسبق من نصرة المنطق، وأن مسايرة الشعبوية والتفاهة و”التبرهيش” أسبق من مساءلة الأولويات والمعارك الحقيقية التي توجد خارج ميكروفونات البوز ووسائل التواصل الاجتماعي.
في بلدي… عطلت الدولة الكثير من أحلامنا.
في بلدي، انتصر بعض الفهم المتطرف لمعنى الدولة، في أحيان كثيرة، لمنطق كسر العظم وتأجيل الأفراح، تماما كما انتصر الجناح العاقل لمعنى المصالحة وجبر الكسر. لكن الأهم في الحكاية هنا… أننا ما دمنا غير قادرين على مواجهة أنفسنا بحقيقة القوة المفترض فيها مواجهة منطق الدولة، بمعتدليها ومتشدديها، فإننا لن نستحق حلما يشبهنا. لن نستحق غير ترادف الكوابيس.
… لن نستطيع بناء حلم بسيط، ونحن ننتصر لمدعي نضال، يرفضون منح صفة مناضل لغيرهم، ويعتبرون كل من خالفهم، عميل مخزن….( بل وصل الأمر حد اعتبار المختلفين عملاء للصهيونية).
هو في النهاية… ليس حلما جميلا، أن يكون منتهى الصبر في بلدي، أن يتحالف مدعي حرية مع حالم بالخلافة، وأن يوزعوا علينا، بعدها، صكوك انتماء وغفران لوطن من حقنا أن نبكي لعثراته كما نحتفي بانتصاراته الصغيرة.
لن نستطيع أن ننتظر حلما جميلا، ونحن نخلد للنوم بأقراص مسكنة، تركيبتها الكيميائية تقول إنها مزيج من عناصر هجينة، يلتقي فيها الحالمون بدولة دينية، يؤازرون القابضين على حلم المدنية؛ ومقاتلون من أجل حقوق المرأة، يسندون “حراس العورة”… وبعض نافذين ومستفيدين من الريع.
لن نستطيع أن ننتظر حلما… ونحن نتابع كيف انبرى بعض “عتاة النضال وحقوق الإنسان” للسخرية من قرار العفو على مزارعي الكيف في الريف. علما أن قرار العفو هذا، هو بمثابة أول الخطو نحو جبر ضرر منطقة، تألمت في صمت، واختنقت في صمت، وعاش مزارعوها الصغار رعب ورهبة ممارسة أبسط تفاصيل العيش كي لا نقول الحياة… حين كان بعضهم لا يجرؤ على افتعال كلمة نضال خارج نضال الحصول على التمويلات الضرورية لإقامة الندوات وإنجاز الدراسات…
أسوأ ما في الحكاية… أن لا تكون المعركة اليوم، مع أو ضد الفهم المتشدد لمعنى الدولة، أن لا تكون متجهة نحو مساءلة جوهر الحكم وشكل السلطة… الأسوأ، أن نكون مضطرين لمساءلة الذات عن كل هذا الحضيض الذي وصلناه، والذي بدأنا في حفره بحثا عن قاع أعمق.
نعم… لكل أمة السلطة التي تستحقها. لكننا، في بلدي، نستحق سلطة أفضل…
ونستحق معارضة أفضل…
ونستحق حلما أفضل…
ونستحق شعبوية وتفاهة أفضل.
هنيئا لمزارعي الكيف الصغار حريتهم… فهم بالنسبة لي، مرادف نضال مجالي استمر، لعقود طويلة، يواجه تواطؤات الصمت والسلطة والابتزاز. تواطؤات ترسخت على أرض الواقع منذ إصدار ظهير 1974، الذي جرم زراعة وإنتاج القنب الهندي من جهة، ليتم التغاضي، في المقابل، عن اتساع المساحات المزروعة، لتمتد منذ ذلك الوقت إلى “تاونات، العرائش، الحسيمة، تطوان، شفشاون، وزان”، وليصير للرعب… جغرافية أكبر، لن يدرك معناها أشباه مناضلين يجهلون تاريخ المنطقة… تماما كما يجهلون معنى النضال.
في الحلق … غصات كثيرة، لكن بعضها له طعم الأمل في فرح مستحق قريب. وأجمل الفرح، أن تكون فرحة الريف المقبلة، بعد هذا العفو على صغار مزارعي الكيف، الذي يمتلك كل أبجديات بدء جبر ضرر المنطقة، فرح إطلاق سراح نشطاء حراك الريف…
لكن…
في الحلق غصة أخرى…
في الحلق… غضة المزايدين على المعتقلين، والمتاجرين بألمهم، والحالمين باستمرار اعتقالهم.
في الحلق غصة… أن تجد إحداهن توزع بطائق النضال على من تهوى وتحب، وتمنعها على من لا يروقها لأنه ” أصلا ليس مناضلا أو مدافعاً عن حقوق الإنسان”… لكنها لا تتوانى عن المطالبة بإطلاق سراح “محمد زيان” الذي ارتبط فعلا بــ “النضال ضد الإنسان” في عهد الملك الراحل… وعند هذه أتوقف. إذ لا لغة بعد هذه تجدي.
سأظل في انتظار إطلاق سراح معتقلي حراك الريف، كي يشبهنا حلمنا.
وهذا… بعض من كلام.
[1] أغنية جبال الريف لسعيدة فكري: ياجبال الريف علاش تكذبي وتباني قدامي فرحانة
[2] مناغاة: إصدار الرضيع لأصوات دون معنى