مصطفى مفتاح يكتب: نكبة أخرى… أو هي أول الخطو نحو الضمير الإنساني؟
هذه الأرض التي شهدت ولادة حلقات عظيمة من حضارة الإنسان هي التي ستشهد نهوضه وسيادته وإنقاذ أمنا الأرض التي تستحق الحياة.
من الجنوب ولدت الإنسانية… من الجنوب والشرق والأطراف انبثقت وازدهرت.
ومن فلسطين ستغسل ندوب وجراح البشر والكوكب الأزرق.
كعادتنا في الارتكان والعودة إلى حياتنا الروتينية، ومهارة الأسف لما يقع، سنحوِّلُ للقناة الموالية ونقفل التواصل الاجتماعي حتى نحارب آفة الإدمان على الحزن وتبادل التعازي، وسنعود لأقساطنا والنقاش المستفيض… وسيستمر أحسننا في احتساء جُعةٍ متذمرة ومتابعة المظاهرات في الجامعات.
وبعد الميناء الأمريكي على شاطئ غزة، لم يبق من الاستعداد غير شريط رومانسي حتى تعود للغرب حقوق النقض لمنع الشهادة على وسائل الاعلام بالحد الأدنى من “الموضوعية” وقمع حق الطلاب في معاداة المعادين للأطفال وسيارات الإسعاف، وحق الحضارة المعمدة من طرف البانتاغون في التطهير العرقي والديني والوطني والإبادة دفاعا عن أنوارها الذرية والفوسفورية والعنقودية.
وبالمناسبة هذا الميناء الطافي كلف حوالي 320 مليون دولار لا ندري من مولها، يسمح مبدئيا بدخول 50 حاوية يوميا، ترخص إسرائيل 9 منها فقط، أي أقل بشكل هائل مما كان يدخل من معبر “رفح”، وحسب آخر الأخبار، لم ترخص له بعد. هل الهدف منه هو ما يعلنه الأمريكيون، الذين يقرعون كل يوم طبول أولويات حربهم على غزة: تحرير الرهائن، القضاء على حماس والتضرع إلى إسرائيل كي تجد الحل المناسب لاستمرار القصف والدمار والحصار والحفاظ على مدنيي أوكرانيا؟ هل الهدف هو الذي يعلنه الأمريكيون، الذين يرعون حل “الدولتين” ويحاربون دولة فلسطين في كل المحافل إلا في الحفر والمقابر الجماعية المردومة تحت حطام المستشفيات، هو شيء آخر غير تطهير الشرق الأوسط والأدنى من الفلسطينيين من المحيط حتى الإبادة؟
ينفعل الرئيس الأمريكي لأن إسرائيل تفسد عليه ازدراد مثلجاته والطلاب كذلك، فيرسل المسؤولين تلو المسؤولين للتعبير عن اللوم الشديد لأن الحملة على رفح لا تقتل العدد المطلوب من المدنيين ولا تحرر “الرهائن”.
منذ “فشل” المفاوضات الأخيرة حول وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى واجتياح “جيش الاعتداء الإسرائيلي” لــ “رفح” وكل قطاع غزة، رغم أنف ما يصرح به الشركاء الأمريكيون الممتعضون، والتصعيد المتعدد الأشكال في الضفة الغربية، ورغم نكت “العقوبات” على المستوطنين المتطرفين وتوزيع الأسلحة عليهم رسميا، واضح أن قوات الإبادة ترفع الإيقاع والقوى والمعدات، بهدف تحقيق أمر واقع على الأرض عبر الاستيطان والترحيل والإعدام.
لعل ما يجري ترتيبه على الأرض، من الموازاة بين الجَرْفِ والتحطيم وبناء الطرق والمراكز والمناطق العازلة ومنصات إطلاق الجنود الأكثر أخلاقية منذ عهد الديناصورات، يحمل كل الشرور الممكنة.
سيقول المحلل الشاعر أن فلسطين انتصرت، وأن المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة كبدت إسرائيل والولايات العدوانية المتحدة شر عزلة دولية أصابتها منذ تطهير “العالم الجديد” من أممه الأولى وسكانه الأصليين، ومنذ الحرب الألمانية على ناميبيا.
سيقدم الأطفال المصابون بكل امتنان كل التحية لقرارات المحكمتين الدوليتين، قبل أن يعرفوا آخر الإحصائيات عن الشهداء من كل الأعمار والمهن.
وحتى نقلع ولو قليلا عن الخلط بين الواقع المؤلم والاحتمالات الواقعية مهما كانت فظيعة، ونتجاوز كسلنا واعتمادنا على التحليل الذي يطير بنا في الأعالي، نتألم للمصائب ونستنتج منها تباشير الانتصار الحتمي، قد يكون من المفيد أن نحاول تشخيص الوضع ونستشرف احتمالاته.
في جانب من المعادلة عدو قوي “جبار” بسلاحه ووحدته المصيرية بين مكونيه، إسرائيل والولايات المتحدة أقوى بلاد اقتصادا وصناعة وتكنولوجيا وسلاحا، وحلفائهما في الغرب المنتشر في أوربا واليابان والهند والأرجنتين ومنطقة القطب الجنوبي وتابعي التابعين من الدول الصغيرة والمتوسطة والمغلوبة على أمرها، وفي الجانب الثاني، مقاومة وطنية تحارب محاولات الاجتثاث والتطهير والاقتلاع والإبادة النهائية، تستفيد من الضمير الإنساني كما يجسده شباب جامعات العالم وبعض ما تبقى من انتساب للقانون وحقوق الإنسان.
لكن الصراع بين المقاومة الوطنية الفلسطينية والإجرام الإسرائيلي-الأمريكي صراع وجود، كان منذ بدايته في ثلاثينيات القرن الماضي، أو قبل ذلك والنكبة والهزائم والانتفاضات والاتفاقيات إلى يومنا هذا، يدور حول الوضع النهائي لفلسطين والمنطقة العربية، وهذا البعد حاضر بقوة وبقسوة شديدتين منذ 7 أكتوبر 2023 بالنسبة لحركة “حماس” وفصائل المقاومة الفلسطينية وبالنسبة للعدو.
وبهذا الصدد لم يكن “طوفان الأقصى” هجوما مغامرا أحاديا، بل رد فعل مقاوم على سيرورة استقرار إسرائيل واستيطانها فلسطين، وتطبيعها مع دول الجوار وفوق البترول الغربي.
إن أمريكا ما تزال تعتبر أنها لم تنتصر في الحرب العالمية الثانية رغم مئات الآلاف من أجيال الضحايا المدنيين في هيروشيما و ناكازاكي، وخصوصا بعد هزيمتها في حروبها على شعوب جنوب شرق آسيا، لأن ميزان القوى الفعلي ومجريات الحرب الأوروبية كرست عدوين لدودين معلنين للاستعمار والامبريالية الغربية، هما روسيا والصين، وعدو كامن هو شعوب دول الجنوب التي لم تنس جرائم الغرب منذ نهاية القرن الخامس عشر الميلادي.
لكل هذا… أعتقد أن الآتي من الأسابيع، وربما الأيام والليالي، سيكون مرعبا في فلسطين من حيث تحقيق أكبر قدر من التقتيل والردم والتجريف وإعادة رسم أوصال الأرض في علاقتها بباقي فلسطين والبحر والجوار، وسيتعرى أكثر سفورا صراع الوجود، في مراهنة من إسرائيل والغرب والدول العربية الشقيقة على أن الرأي العام الدولي سينقلب إذا أصبحت إسرائيل تواجه خطر التفكيك والنهاية.
ولنتأمل في مجريات الصراع منذ بدايته: في كل معركة تخلق إسرائيل ــ الغرب واقعا على الأرض وفي السياسة، يصعب مواجهته ومقاومته، وبعد كل ضربة يتلقاها أو انتفاض للفلسطينيين أو شك في تهديد من مصر وسوريا ثم من العراق ثم من لبنان وإيران، إلا ويزداد العنف وترتفع الأسوار الشائكة حول الغيتو التاريخي الذي يسجن فيه منبوذو الغرب المعلنون حتى الحرب العالمية الثانية، وهم يعتقدون أنهم أصحابه من التوراة حتى آخر انتخابات.
لهذا سيكون من الخطأ أن نركن إلى اعتبار ما يجري الآن حمى سادية همجية يحركها غضب أعمى بعد 7 أكتوبر، فالشوط الحاسم من المعركة الوجودية التي لم تتوقف منذ هيمنة الفكرة الصهيونية لم يبدأ بعد، وفي هذا الشوط، ربما لن يكون أحد منا في مأمن.
ولعل الشاعر تبين هذا الفصل الاستراتيجي الأقسى فكان تعبيره مأساويا بحجم المأساة التي ابتدأت وستزداد شدة مأساويتها، ليس على المنطقة وحدها، بل على العالم.
ولأن الإمبراطورية الاستعمارية الغربية تحسن التفرقة لكي تسود على الجبهات التي تبدو منفصلة، فالجواب الوحيد هو في اندلاع سريع وحامٍ للمعركة التي تدور حول هدف جامع: انتصار الإنسانية بقيادة أمم العالم في الجنوب والشرق.
هذه الأرض التي شهدت ولادة حلقات عظيمة من حضارة الإنسان هي التي ستشهد نهوضه وسيادته وإنقاذ أمنا الأرض التي تستحق الحياة.
من الجنوب ولدت الإنسانية…
من الجنوب والشرق والأطراف انبثقت وازدهرت.
ومن فلسطين ستغسل ندوب وجراح البشر والكوكب الأزرق.