هشام روزاق يكتب: إعلام الزي الموحد… العاري
كانت جينات القتل موجودة على الدوام، في الأحزاب والجمعيات والمنتديات، في النقابات والمؤسسات المدنية… والدولة اقتفت هوى الباحثين عن السلطة والمال والحظوة… ووفرت لذوي الهوى… هواهم الذي هوى بنا جميعا، وهوى بالدولة نفسها، حين اكتشفت أكثر من مرة، أنها اقتلعت بيدها، كل صمامات الأمان الضرورية لمواصلة العيش.
… وتماما كما حدث في الأحزاب والنقابات والجمعيات، كانت جينات القتل في الإعلام متحفزة جاهزة… كان يكفي أن يصير الحرف بدرهم، كي تتحول الكلمات لأرصدة بنكية، وكي يصير الخبر سلعة.
لا أستطيع، ولا أريد أن أتخيل، أنه هناك… في مكان ما داخل مركز اتخاذ القرار الفعلي بالمغرب، لا يوجد شخص، يؤلمه، يغضبه… يشعر على الأقل، ببعض الشفقة أو حتى التقزز من كل هذا الخواء ومن حالة العته التي تسمى إعلاما في البلاد.
لا أستطيع، ولا أريد أن أتخيل أنه ليس هناك ولو شخص واحد، راوده، ولو مرة واحدة، سؤال مصلحة الدولة وسط كل هذا الخراب، ومع كل المال العام الذي ينفق على قطاع لا يحقق مصلحة، ولا يؤدي خدمة.
… أي منطق هذا يجعل دولة، في نفس الوقت، مستعدة لتخصيص ميزانيات ضخمة من المال العام لقطاع الإعلام، ومضطرة للبحث الدائم والمزمن، وفي كل مرة، عن وسائل إعلام خارج ترابها الوطني، كي تلمع صورتها، بل… وكي تقدم من خلالها، موقفها أو تبريرها لحادث أو قرار؟
كيف يمكننا أن نفهم دولة تقوم، في نفس الوقت، باستخدام عقولها الاستثنائية في خلق مشاريع اقتصادية عملاقة، والتحول إلى عنوان مرجعي في الطاقات المتجددة، والرهان على بنيات تحتية غير مسبوقة… ثم تجدها غير قادرة على تحويل كل هذا التميز، إلى مجرد مادة خبرية تخرج من مؤسساتها الإعلامية، وتجدها مضطرة إلى الاتكاء على مؤسسات إعلامية أجنبية…
كيف يمكننا أن نفهم أو أن نجد مصلحة دولة ما، في أن تجعل نفسها رهينة لدى مؤسسات إعلام أجنبية، وأن تقوم في نفس الوقت، بالإجهاز حتى على موروثها الإعلامي من عهود سابقة، سواء من عهد الاستعمار أو من عهد الراحل الحسن الثاني…
أين توجد مصلحة هذه الدولة، وهي تحول وكالة أنبائها وتلفزاتها، وحتى مؤسسة إعلامها المكتوب الموروثة عن صحافة “ماس” الاستعمارية، إلى ما يشبه حضانات أطفال، تسهر على تزجية أوقات الصغار، في انتظار أن ينتهي الآباء في فرنسا، وغيرها، من أداء عملهم.
كيف يمكن لمصلحة دولة أن تتحقق، وهي تتكلم لغة غير لغتها، وتستخدم أقلاما وورقا في غير ملكيتها؟
كيف يمكن لهذه المصلحة أن تتحقق، دون وكالة أنباء مرجعية في الخبر، وتلفزة قادرة على الوصول لجمهور مستهدف، وصحافة قادرة على امتلاك مجرد خبر…؟ بل، كيف يمكن لمصلحة دولة أن تتحقق، وهي تتخذ قرارا بعدم امتلاك مجرد برنامج حواري واحد يستطيع نقل نبض البلد على الشاشة، كي يخبر العالم أن الدولة لازالت حية.
… كيف تستطيع دولة، تحاول إقناع نفسها وشعبها قبل الآخرين، أنها تنتصر لمغربية المغاربة ومصالحهم، أن تقنع نفسها في نفس الوقت، بأن هذه المصالح، يمكن أن تتحقق من خلال تقنية “المناولة من الباطن”، وليس مع الشركاء الفعليين الذين يقدم لهم المال العام، مقابل اللاخدمة.
طبعا… يرتاح الكثير من أنصار العقيدة الأمريكية في “اختلاق العدو الخارجي”، لفكرة تحميل الدولة، وحدها، مسؤولية كل هذا الخراب.
المنتصرون لهذا “الرأي”، يعتبرون أن الدولة وحدها، أجهزت على الأحزاب، والنقابات، واتحاد كتاب المغرب، والجمعيات… وعلى المسرح والسينما والفرق الرياضية…
والحقيقة أنه، إن كان في هكذا رأي بعض من الراحة النفسية وكثير من المعطيات الصحيحة، إلا أنه ليس كل الصواب. الدولة، أو قل… بعض أهم صناع القرار داخل الدولة، كانوا في النهاية، شركاء في الفعل، ولم يكونوا الفاعل الوحيد.
في الأحزاب، كما في النقابات والجمعيات… كانت الدولة حاضرة، وشريكة، لكن فعل القتل، كان موجودا في جينات هذه الهيئات قبل حتى أن تفكر الدولة، أو بعضها، في إطلاق رصاصة الرحمة…
كانت جينات القتل موجودة في “زعيم خالد” يريد دمقرطة المغرب بحزب حوله إلى “ملكية مطلقة” وحول مناضليه لخدم وأصحاب مصالح وقواد وباشوات يحرصون مصالح القائد ويوسعون نفوذه، و”يحرسون” التنظيم أكثر من حراسة المبادئ المؤسسة له…
كانت جينات القتل موجودة، في الجمعيات والمنتديات، في النقابات والمؤسسات المدنية… والدولة اقتفت هوى الباحثين عن السلطة والمال والحظوة… ووفرت لذوي الهوى… هواهم الذي هوى بنا جميعا، وهوى بالدولة نفسها، حين اكتشفت أكثر من مرة، أنها اقتلعت بيدها، كل صمامات الأمان الضرورية لمواصلة العيش.
… وتماما كما حدث في الأحزاب والنقابات والجمعيات، كانت جينات القتل في الإعلام متحفزة جاهزة… كان يكفي أن يصير الحرف بدرهم، كي تتحول الكلمات لأرصدة بنكية، وكي يصير الخبر سلعة.
لكن…
ربما استطاعت الدولة عندنا، إلى اليوم، أن تمارس وجودها بأحزاب ميتة وجمعيات ضعيفة. استطاعت، إلى اليوم، أن تراهن على قوتها في تدبير اليومي والإجابة على مستجدات كل لحظة بما يتوافق وعقيدتها، لكن الحقيقة في النهاية، أن هذه دولة تبعث على الشفقة إعلاميا… هذه دولة تصر على الفشل، وتختاره…
هذه دولة… لازالت تقف كتلميذ كسول أمام أساتذة فاشلين. لازالت تنتظر تنقيطها في “لوموند” أو “لوفيغارو” في “الباييس” أو “أ ف ب” وغيرها…
هذه دولة، تستثمر أموالها لدى فاعلين إعلاميين، لا يهمهم من أسواقها سوى حجم الصفقات الموسمية لا الدائمة، وطبيعة التعاقدات المؤقتة لا طويلة الأمد… وفي نفس الوقت…
هذه دولة تصر على مواصلة الاستثمار، وتبديد المال العام، في إعلام محلي لا يحقق إشباعا في الداخل، ولا يثير شهوة في الخارج… إعلام يشبه حكاية ممثل “بورنو” يريد أن يصبح نجما دون خدش الحياء.
في النهاية… الدولة عندنا تشبه الإعلام الذي تريد…
تشبه، الإعلام الذي ذهب إلى “كوت ديفوار” في بطولة كأس الأمم الإفريقية…
إعلام يلبس الزي الموحد… ويقضي وقته في مناقشة “قضاياه الكبرى”: قضايا توفير المبيت والأكل والتنقل… بينما الخبر والتاريخ يكتب في أماكن أخرى.
دولة… تعرف جيدا، أن كل هذا المشروع الإعلامي الذي أطلقته، وكل هذه الكائنات الإعلامية التي صنعت، أو شجعت على الوجود، لا تحقق لها مصلحة، ولا تؤدي لها خدمة، وأنها، عكس ذلك، تنقل عن الدولة صورة مشوهة وبليدة… لكنها مع ذلك، تصر عليها وتحضنها… تماما كما يفعل “طائر الوقواق” (Cuculidae) حين يضع بيضه في أعشاش طيور أخرى، كي تتكلف بعناية فراخه…
صورتنا في كأس أمم إفريقيا، ونحن نرتدي الزي الموحد ونناقش جدوائيتنا من خلال التنقل والأكل والمبيت… هي صورتنا الحقيقية.
صورتنا الحقيقية كإعلام… وكدولة، نرتدي جميعا زيا موحدا… ونخرج على العالم عراة.
وهذا… بعض من كلام.