عبد القادر الشاوي يكتب: التأويل المقاصدي، الإلحاد
عندما لجأ الأثينيون إلى اتهام سقراط، بناء على التأويل الذي استخلصوه من ممارسته وفكره، قالوا: إنه يرفض الاعتراف بآلهة المدينة، وأنه يتكلم عن سُلط أخلاقية جديدة، هذا فضلا عن إفساد الشباب.
فما أشبه التأويل المقاصدي لفكرة الإلحاد بالمعنى التأويلي الذي صاغه الأثينيون للحكم على سقراط قبل أزيد من عشرين قرنا من يوم الناس هذا.
الخروج من اللغة إلى العقيدة تأويل لا يكون إلا مع القصد المراد من إضفاء المعنى الخاص على العلاقة الاعتباطية، غير المنطقية، التي تربط الدال بالمدلول، أو تحيل عليه افتراضا لتحقيق الفهم وإجبار السامع أو القارئ، بناء على الصوغ والبيان، على التواصل، لأن التواصلَ مَقَامُ علاقة اجتماعية وعمران وتطور به يحصل الفهم والتفاهم.
بهذا، ينتقل، على سبيل المثال، فعل لَحَدَ من الشق الذي يكون بجانب القبر، أو الميل عن القصد، أو الميل والعدول عن الشيء إلخ… إلى المعنى الخاص في الإلحاد، انطلاقا من اعتبارات التأويل المقاصدي، أي (الشك في الله) كما قال بذلك اللغوي الزجًاج.
ويمكن اعتبار هذا الانتقال رغبةً يقينية في إضفاء المعنى العقدي المحمّل بالإطلاق الديني على الكلمة الإشارية التي لا تلبس نفس المعنى في السياق التداولي، أو لا تلبسه إلا حين يكون السياق على اتصال بالجماعة واعتقاداتها الخاصة النابعة من أحكام يقينية مطلقة…لعلها تفيد، والإفادة واجبة في الاجتماع الديني على عقيدة، في النيل من شيء أو الوقوف في وجهه أو لطعنه بما ليس فيه أو إقامة الحد عليه. والاعتقاد الديني في التأويل المقاصدي غايته أن يفيد الجماعة الدينية بأنها مستهدفة وإن أحاط بها الاستهداف فمن الواجب الديني محاربته واتهام أهله أهله بالانشقاق عن أصل معين يستوجب الإيمان والخضوع والتسليم.
الشق في الأرض لا يمكن أن يكون شكا في الله إلا إذا كان الفقيه السني عالما بالنفس الأمارة بالسوء التي تدعو الأفراد إلى ذلك وقد تنهيهم عنه. ولا يمكن أن يكون لفظ لَحَدَ عدولا عن الشيء كالعدول عن الاعتقاد بوجود الله الكلية المطلقة التي إن كفر بها المؤمن، بما للكفر من معان متعددة، (“فإن الله غني عن العالمين” الآية)، وخصوصا بالمعنى الذي أورده علي جُمعة، مفتي الجمهورية المصرية، في لقاء قائلًا: (إنَّ في الآية تقريرا للواقع، فالله غني عن العالمين، حتى الذي آمن به، لا ينفعه ولا يضره عبادة العابدين أو كفر الكافرين).
اللغة أوسع وأرحب من التأويل المقاصدي وإن كانت مطيته. وأما السبب في ذلك فكامن في تعدد المعاني (لا الحصر أو الإطلاق) الذي يفيده لفظ لَحَدَ: فهذا في (معجم اللغة العربية المعاصر) قد يعني دفن الميت، وقد يعني حفر القبر، وهو في (معجم الرائد والوسيط) الشخص الذي مال عن الطريق المقصود، وفي معجم (مختار الصحاح): ألحد أي ظلم إلخ… وهذا بالإضافة التلقائية التي تشتبك في العربية بالدين الإسلامي والتي قد تعني أيضا الكفر بالله أو الشرك به أو الشك في الدين وسوى ذلك. والمعنى في هذا أن القصد في التأويل يفسد اللفظ اللغوي الذي نعبر به عن الشيء… حتى ولو كانت العلاقة اعتباطية.
لا تختلف المعاجم الأوربية عن ذلك في شيء وبنفس التأويل المسيحي في غالب الأحيان. فالملحد في (المعجم الفرنسي) هو “الذي لا يعتقد في وجود أية ألوهية”، وقد يكون غنوصيا أو لا اعتقاد له أو غير متدين أيضا أو متشكك. ومن تلك المعاني أنه قد يكون حرا عندما يكون لفظ الملحد مذكرا. وفي معجم (لاروس)، على خلاف ذلك تقريبا، أو هو بتحديد أكبر من حيث التأويل: هو الشخص الذي يرفض وجود الله، أو لا يعتقد في وجوده، أو بدون إيمان. لذلك، عُد الإلحاد تنكرا أو رفضا لكل اعتقاد في كل ألوهية كيفما كان نوعها، علما بأن مفهوم الإلحاد من الناحية التاريخية تشكل وتطور في إطار الديانات التوحيدية، وما زال إلى اليوم يتحكم في التعبير الرامي إلى الإدانة أو التشهير أو إقامة الحد…
ويمكن أن نرى كيف أن الإلحاد في الثقافة اليونانية كان يُعنى به تجاوزا الاعتقاد الذي ينفي وجود الإله، غير أنه كان من المفهوم أن الاعتقاد هذا، انطلاقا من الأصل اللغوي، لم يكن دقيقا. فقد كان يراد بالملحد الشخص الذي (لا يؤمن بالإله)، وليس بالضرورة ذلك الشخص الذي ينفي وجود الإله كلية.
لهذا، أيضا، اعتاد المهتمون بالموضوع على التفريق بين الإلحاد الإيجابي والآخر السلبي قصد التمييز بين المستويات في التأويل المراد استخلاصه. وأذكر أنه، عندما لجأ الأثينيون إلى اتهام سقراط، بناء على التأويل الذي استخلصوه من ممارسته وفكره، قالوا: إنه يرفض الاعتراف بآلهة المدينة، وأنه يتكلم عن سُلط أخلاقية جديدة (السعادة الأوديمُونيا)، هذا فضلا عن إفساد الشباب. فما أشبه التأويل المقاصدي لفكرة الإلحاد بالمعنى التأويلي الذي صاغه الأثينيون للحكم على سقراط قبل أزيد من عشرين قرنا من يوم الناس هذا.