علي اليوسفي علوي: تنزيل المبادئ اللائكية على أرض الواقع: من العلمانية إلى اللائكية
على الرغم من التقارب الظاهري بين مفهومي Sécularisation وLaïcisation ، فإنه ينبغي التمييز بينهما:
العلمنة la sécularisation تقود إلى فقد العوالم الدينية لملاءمتها للمجتمعات الحديثة التي تشتغل تدريجيا حسب معايير العقلانية الآلية المرتبطة بالعلوم والتكنولوجيا، لأن المجتمع الصناعي وتطور الرأسمالية أدى إلى بروز قطاع يشتغل وفق قواعد مستقلة عن الدين، وشيئا فشيئا انتشر هذا في قطاعات أخرى داخل المجتمع. أما التوجه نحو اللائكية la laïcisation، فهو مرتبط بتطور التعددية الدينية التي قادت إلى فك الارتباط بين المواطنة والدين (وحرية المعتقد تقود حتما إلى هذا التمييز)، وإلى التمييز عمليا بين الجماعة السياسية والجماعات الدينية، وإلى اتخاذ إجراءات شرعية لتحقيق استقلال مؤسسات جديدة [أخرى] عن الدين كالتعليم والطب.
ما إن يثار مفهوم اللائكية، حتى يَعن للأذهان النموذج الفرنسي مع ما يرافقه من توتر ارتبط منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي بالجالية المسلمة وخاصة بالنساء والحجاب والبوركيني، وغير ذلك من المواضيع الهامشية التي تغذي النزعة العنصرية في صفوف الفرنسيين من جهة، والتطرف والانكماش على الذات في صفوف المسلمين من جهة ثانية. والواقع أن الأمر يتعلق بمصطلحين اثنين متداخلين من حيث المنطلق النظري، لكنهما مختلفين من حيث التنزيل على أرض الواقع، وهما: اللائكية والعلمانية.
ما يقوم به البعض من مقارنة بين حال المسلمين بفرنسا وحالة نظرائهم ببريطانيا على سبيل المثال، لتوجيه النقد للنموذج الفرنسي، إنما هو ناتج عن الخلط بين المصطلحين، وبشكل أعمق بين مسارين تاريخيين على الأقل، (المسار الفرنسي والمسار البريطاني) إن لم نقل بين مسارات تاريخية وفكرية متعددة.
العلمانية لفظ مشتق من كلمة العالَم، وهذه ليست ترجمة دقيقة لمفهوم sécularisme المشتق من الجيل أو القرن؛ أي مما هو مرتبط بالعالم البشري أو بالزمن الأرضي. وربما كان الأنسب ترجمة sécularisme بالزَّمْننَة أو الدَّنْيَوَة. إن العلمنة (الدَّنْيَوة) هي مسار طبيعي مرتبط بتطورات الحياة وانتشار المعرفة والعلوم الذي يقود تدريجيا إلى فقدان المؤسسات والأفكار والممارسات الدينية لمعناها الاجتماعي، وهذا نتاج طبيعي لعقلنة المؤسسات والتنظيمات الحديثة. ومادامت العلمنة كذلك، فهي أبعد ما تكون من موقف إيديولوجي، من جهة، ولا تقتصر على ثقافة أو حضارة ما من جهة أخرى. إنها ببساطة نتاج مشترك لتطور أنماط التمثل الاجتماعي بمعزل عن الدين، ومن نتائج هذا التطور الشعور بالانتماء للوطن بدل الانتماء للأمة. وهذا ما يؤكده آرستيد بريان Aristid Briand مُقترح قانون الفصل بين الكنيسة والدولة في فرنسا عندما يشير إلى وجود أنظمة علمانية آنذاك في بلدان عدة من بينها البرازيل، وكندا والولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك.
مقاومة تحكم الإكليروس (الكنيسة)، والتوجه نحو أنظمة تعددية، وُجدت بشكل قبلي أو بعدي للحداثة الغربية، وهو ما يعتبر مدخلا للعلمانية. أما نتائج هذه المقاومة، فيمكن أن تقود إلى أحد أمرين: إما إلحاد الدولة التي تريد اقتلاع الدين جملة وتفصيلا، وهو ما ترمز إليه شيوعية الدولة، وإما القبول بالدين كظاهرة اجتماعية جماعية على أن يبقى مرتبطا بالاختيارات الشخصية. ويتبين من هذا أن هناك مسارا طويلا بين علمنة الدولة تدريجيا انطلاقا من مسار طبيعي للتطور العلمي والمعرفي والتكنولوجي، ولائكية الدولة التي تتمثل غايتها حسب كل من جون بوبيرو Jean Baubérot وميشلين ميلو Micheline Milot في حرية المعتقد وعدم التمييز لأسباب دينية، وتتمثل وسائلها في حياد الدولة وفصل السلطات السياسية عن الدينية.
العلمانيات إذن لا تساوي بعضها، وهي تختلف باختلاف المسار التاريخي لكل بلد على حدة، واختلاف الأسس الفلسفية التي منحتها الشرعية، وطبيعة الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي لكل منها، بحيث تكتفي بعض البلدان بالفصل بين السياسي والديني، وأخرى بحرية المعتقد، وثالثة بعدم التمييز على أساس الدين، وتجمع بلدان أخرى بين كل تلك المؤشرات. هكذا، يمكننا أن نُقَيّم كلا من تلك العلمانيات اعتمادا على المؤشرات السالفة. ولكننا لا يمكن أن نتحدث عن علمانية إلا بتحقق حد أدنى منها يتمثل، حسب عالم الاجتماع المكسيكي روبيرطو بلانكارت Roberto Blancarte، في نظام اجتماعي للتعايش تستمد فيه المؤسسات شرعيتها أساسا من السيادة الشعبية وليس من العناصر الدينية.
وإذا كان مصطلح اللائكية، باعتبارها حدا أقصى من العلمانية، يقتصر على بعض البلدان، فإن دلالته تعتبر أكثر اتساعا. وهذا بالضبط ما ذهب إليه تصريح وقعه 250 مثقفا من ثلاثين بلدا، سنة 2005 جاء فيه أن مسار العلمنة processus de laïcisation يبرز عندما تصبح الدولة لا تستمد شرعيتها من دين أو من أسرة فكرية معينة، وعندما يستطيع مواطنو هذه الدولة التشاور سلميا في إطار المساواة في الحقوق والكرامة، من أجل ممارسة سيادتهم في ممارسة السلطة السياسية. […] ومن ثمة، فإن بعض مكونات اللائكية تبدو ضرورية في كل مجتمع يود تنسيق علاقات اجتماعية تتميز بمصالح وتصورات أخلاقية أو دينية متعددة. انطلاقا من ذلك، فإن اللائكية ليست ملكا لأية ثقافة أو أمة، أو قارة كما أنها يمكن أن توجد في ظروف لم يستعمل فيها المصطلح تقليديا”.
وعلى الرغم من هذا التقارب الظاهري بين مفهومي Sécularisation وLaïcisation ، فإنه ينبغي التمييز بينهما: إن العلمنة la sécularisation تقود إلى فقد العوالم الدينية لملاءمتها للمجتمعات الحديثة التي تشتغل تدريجيا حسب معايير العقلانية الآلية المرتبطة بالعلوم والتكنولوجيا، لأن المجتمع الصناعي وتطور الرأسمالية أدى إلى بروز قطاع يشتغل وفق قواعد مستقلة عن الدين، وشيئا فشيئا انتشر هذا في قطاعات أخرى داخل المجتمع. أما التوجه نحو اللائكية la laïcisation، فهو مرتبط بتطور التعددية الدينية التي قادت إلى فك الارتباط بين المواطنة والدين (وحرية المعتقد تقود حتما إلى هذا التمييز)، وإلى التمييز عمليا بين الجماعة السياسية والجماعات الدينية، وإلى اتخاذ إجراءات شرعية لتحقيق استقلال مؤسسات جديدة [أخرى] عن الدين كالتعليم والطب. تجدر الإشارة إلى أن مساري العلمنة (la sécularisation) والتوجه نحو اللائكية (la laïcisation) يمكن أن يتزاوجا، ولكن la laïcisation السلطوية يمكن أن تكون أكثر حدة من la sécularisation التي متى ما تحققت يمكن أن تجعل نظيرتها أقل ضرورة، بالنسبة للرأي العام، من la laïcisation متقدمة.
انطلاقا من هذه المعطيات، يمكن تمييز التجربة الفرنسية عن غيرها من باقي التجارب الأوربية، ذلك أن فرنسا هي على حد تعبير المنظر الأول للائكية، الفيلسوف فرديناند بويسون Ferdinand Buisson، هي البلد الأكثر لائكية. فرنسا تشكل استثناء تاريخيا وذلك لأن الكنيسة لعبت دورا بارزا ومؤثرا في المجتمع الفرنسي، إلى حد أن فرنسا كانت تُنعت بالابنة الكبرى للكنيسة، وأن ملوك فرنسا كانوا في صدارة المدافعين عن الكنيسة وعن المؤسسة البابوية، وذلك منذ عهد شارلمان في القرن الثامن.
من جهة أخرى، فقد كان هنالك اختلاف بين شمال فرنسا المتأثر بتعدد الديانات، واللجوء إلى القانون العرفي، وجنوبها الذي تطغى عليه التقاليد الكاثوليكية. وإذا ما أضفنا إلى كل ذلك الحروب الدينية الطاحنة التي دامت من سنة 1562 إلى سنة 1598، فإننا نفهم فتح الصراع على مصراعيه بين الجمهورية والكنيسة والحسم الصارم مع هذه الأخيرة إبان الثورة الفرنسية. إن اللائكية الفرنسية بنيت على الصراع، وهي التتويج الجذري والنهائي لمسار العلمنة الذي عاشته فرنسا.
باستثناء فرنسا، فإن إيطاليا هي البلد الأوربي الثاني الذي يفصل بين الكنيسة والدولة انطلاقا من قانون 1997، وينزع صفة موظف من رجال الدين، وتضمن قوانينها لجميع الديانات حق نفسها في ما لا يتعارض مع القانون الإيطالي، كما تضمن لجميع الديانات والعقائد ممارسة شعائرها والجهر بها والدعوة إليها في الفضاءين الخاص والعام.
وإذا ما تفحصنا النماذج الأوربية، فإنه يتبين أن التيار العلماني البلجيكي هو الذي يقترب نسبيا من الاستثناء الفرنسي، ذلك أن اللائكيين البلجيكيين، ليسوا فقط معارضين للكنيسة وإنما هم معارضون للدين وملحدون يسعون إلى أن يُعترف بهم كمكون قائم بذاته إلى جانب المكون الكاثوليكي والبروتستانتي واليهودي والمسلم. وعلى الرغم من ذلك، فإن الكاثوليكية هي الدين الرسمي للملكية البلجيكية، والدولة البلجيكية غير مفصولة عن الدين رسميا، ولكنها تضمن حرية المعتقد والممارسة العقدية، وعدم التمييز على أساس الدين.
أما إنجلترا، فقد عرفت ثورتين، وليست ثورة واحدة، لكن الدولة فيها تقطع علاقتها بالدين. في ثورة 1641، تحدى البرلمان سلطة الملك تشارلز الأول وأعدمه سنة 1949، ليحل محله الحكم الجمهوري البورجوازي لمدة عشر سنوات. لكن تشارلز الثاني (ابن الأول) استعاد النظام الملكي سنة 1660.
بعد ذلك، شهدت سنة 1668 ثورة جديدة في بريطانيا عرفت بالثورة المجيدة Glorious revolution، عُزل خلالها الملك جيمس الثاني، حاكم إنجلترا واسكتلاندا وإيرلندا ونصبت بدله ابنته ماري الثانية وابن شقيقته وليام الثاني. وعلى الرغم من ذلك، فإن بريطانيا لم تقطع مع التقاليد تماما، وهو ما يفسر بقاء الملكية هناك.
هكذا، فإن المملكة المتحدة تضمن الحرية الدينية والحق في تغيير الديانة، وهو ما يتماشى مع العلمانية secularism، لكنها تحافظ على رابط قوي بين الملكية والدولة والكنيسة الأنغليكانية، والدولة هي من يسهر على صيانة المباني الدينية، دون أن تقدم تمويلا مباشرا لمختلف العقائد. كما أن الرموز الدينية غير ممنوعة في المدارس، لأن منعها قد يعتبر تمييزا على مستوى الدين.
في ألمانيا، لا زال هناك رابط قوي بين الدولة والكنيسة بشقيها الكاثوليكي في الجنوب والبروتستانتي في الشمال، لكن الكنيسة هناك لم تعد مصدر القيم، وإن كان التعليم الديني إلزاميا في المدارس باستثناء مدارس برلين. وتظل وظيفة الدولة هي المسؤولة عن النظام العام، والسلم الديني، والتعدد الديني، وعدم التمييز على أساس الدين.
لا يتسع المجال هنا لاستعراض مختلف التجارب الأوربية، لكنها في المجمل لا تخرج عن هذه الترسمة التي يظل الطابع العام فيها هو اختيار العلمانية التي تتمثل في ضمان حرية المعتقد لمختلف مكونات المجتمع، والتعايش بين الديني وغير الديني، وعدم التمييز على أساس الدين. في مقابل ذلك، يظل النموذج الفرنسي الممثل الوحيد للائكية في أقصى صورها؛ إذ يفصل صراحة بين الدولة والكنيسة ولا يمول مقرات العبادة ولا يوظف القيمين على الشؤون الدينية، ويمنع الرموز الدينية في الفضاءات العمومية، وكل ذلك يجعل النموذج الفرنسي يبدو للبعض متطرفا، لكنه في الواقع نتاج لمسار تاريخي متميز.
من بين المراجع المعتمدة:
- Henri-Pena-Ruiz, Qu’est-ce que la laïcité ? Ed. Gallimard 2003.
- Jean-Paul Scot, « l’Etat chez lui, l’Eglise chez elle », comprendre la loi 1905, Ed. POINTS, mai 2005.
- عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الثاني/المجلد الثاني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى يناير2015