علي اليوسفي: الحج[1] والمواطنة في زمن كورونا
على إثر انتشار وباء كورونا، اضطرت العربية السعودية ـ على مضض ـ إلى إلغاء العمرة هذه السنة. لكن الحجر الصحي لن يدوم إلى الأبد، سواء وجد الباحثون الإكسير أم لا، …
على إثر انتشار وباء كورونا، اضطرت العربية السعودية ـ على مضض ـ إلى إلغاء العمرة هذه السنة. لكن الحجر الصحي لن يدوم إلى الأبد، سواء وجد الباحثون الإكسير أم لا، لأن عجلة الاقتصاد العالمي لا يمكن أن تتوقف عن الدوران!
هذا يعني أنه من المحتمل ألا تلغي السعودية الحج أيضا؛ وإلا، كيف سيستطيع اقتصادها تحمل الركود غير المسبوق لسوق النفط، وتوقف عائدات الحج في نفس الوقت، بعدما خسرت عائدات العمرة؟ للتذكير، فإن عائدات الحج والعمرة تمثل أكبر مصدر للدخل في السعودية بعد النفط والبتروكيماويات؛ إذ تدر على خزينة الدولة السعودية حوالي 12 مليار دولار سنويا، وهو ما يمثل 20٪ من الإيرادات غير النفطية في المملكة.
لن نتساءل هنا عن أحقية العربية السعودية في الانفراد بدخل شعيرتين كانت عائداتهما تذهب إلى بيت المال ويستفيد منها جميع المسلمين، ولا عما تفعله السلطات السعودية بتلك الأموال، ولا عن تناسُب الخدمات التي تقدمها السعودية للحجاج والمقابل الذي يؤدونه عن ذلك، ولا عن الإجراءات المتعلقة بصحة وأمن وسلامة الحجاج، حتى قبل حلول وباء كورونا، إلى غير ذلك من التفاصيل التي من حق كل المسلمين الاطلاع عليها، لأن الحرمين بكل بساطة ملك لهم جميعا.
لو اجتمع كل أربعة أو خمسة حجاج لاشتروا بالمبالغ التي كانوا سيحجون أو يعتمرون بها شقة أو بيتا متواضعا لأسرة كاملة وأخرجوها من العراء أو من دور الصفيح
تلك كلها أسئلة مشروعة تستدعي التفكير والنقاش الجدي والعلني والهادئ والبناء، بعيدا عن الحجر العقلي الذي تفرضه المملكة الوهابية وشبكاتها وأبواقها الدعائية على الفكر والإعلام في العالم الإسلامي.
لكن الأمر المستعجل اليوم هو أن نستغل حلول جائحة فيروس كورونا ـ ورب ضارة نافعة ـ لإعادة النظر في كثير من الممارسات التي كانت تؤثث حيواتنا قبل الجائحة، ومنها جدوى إنفاق كل هذه الأموال على شعيرة يمكن تحقيق مغزاها الديني بطرق أخرى، إضافة إلى إعطائها بعدا وطنيا وتضامنيا إنسانيا.
اقرأ أيضا: حسين الوادعي: فذلكة تاريخية حول لغز الباب المسدود في الكعبة المشرفة.
إن كلا من الحج والعمرة يكلفان الحاج أو المعتمر ما لا يقل عن خمسة آلاف دولار كمعدل، ناهيك عن النفقات التي تكلفها الاحتفالات قبل وبعد أداء الشعيرة. والكل يعلم أن الكثيرين من الميسورين يحجون ويعتمرون لمرات عديدة، ولا غرابة في إنفاق مبالغ ضخمة كهذه ابتغاء مرضاة الله لمن استطاع إلى ذلك سبيلا.
لكن المبلغ الذي تكلفه حجة أو عمرة واحدة فقط كاف لفتح ورشة عمل لعاطل ـ رجلا كان أم امرأة ـ يمكن أن تخرجه وأسرته من الفقر والتسول والجوع، أو من السرقة، أومن امتهان الجنس، أو من التعاطي للمخدرات أو الاتجار فيها، وتضمن له قوت يومه وماء وجهه، وتساعد الدولة على سد احتياجات المواطنين.
على كل منا أن يسأل نفسه اليوم: ما الذي يمكننني فعله تجاه أبناء وطني، سواء أكان الذي سنساهم به باسم الأخوة في الدين أم باسم المواطنة.
لو اجتمع كل أربعة أو خمسة حجاج لاشتروا بالمبالغ التي كانوا سيحجون أو يعتمرون بها شقة أو بيتا متواضعا لأسرة كاملة وأخرجوها من العراء أو من دور الصفيح.
لعل الكثيرين كانوا، وربما لا زالوا، يفضلون أن يعدوا لأنفسهم قصورا في جنات النعيم، ويدعون الله أن يمتعهم في الدنيا والآخرة، وأن يحشرهم مع النبيئين والصديقين والشهداء، ناسين أو متناسين أن الطريق إلى مرضاة الله يمكن أن يمر أيضا، وربما قبل كل شيء، عبر الإيثار: “ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”، بل إن الأغنياء ليسوا في حاجة إلى حرمان أنفسهم من أجل الآخرين، وإنما فقط إلى أن ينفقوا مما آتاهم الله على الفقراء واليتامى وابن السبيل.
اقرأ أيضا: تاريخ الحج قبل الإسلام: بين القطيعة والاستمرارية – الجزء الأول
إن الكثيرين، ومن شدة أنانيتهم، يعتبرون فقر الآخرين وعوزهم أمرا مقدرا مكتوبا من الله الذي “فضل بعضكم على بعض في الرزق” [سورة النحل، آية 71]، ويكتفون بمحاربة الأوبئة والانحرافات الاجتماعية بالصلاة والدعاء لغيرهم بالهداية، وينسون أن “الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه” [الحديث]، وأنه بإمكانهم أن يأخذوا بأيدي إخوانهم بالمبلغ الذي كانوا سيخصصونه للحج أو للعمرة مع نية الحج أو العمرة، وابتغاء مرضاة الله، “أم على قلوب أقفالها” [سورة محمد، آية 24].
اليوم، وجدنا أنفسنا وجها لوجه مع مواطنين يجبرهم الجوع وقلة ذات اليد على عدم القدرة على الالتزام بالحجر الصحي، ليس كرها في الوطن ولا في المواطنين، ولا ضدا على الدولة ولا عنادا، وإنما فقط لأن الفقر كافر، ولأن الجوع كافر.
إن جائحة كورونا مناسبة لمراجعة الحسابات والذهاب إلى عمق الأشياء وتجاوز الأنانية والنجاة الفردية. وليتذكر المسلمون قوله تعالى “لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون” [سورة آل عمران، آية 93]، نحن هنا لا نستذر عطف أحد على الفقراء وإنما ننبه إلى أن محاربة الفقر بالمال هي محاربة فعلية للبغاء والسرقة وتعاطي المخدرات وانتشار الجريمة، وهي تغيير فعلي للمنكر باليد أي بالفعل. وهذا بطبيعة الحال لا يعني أن المساعدات المتواضعة غير مطلوبة، ولكن تخصيص أموال الحج والعمرة لبناء المجتمع، وخاصة في هذه الظروف الحرجة، أمر ملح، بل إنه أولوية الأولويات.
على كل منا أن يسأل نفسه اليوم: ما الذي يمكننني فعله تجاه أبناء وطني، سواء أكان الذي سنساهم به باسم الأخوة في الدين أم باسم المواطنة. إن من معاني المواطنة ودلالاتها الأولية الاشتراك في الأرض/ الوطن، وهذا في حد ذاته جوهري لأنه ينبهنا إلى أن أبناء الوطن شركاء. ولأنهم كذلك، فهم معنيون جميعا، كل حسب طاقته وإمكاناته المادية والمعنوية، بنجاح شركتهم/وطنهم. من أجل ذلك، يجب أن يتضامن الشريك مع شريكه ويؤازره ويرفع من مستواه حتى تصمد الشركة في وجه تقلبات السوق/الحياة، وتتجنب أو تتدارك أخطاء التسيير.
عائدات الحج والعمرة تمثل أكبر مصدر للدخل في السعودية بعد النفط والبتروكيماويات؛ إذ تدر على خزينة الدولة السعودية حوالي 12 مليار دولار سنويا، وهو ما يمثل 20٪ من الإيرادات غير النفطية في المملكة
ونحن اليوم نرى أن كورونا قد عرت هشاشة الكثير من الشركاء/ المواطنين أمام من كانت “على أبصارهم غشاوة” [البقرة، آية 7]. اليوم، وجدنا أنفسنا وجها لوجه مع مواطنين يجبرهم الجوع وقلة ذات اليد على عدم القدرة على الالتزام بالحجر الصحي، ليس كرها في الوطن ولا في المواطنين، ولا ضدا على الدولة ولا عنادا، وإنما فقط لأن الفقر كافر، ولأن الجوع كافر.
لقد كان على من كانوا يتسابقون على مناصب التسيير، أن يحسبوا حسابا لعوادي الزمن، للأعاصير والفيضانات، وموجات الحر أو البرد الشديدين، فيضعوا برامج ومخططات وسياسات لتأمين قوت وحياة وسلامة شركائنا في الوطن. لكنهم لم يفعلوا… أو على الأقل، لم يفعلوا ما يكفي.
اقرأ لنفس الكاتب: في مكة والجاهلية والحج: قصي بن كلاب يؤسس المدنس على المقدس
وبدل أن يمد بعضنا أيديهم إلى جيوبهم وثرواتهم المكدسة من أجل المساهمة في إنقاذ مواطنيهم من الجوع والقهر ودور الصفيح، كانوا يفضلون إنفاق أموالهم على ملذاتهم وشهواتهم بأنانية وعنجهية، وكأنهم غير معنيين تماما بما يحيطهم. بل وكأن معاناة الآخرين تزيد من نشوتهم السادية. واليوم توشك سفينة الجميع أن تغرق، يوشك الفقير ـ بسبب سعيه إلى قوت يومه وقوت أسرته ـ أن يعمم الفيروس على أوسع نطاق، أن يجهض مجهودات الدولة في الحد من انتشار الوباء.
بدل تنبه الكثيرين من الميسورين منا إلى أنهم جزء من المشكل، والإسراع بمد يد المساعدة بسخاء للفقراء والمحتاجين، غالبا ما يردد بعضهم على مسامعنا، بدون حياء، عبارات استعلائية محملة بالأنانية والخوف على الذات، من قبيل: “هؤلاء الرعاع سيُفشلون الحجر بجهلهم وعنادهم، وينقلون العدوى إلى الجميع”! وقليلون هم أولئك الذين ـ بيننا ـ يستحضرون أننا جميعا مسؤولون من قريب أو بعيد ليس فقط عن جهل هؤلاء “الرعاع”، وإنما أيضا عن فقرهم، وعن اضطرار الكثيرين منهم إلى الخروج ولسان حالهم يقول: الجوع من ورائكم والعدو أمامكم، ولا خيار لكم إلا المغامرة بحياتكم (وحياة الآخرين)!
إن الصندوق الذي خصصته الدولة للتضامن ينتظر تحرك الجميع، وإن مئات الجمعيات التي تجند ضمنها رجال ونساء لمساعدة أبناء الوطن تنتظر أن تحرك الجائحة فينا وازع الدين ووازع المواطنة، حتى نخرج من هذه المحنة بأقل الأضرار. فلنتحرك جميعا باسم الدين أو باسم الوطن أو باسم الإنسانية أو باسم هذه القيم جميعها، فكل القيم النبيلة تسمو بالإنسان.
[1] هذه وجهة نظر وليست فتوى.