من البحرين، محمد فاضل العبيدلي يكتب: فلسطين والسودان: حبل سري استنسخ إبادة غزة في دارفور
كما في غزة وحرب الإبادة الصهيونية… جرى الأمر بحذافيره في دارفور على يد قوات الدعم السريع، وشاهدنا كيف أن بعض أفراد هذه المليشيا صوروا بهواتفهم كيف كانوا يقتلون الأمهات أمام أطفالهن وكيف علقوا الشابة قسمة علي عمر من كتفيها على شجرة حتى الموت؛ وظهر قاتلها المدعو أبو لولو في فيديو قصير متفاخراً بجريمته، مثلما فعل غيره من هذه المليشيات التي وَلِغَتْ في دماء السودانيين…
آن الأوان لكي تنشأ مؤسسة هند رجب سودانية: مؤسسة قسمة علي عمر

في العام 1987، ضمني والروائي السوداني الكبير الراحل الطيب صالح حديث شيق وطويل في المنامة، قال لي فيه إن الإنجليز، أثناء احتلالهم للسودان وفلسطين، جعلوا بين البلدين علاقة خاصة. فالموظف الإنجليزي في الإدارات الاستعمارية في السودان، إذا تقرر نقله، فانه يُنقل إلى فلسطين، وأولئك العاملون في فلسطين، إذا تقرر نقلهم، يُنقَلون إلى السودان.
وعدا صداقة الطيب صالح مع الفلسطيني الراحل أكرم صالح، أفضل مذيع ومعلق رياضي عربي، ثمة العديد من القواسم المشتركة بين فلسطين والسودان. امتدت العلاقة الخاصة على نحو ما في مصادفة تاريخية عندما نال السودان استقلاله في 1 يناير/كانون الثاني 1958 ولتنطلق الثورة الفلسطينية في 1 يناير/كانون الثاني 1965.
لكن من الواضح أن ثمة حبلاً سرياً بين البلدين امتد إلى يومنا هذا. المدهش عندما نستذكر الدور الرائد الذي لعبه المثقفون وذوي التعليم العالي في قيادة الشعبين. فصُناع استقلال السودان كانوا نُخبة من الجامعيين والمثقفين المتميزين. سأكتفي بالإشارة الى إسماعيل الأزهري، خريج الجامعة الأمريكية ببيروت، أول رئيس للسودان المستقل، ورئيس الوزراء الأسبق محمد أحمد محجوب، خريج أوكسفورد، الذي كان شاعراً ومؤلفاً ومهندساً ومحامياً وقاضياً. أما رئيس الحكومة بعد ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964، سر الختم خليفة، فهو خريج مدرسة المعلمين وتالياً جامعة اكستر ببريطانيا وعمل معلماً في ولايات الجنوب ومفتشاً للتعليم في المحافظة الاستوائية. ومثلهم قادة وزعماء آخرين مثل الراحل الصادق المهدي خريج أوكسفورد وباقي زعماء الأحزاب والتيارات.
أما في فلسطين، يكفي أن نشير إلى القادة المعروفين مثل ياسر عرفات، خريج كلية الهندسة بجامعة القاهرة، وصلاح خلف (أبو إياد) خريج جامعة الأزهر، وقادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جورج حبش ووديع حداد، اللذان تخرجا من الجامعة الأمريكية ببيروت، وغسان كنفاني خريج جامعة دمشق. وطوال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كانت منظمة التحرير الفلسطينية تعج بمثقفين وأكاديميين بارزين يسهمون بقوة في النضال الفلسطيني، على رأسهم الراحل الدكتور إدوارد سعيد والدكتور إبراهيم أبو لغد والأخوين فايز وأنيس صايغ، اللذان ترأسا مركز الأبحاث الفلسطيني على التوالي منذ تأسيسه في العام 1965، ناهيك عن الشاعر محمود درويش وغيرهم العشرات.
هذه الأيام ترتسم قواسم مشتركة بين البلدين في تطابق غريب ومأساوي يصعب الاشاحة عنه، تجعل ما يبدو خيطاً سرياً يقرب من أن يكون قدراً محتوماً.
فإذا كان نمط حرب الإبادة الذي شنته إسرائيل ضد قطاع غزة طيلة أكثر من عامين، نمطاً ثابتاً ومتكرراً منذ ثلاثينات القرن الماضي، فمن الواضح أنه انتقل بنفس سماته وخصائصه إلى السودان. لنحص أوجه التشابه:
(أولا): قتل المدنيين العزل.
(ثانياً): تعذيب الضحايا وترويعهم.
(ثالثاً): قتل الأطفال أمام أعين ذويهم.
(رابعاً): العقاب الجماعي للسكان سواء بالإعدامات أو التجويع.
(خامساً): سيضاف إلى هذا جريمة جديدة هي تدمير المستشفيات، فمثلما دمر الجيش الصهيوني مستشفيات غزة منذ بداية حرب الإبادة التي يشنها على القطاع منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 على القطاع، قامت مليشيات الدعم السريع بالشيء نفسه، حيث دمرت مستشفيين حتى الآن من مستشفيات مدينة الفاشر. كما هاجمت هذه المليشيا مستشفى مدينة بارا في ولاية شمال كردفان، وقتلت النساء الحوامل والرضع في قسم النساء والولادة، في استعادة دموية لما قام به الجيش الصهيوني في مجمع الشفاء الطبي عندما منع رعاية الأطفال الخدج وتركهم ليموتوا في حاضناتهم.
كل هذه الممارسات التي اعتادتها إسرائيل في حربها ضد الفلسطينيين، باتت تُطبق اليوم في إقليم دارفور بغرب السودان، لكنها ليست دون سوابق. فمليشيات الدعم السريع التي نشأت بالأصل لقمع تمرد إقليم دارفور بطلب وإشراف من حكومة عمر البشير عام 2003، مارست من تلك الجرائم الكثير، شملت القتل الجماعي ونهب القرى وإحراقها واغتصاب النساء. وقتذاك وصفت جميع دول العالم ما كان يجري في دارفور بأنه “إبادة جماعية”، وبلغت الحملة الدولية ذروتها عندما أصدر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2008 مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير، لاتهامه بارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور.
لقد استمرت حرب دارفور من 2003 حتى 2010 بكل فظائعها، وها هي تعود مجدداً إلى الإقليم، لكن ببشاعة مضاعفة، ستتجلى فيها ملامح ذلك الخيط السري الذي يربط فلسطين بالسودان.
ففي كل حروب الكيان الصهيوني ضد قطاع غزة منذ العام 2008 على الأقل، كانت الفظاعات بحق المدنيين تتم بشكل موارب ومموه، حيث كان جيش الاحتلال يركز على ضرب مقاتلي حركة حماس وتتبع أماكن إطلاق الصواريخ وتدمير مقرات الحركة ومعسكرات كتائب القسام وباقي الفصائل الأخرى.
لكن في حرب الإبادة المستمرة منذ أكثر من عامين، حدث تحول لافت تمثل في الاستهداف المتعمد للمدنيين ومحو التجمعات السكانية تماماً وتسويتها بالأرض. لقد تغير الهدف من الحرب ليتحول من مواجهات لضرب القدرات العسكرية لحركة حماس إلى طرد السكان تماما من القطاع، أي تطهير عرقي. وبالطبع يتطلب هدف مثل هذا حملة ترويع لا تهدأ ولا تتوقف عند وسيلة واحدة. فإذا كان التطهير العرقي، الذي تم في ثلاثينات القرن الماضي بمجازر ضد سكان القرى والبلدات الفلسطينية، يتم ارتكابه بأسلحة مثل البنادق والرشاشات والقنابل اليدوية تحت جنح الظلام، فإن التكنلوجيا اليوم جعلت حرب الإبادة ضد غزة تتم على مدار الساعة وتشهد محو مجمعات سكنية بكاملها ببضع صواريخ من المقاتلات الحربية.
وقاحة الجلاد: من الطنطورة الى الفاشر
الجديد في حرب الإبادة المستمرة منذ أكثر من عامين هو الجرأة والوقاحة التي أظهرها الجنود والضباط وحتى السياسيون الصهاينة في الحديث عن جرائمهم التي ارتكبوها، ونشر المقاطع في منصات التواصل الاجتماعي. هذا هو الجزء الأهم في حملة الترويع: “أن ينزع الجلاد عن نفسه أي صلة بالسوية البشرية عبر التفاخر بجرائمه وأن يتحدث عن شعور السعادة الذي يغمره وهو يرتكبها”.
لقد جرى الأمر بحذافيره في دارفور على يد قوات الدعم السريع، وشاهدنا كيف أن بعض أفراد هذه المليشيا صوروا بهواتفهم كيف كانوا يقتلون الأمهات أمام أطفالهن، وكيف علقوا الشابة قسمة علي عمر من كتفيها على شجرة حتى الموت؛ وظهر قاتلها المدعو أبو لولو في فيديو قصير متفاخراً بجريمته، مثلما فعل غيرة من هذه المليشيات التي وَلِغَتْ في دماء السودانيين.
في فيلم وثائقي لقناة “الجزيرة” عن مجزرة الطنطورة التي وقعت في مايو/ايار 1948، تحدث بعض من الذين شاركوا في ارتكاب هذه المجزرة؛ وكانت أكثر الكلمات التي ترددت على السنتهم أن المجزرة “لم يكن لها داعٍ” وإننا “قتلنا الكثير من العرب” و”ليس لدينا أي تأنيب ضمير”. لقد قال أحدهم وهو يشرح كيف تم حشر بعض ضحايا المجزرة في براميل خشبية ثم إطلاق النار عليهم من الرشاشات: “كنا نريد تأسيس دولة… لابد من هذا”.
في تمرد العام 2003، كانت مجازر مليشيات الدعم السريع (الجنجويد) تتم لإخماد التمرد عبر ترويع سكان دارفور من القبائل الافريقية (الفور، المساليت والزغاوة) وتحميل الفصائل المسلحة وزر الضحايا، لكن تطور أساليب المجازر وزيادة جرعة الإجرام والمجاهرة بها، تظهر أن الهدف هو تطهير عرقي عبر إجبار السكان على النزوح والهجرة.
اليوم نفس هذه القبائل الإفريقية هي المستهدفة بالإبادة بكل جرائمها البشعة والمقززة وبجرعات عالية من الوحشية؛ ومن الواضح أن الهدف متماثل في غزة وفي دارفور: تهجير سكان غزة لاحتلالها وتهجير سكان إقليم دارفور لفصله عن السودان.
بقي أمر أخير: مثلما بادر نشطاء فلسطينيون وأجانب لتأسيس مؤسسة هند رجب لملاحقة قاتليها وقاتلي عائلتها والمسعفين وتقديمهم للعدالة الدولية، حَرِيٌ بأن يمتد الحبل السري بين فلسطين والسودان نحو مسار مقاومة شعبية أكثر فعالية.
لن أقدم دروساً للسودانيين مهندسي الانتفاضات المدنية البارعين طيلة تاريخهم الحديث، لكن ورغم ادراكي بحالة الاستنزاف الهائل التي تعرض لها السودانيون في السنوات الأخيرة، أرى أن على النشطاء السودانيين داخل السودان وفي المهجر أن يبادروا إلى إطلاق مؤسسة شبيهة بمؤسسة هند رجب باسم قسمة علي عمر، الفتاة التي شاهد العالم موتها مجسماً وشاخصاً على شاشات الهواتف النقالة وهي معلقة من كتفها على شجرة حتى الموت. مؤسسة تلاحق قاتلها السايكوباثي الذي أعلن عن نفسه متباهياً بجريمته؛ تمهيداً لملاحقته وكل القتلة أمثاله وصولاً الى قادة هذه المليشيات الدموية وتقديمهم للعدالة.
* محمد فاضل العبيدلي: كاتب وصحافي بحريني. صدر له “مناطحة جدار العناد” عن دار “مدارك” (2012)، “كردم” مجموعة نصوص عن دار “كتاب” (2018). محرر مدونة: themfadhel



