ثريا منقوش … يمنية أعلنت النبوة
ثريا منقوش تجسد تجربة استثنائية تجمع بين الطموح الفردي والرمزية الاجتماعية.
حين أعلنت “النبوءة النسائية”، أعادت طرح مكانة المرأة في فضاء القداسة والدين، حيث مثل خطابها تحديا للتقاليد الذكورية وللهيمنة الدينية التاريخية، وفتح نقاشاً حول قدرة المرأة على صناعة المعنى والتشريع وإعادة تعريف الأدوار الكبرى في الحياة والدين.
ثريا منقوش اسم أعلن عن واحدة من أبرز المحطات التي فجرت جدلاً واسعاً في الساحة اليمنية والعربية، ليس فقط لأنها مثّلت خروجاً صريحاً عن العقائد الدينية الراسخة، بل لأنها طرحت فكرة “النبوءة النسائية” في مجتمع لم يتصور يوماً أن المرأة يمكن أن تدخل مجال القداسة أو تتجاوز دورها التقليدي كمتلقية مطيعة للخطاب الذكوري.
ما يثير الاهتمام في حكاية ثريا منقوش، هو أن إعلانها النبوة، جاء في لحظة مأزومة من تاريخ المنطقة، في عام 2004. لحظة امتلأت بالحروب والأزمات السياسية والانهيارات الاجتماعية، ما جعل خطابها يرتبط رمزياً ببحث الإنسان العربي عن مخرج من دوامة الفوضى.
ولدت ثريا منقوش في مدينة عدن اليمنية، وعملت أستاذة في جامعة عدن، حيث تخصصت في الدراسات التاريخية والفكرية. منذ بداياتها الأكاديمية، عُرفت بجرأتها في طرح قضايا غير مألوفة، فقد كتبت عن التاريخ اليمني وناقشت شخصية سيف بن ذي يزن بين الواقع والأسطورة، كما أنجزت كتاباً في التوحيد مُنع من التداول والنشر.
انتمت منقوش للحزب الاشتراكي اليمني، ما أكسبها بعداً سياسياً وثقافياً. لكنها، مع مرور الوقت، وجدت نفسها في مواجهة أعمق مع بنية الفكر الديني التقليدي. في مطلع الثمانينيات، وتحديداً أثناء زيارتها للمغرب عام 1982 للمشاركة في ندوة فكرية، أعلنت أنها عاشت تجربة روحية استثنائية جعلتها تؤمن بأنها مُصطفاة من السماء لتحمل رسالة جديدة للبشرية، وأنها بذلك أولى “المرسلات”، كما كان محمد خاتم النبيين.
كان هذا الإعلان جدلياً آنذاك، إذ لا يتصور المخيال الجمعي أن النبوة يمكن أن تنتقل إلى امرأة؛ فالتاريخ الديني، سواءً لدى اليهود أو المسيحيين أو المسلمين، ارتبط بالنبي الذكر، القادر على المواجهة والتبليغ والصبر على الأذى. أما المرأة، فقد ظلت مرتبطة بالبيت، بالجسد، وبالوظائف الاجتماعية الثانوية.
أن تقول منقوش إنها “نبية”، يعني أنها كسرت هذا السقف المنيع، وأنها طرحت تصوراً يعيد توزيع الأدوار الرمزية الكبرى بين الجنسين. وقد أصرت في تصريحاتها وكتاباتها على أن الرسالة انتقلت بالفعل من الرجال إلى النساء، وأنها بداية مرحلة ستستمر حتى قيام الساعة.
المعارضة المجتمعية لنبوءة منقوش
إعلان منقوش للنبوءة آنذاك، أحدث صدى واسعاً في الوسط اليمني والعربي، حيث اعتُبرت أقوالها عائدة لاضطرابات نفسية أو محاولة للفت الانتباه، حيث تم التعامل معها كسيدة خرجت عن المألوف إلى حدود “الكفر”، وهناك من رأى فيها نموذجاً للمرأة التي تجرؤ على اقتحام فضاء القداسة الذكورية، حتى لو كان ذلك على حساب العقيدة.
اللافت أنها لم تلجأ للمنابر التقليدية، بل استخدمت الإنترنت في نشر بياناتها، وهو ما جعل خطابها يتجاوز حدود اليمن ليصل إلى جمهور متعدد. لكنها وجدت نفسها أيضاً أمام حملة مضادة وصلت حد التكفير، رغم تصريحها بأنها ” مسلمة، على الأقل بالوراثة”.
في صلب هذا الجدل، برز مشروعها الموعود: “كتاب الجمعان”.
ثريا منقوش كانت قد أكدت مراراً أن هذا الكتاب سيكون النص المؤسس لمرحلة جديدة، وأنه سيحمل تشريعاً كاملاً يقدّم للبشرية حلولاً لمشكلاتها المستعصية. لكنها لم تنشره، وبقي الحديث عنه في دائرة الغموض. هذا الغياب جعل كثيرين يشككون في مصداقيتها، ويرون أنها بَنَت خطابها على فكرة لم تكتمل. غير أن مجرد الإشارة إلى “كتاب جديد” يشبه في بنيته النصوص المؤسسة للأديان، يكفي لإشعال النقاش حول موقع المرأة في إنتاج المقدس.
رمزية نبوءة النساء
رمزية نبوءة النساء تتجاوز حدود شخصية منقوش، فهي تمثل، في بعدها العميق، احتجاجاً على التاريخ الطويل الذي ربط الوحي بالذكورة. عبر هذا الادعاء، كأن منقوش تقول إن المرأة ليست مجرد وعاء للجسد أو صدى لصوت الرجل، بل هي قادرة على أن تكون مرسلة، أن تحمل خطاباً يتجاوز الحواجز الاجتماعية. هنا، تصبح النبوءة النسائية فعلاً رمزياً أكثر منها حدثاً عقائدياً، إذ تهدف إلى تفكيك السلطة الدينية التي احتكرها الرجال لقرون، وحتى لو رفضها الجميع، فإن مجرد طرح الفكرة يهزّ البنية التقليدية ويفتح أسئلة كبرى حول من يملك الحق في احتكار التشريع.
لا يمكن فصل خطاب منقوش عن السياق الاجتماعي والسياسي اليمني، ففي بلد عانى من الحروب والانقسامات، وعايش تجربة الوحدة والانفصال، ثم عاش صعود الحركات الدينية المحافظة، كان صوتها يخرج كاستثناء صارخ. ومع ذلك، فإن خطابها يعكس أيضاً مأزقاً أعمق، غياب المرأة عن مواقع صناعة القرار والمعنى. فحتى في الجامعات والأحزاب، ظلت المرأة في موقع تابع. بذلك، جاءت منقوش لتعلن أن المرأة ليست تابعة فقط، بل قادرة على أن تكون نبية. وبغض النظر عن مدى صحة ادعائها، فقد فتحت النقاش حول موقع المرأة في الدين والسياسة معاً.
أما على المستوى الرمزي الأوسع، فإن ربطها لدعوتها بحالة الاضطراب العالمي يضيف بعداً آخر، فهي ترى أن فشل الرجال في قيادة البشرية نحو السلام يبرر انتقال الرسالة إلى النساء. في خطابها، يصبح صوت المرأة بديلاً عن السلطة الذكورية التي قادت العالم إلى الحروب والفوضى، هو خطاب يتجاوز العقيدة الضيقة ليطرح رؤية كونية: أن الخلاص لن يأتي إلا عبر حضور نسائي في موقع القيادة الروحية. غير أن هذا الطرح يظل معلقاً بين الواقع والمثال، إذ لم يتجسد في مشروع فعلي أو حركة اجتماعية منظمة، بل بقي مرتبطاً بصوت فردي مطارد.
تجربة ثريا منقوش تكشف حدود التوتر بين العقيدة والرمزية، فمن ناحية، لا يمكن لأي عقيدة دينية تقليدية أن تقبل بنبية جديدة بعد خاتم الأنبياء، ومن ناحية أخرى، يمكن قراءة إعلانها كنص احتجاجي يعبّر عن مأساة المرأة في المجتمعات العربية. فحتى لو لم يكن هدفها المباشر هو الثورة النسوية، فإن خطابها يُستخدم كمرآة تُظهر مأزق البنية الذكورية المغلقة. لذلك، فإن قيمتها الحقيقية قد لا تكون في صدق النبوة أو بطلانها، بل في الأسئلة التي تثيرها حول السلطة والمعرفة والجندر.
في النهاية، قد لا يجد القارئ إجابة واضحة: هل ما فعلته منقوش نبوءة حقيقية، أم مجرد وهم ذاتي، أم صرخة نسوية متنكرة في لباس ديني؟ ربما تبقى هذه الأسئلة بلا إجابة، لكن المؤكد أن ثريا منقوش وضعت المجتمع أمام امتحان عسير، امتحان في كيفية التعامل مع المختلف، مع المرأة التي تريد أن تخرج من صمتها، ومع فكرة أن القداسة ليست حكراً على الذكور، وربما هنا تكمن قوة قصتها.
ثريا منقوش، ليست مجرد حادثة عابرة، بل علامة على صراع طويل بين التقاليد الصارمة وأصوات تسعى إلى إعادة تعريف الأدوار الكبرى في الحياة والدين.



