عبدالاله ابعيصيص: بين التعجب والاستفهام… شكل راقٍ من أشكال المقاومة - Marayana
×
×

عبدالاله ابعيصيص: بين التعجب والاستفهام… شكل راقٍ من أشكال المقاومة

الحياة، كما نعيشها اليوم، تُختصر في نهايات سريعة، في استهلاكٍ بلا تذوق وبالتالي بلا تأمل، وفي سباقٍ نحو الفراغ. لكنها ليست كذلك في جوهرها، على الأقل بالنسبة للذين يصرون على العيش فيها مسلحين بعلامات التعجب والاستفهام. للذين يرفضون كتابة النقطة الأخيرة.

baassis عبد الإله أبعصيص
عبد الإله أبعصيص

“أن تندهش يعني أنك ما زلت حيًّا، وأن تسأل يعني أنك لم تستسلم بعد. لكن، أن تضع نقطة فقد بلغت النهاية”.

في زحمة العبث اليومي، أحيانا نختار، ويختار كثيرون ممن نشبههم ويشبهوننا، أن نكون مجرد علامة تعجب أمام فوضى الحياة.

نعم، كثيرون يختارون أن يندهشوا في وجه كل شيء طارئ. الفرح الطارئ المفرد أو زُرافات الخيبات، وأحيانا قد يختارون سلاح الابتسام في وجه الجنون العام، وكأنهم يعلنون بهدوءٍ جميل أنهم لن يكونوا نسخةً من هذا العبث، فخير ما يواجه به العبث هو العبث به، إن عيونهم مرآة تراه بصيغة أخرى.

الدهشة ليست سذاجة، بل شكل راقٍ من أشكال المقاومة، لأن الذي يتعجب ما يزال، على الأقل، يؤمن أن العالم يستحق النظر إليه من جديد.

وفي الضفة الأخرى، هناك من اختار أن يكون علامة استفهام أمام قسوة الحياة. هؤلاء لا يمرّون على الجرح صامتين، بل يسألون عنه، يفككون وجعه، يحاولون أن يجدوا له معنى، حتى لا يتحول إلى عبء آخر، إلى عبثٍ آخر. الاستفهام هنا ليس شكًّا تافها بلا معنى في الوجود، بل إصرارا على الفهم، على أن يكون الحزن محاولة تفسير، والخسارة مجرد فرضية يمكن دحضها في نهاية الحكاية، والصمت أبلغ اللغات. لكن ما أخشاه هو أن نصير، أنا وهؤلاء الذين أشبههم، نقطة نهايةٍ لحكايةٍ لم تبدأ بعد، أن نموت ونحن لم نقُل كلمتنا بعد، أن نضع النقطة قبل الجملة، أن نصمت لأننا تعبنا من السؤال أو مللنا من الدهشة لذلك.

لماذا لا نختار أن تكون  فكرتنا الجوهرية وخلاصتنا  دهشةً وسؤالا في آنٍ واحد؟ لماذا لا يكونان معا استراتيجيتنا. لنواجه الخراب والعبث بالدهشة والسؤال؟

لنكن علامة تعجب أمام كل ما يُراد لنا أن نألفه، وعلامة استفهام أمام كل ما يُراد لنا أن نصمت عنه، فالحياة لا تحتاج إلى نهايات بلا معنى، إنها ليست وجبة سريعة من مطعم يقدم وجباته للعابرين. إنها في أمس الحاجة إلى من يواصل الدهشة حتى اللحظة الأخيرة.

لماذا لا نختار أن تكون دهشتنا وسؤالنا معًا خلاصتنا الجوهرية واستراتيجيتنا الوجودية في مواجهة هذا العالم المائل نحو العبث؟ إن الدهشة ليست مجرد انفعال عابر، بل هي يقظة الروح الأولى، تلك التي تُعيد إلينا إحساسنا بالحياة كلّما كادت تنطفئ فينا جذوة المعنى. والسؤال ليس نزوة فكرية، بل هو حركة الوعي المستمرة، هو احتجاج العقل على الركود، وصرخة الانسان الذي يرفض أن يعيش وفق ما يُملى عليه. فما الذي يبقى من الإنسان إذا توقفت دهشته وخمدت فيه نار السؤال؟ سيصبح مجرد ظلٍّ يتحرك في نظامٍ لا يفكر فيه ولا يعترض عليه.

فلنكن إذن علامة تعجبٍ في وجه ما يُراد لنا أن نألفه، وعلامة استفهامٍ أمام ما يُراد لنا أن نصمت عنه. لنكن ذاك الصوت الذي يرفض الاستسلام، وتلك النظرة التي لا تكتفي بالظاهر من الأشياء.

إن العالم يمضي بنا نحو تكرارٍ قاتل، تكرار لا تراكم فيه. إنه يمضي نحو حياةٍ آلية باردة رغم ارتفاع حرارات كثيرة: حرارة الأرض وحرارة الأسلحة الفتاكة والنيران المشتعلة في أماكن محددة كما لو كان قدرها أن تكون موقد الدنيا وفرنه الدائم. إنه يمضي إلى عالم لا مكان فيه للاندهاش ولا للشك ولا السؤال، حيث تُستبدل المشاعر بالاعتياد، والأسئلة باليقين الجاهز، والإنسان بالرقم. الرقم البارد. البارد جدا.

الحياة، كما نعيشها اليوم، تُختصر في نهايات سريعة، في استهلاكٍ بلا تذوق وبالتالي بلا تأمل، وفي سباقٍ نحو الفراغ. لكنها ليست كذلك في جوهرها، على الأقل بالنسبة للذين يصرون على العيش فيها مسلحين بعلامات التعجب والاستفهام. للذين يرفضون كتابة النقطة الأخيرة.

إنها بالنسبة لهؤلاء فعلُ دهشةٍ مستمر، ورحلة بحثٍ لا تنتهي. فكل لحظةٍ من الوجود، إن أُحسِنت رؤيتها وقراءتها، قادرة على أن تُعيدنا إلى بدايتنا الأولى، إلى ذاك الطفل فينا، الذي كان يندهش من المطر، ويخاف من الغروب، ويسأل عن المعنى دون خوفٍ من الخطأ.

أن نواصل الدهشة هو أن نتمسك بإنسانيتنا في وجه اللامعنى، وأن نحافظ على السؤال حيًّا هو أن نبقي الأفق مفتوحًا أمام احتمالاتٍ جديدة للحياة. فحين تتوقف الدهشة، تموت القدرة على الحب، وحين يُقبر السؤال، تُغتال الحرية. لذلك، لنجعل من الدهشة ديننا، ومن السؤال طريق خلاصنا. لنسكن الحيرة لا كعجز، بل كفنٍّ للعيش واختيار عاقل غايته الطمأنينة الحقيقية وأُفُقه البعيد السفر نحو الانسان الذي ضاع منا أو أضعناه في زحمة الضجيج المحيط بنا، ولنجعل من علامات التعجب والاستفهام معًا لغتنا في مواجهة هذا العالم الذي يريد أن يُصادر دهشتنا، ويُخمد أسئلتنا قبل أن تبدأ.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *