تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة: يزيد بن معاوية… الخليفة الذي أحرق الكعبة (الجزء 10)
يزيد بن معاوية هو التجسيد الحي لسياسة أبيه معاوية، والتي يمكن اختصارها في العبارة التي أضحت شهيرة الآن: “يملك بالسلطان، ما لا يملك بالقرآن”.
لم يعد الحكم على منهج النبوة، شرطا رئيسيا، لامتلاك الشرعية السياسية. وكلما ابتعدت الخلافة عن فترة الوحي، كلما اتجهنا نحو شرعية جديدة للحكم، قوامها تملك السلطة السياسية والعسكرية، والبطش بالمخالف والمنافس.

هو “يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية الأموي”.
يقول فيه ابن الأثير: “قد كان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم والحلم والفصاحة والشعر والشجاعة وحسن الرأي في الملك. وكان ذا جمال، حسن المعاشرة”. قبل إن يستدرك: “كان فيه أيضا إقبال على الشهوات وترك بعض الصلوات في بعض الأوقات، وإماتتها في غالب الأوقات”.
يقول عنه الذهبي في تصنيف خاص به: “يزيد ممن لا نسبه ولا نحبه”، وفي محاولة للتخفيف من هول ما اقترفه يزيد، يضيف الذهبي: “له نظراء من خلفاء الدولتين، وكذلك في ملوك النواحي، بل فيهم من هو شر منه”. لكنه، خلافا لابن الأثير يقول إنه كان “فظا، غليظا، جلفا، يتناول المسكر، ويفعل المنكر”. هذا فضلا عن أنه “اشتهر بالمعازف (..) والغنا والصيد واتخاذ الغلمان والقيان والكلاب والنطاح بين الكباش والدباب والقرود، وما من يوم إلا يصبح فيه مخمورا، وكان يشد القرد على فرس مسرجة بحبال ويسوق به، ويلبس القرد قلانس الذهب، وكذلك الغلمان، وكان يسابق بين الخيل، وكان إذا مات القرد حزن عليه”.
كيف ولي يزيد
هبط يزيد على الخلافة، بمظلة، كان والده معاوية قد نسجها له بعناية فائقة قبل وفاته، بعد أن تخلص من أكبر منافسيه المحتملين على السلطة (ومنهم الحسن بن علي)، وخلق ما يمكن من مشاكل مع الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، اللذين، برغم مخالفتهما إياه، لم يكونا بتلك القوة ولا الشرعية الكافيتين لتغيير نصاب لأمور.
سيرا على هدى والده، وبمجرد تولي يزيد للسلطة، “جلس على المنبر، وخطب، وقال: إن أبي كان يُغزيكم البحر، ولست حاملكم في البحر، وإنه كان يُشتيكم بأرض الروم، فلست أشتي المسلمين في أرض العدو، وكان يخرج العطاء أثلاثا، وإني أجمعه لكم. فافترقوا، يثنون عليه”.
ثم انطلق في محاولات حثيثة لتصفية كل من أبوا البيعة له، يوم كان في مقدورهم ذلك. فكانت اثنتان من أكبر المذابح وأشنعها.
1- مقتل الحسين
“الشهيد” الحسين بن علي، كان أول ضحاياه، في سلسلة فتك، دون هوادة بالمنافسين. كيف ذلك؟
بعد وفاة أخيه الحسن، كتب أهل العراق إلى الحسين “يطلبون منه أن يقدم إليهم ليبايعوه بالخلافة، وكثُر تواتر الكتب عليه من العامة” (..) فكان أن “تجهز الحسين من الحجاز إلى العراق (..) فتحمل بأهله ومن أطاعه، وكانوا قريبا من ثلاثمائة!”. ويبدو أن الحسين كان الوحيد الذي لم يقدر خطورة ما هو مُقدم عليه. إذ أن الكثير من الصحابة، “أشفقوا عليه من ذلك، وحذروه منه، وأشار عليه ذوو الرأي منهم والمحبة له بعدم الخروج إلى العراق، وأمروه بالمقام بمكة، وذكروه ما جرى لأبيه وأخيه معهم”. لكنه أبى عليهم، متوهما أن بقايا الشرعية الدينية التي كان يتمتع بها، ستهزم القوة العسكرية والسياسية.
هكذا، التقى بجيوش يزيد “بمكان يقال له كربلاء بالطف”، ولما حمي وطيس المعركة، وأيقن الحسين بأن ميزان القوى لا محالة مائل لصالح جيش يزيد، طلب من قادته “إحدى ثلاث: إما أن يدَعوه يرجع من حيث جاء، وإما أن يذهب إلى ثغر من الثغور فيقاتل فيه، أو يتركوه حتى يذهب إلى يزيد بن معاوية، فيضع يده في يده، فيحكم فيه بما شاء”. لكن هؤلاء أبوا عليه، فلم يجد بدا من قتالهم. “فحملت الرجال من كل جانب على الحسين وضربه زرعة بن شريك التميمي على كتفه اليسرى، وضرب على عاتقه، ثم انصرفوا عنه وهو ينوء ويكبو. ثم جاء إليه سنان بن أبى عمرو بن أنس النخعي فطعنه بالرمح فوقع، ثم نزل فذبحه وحز رأسه”. ويقال إن “إن عمر بن سعد أمر عشرة فرسان فداسوا الحسين بحوافر خيولهم حتى ألصقوه بالأرض يوم المعركة”. ثم “ذهبوا برأسه إلى عبيد الله بن زياد فوضعوه بين يديه، فجعل ينكت بقضيب في يده على ثناياه، (..) فقال له: يا هذا، ارفع قضيبك، قد طال ما رأيت رسول الله يقبل هذه الثنايا”.
ثم أمر ابن زياد “برأس الحسين، فنصب بالكوفة وطيف به في أزقتها، ثم سيره (..) ومعه رؤوس أصحابه، إلى يزيد بن معاوية بالشام”
ولما جيء “برأس الحسين، فوُضع بين يدي يزيد، تمثل بهذه الأبيات:
“ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج في وقع الأسل
فأهلوا واستهلوا فرحا ثم قالوا لي هنيا لا تسل
حين حكت بفناء بركها واستحر القتل في عبد الأسل
قد قتلنا الضعف من أشرافكم وعدلنا ميل بدر فاعتدل”
ويدعي ابن الأثير أن “الروافض” أضافوا بيتا آخر يقول:
“لعبت هاشم بالملك فلا مُلك جاءه ولا وحي نزل”
ثم يتراجع ابن الأثير، في شبه اعتراف بالشك في كون الروافض أضافوا هذا البيت، ويُسر: “فهذا إن قاله يزيد بن معاوية فلعنة الله عليه ولعنة اللاعنين، وإن لم يكن قاله فلعنة الله على من وضعه عليه ليشنع به عليه”. وكأن يزيد محتاج بعد كل هذا، للمزيد من التشنيع.
2- وقعة الحرة
وكان سببها: “أن أكابر أهل المدينة نقضوا بيعة يزيد بن معاوية، وخرجوا عليه لسوء سيرته”، ثم “اجتمعوا عند المنبر فجعل الرجل منهم يقول: قد خلعتُ يزيد كما خلعت عمامتي هذه، ويلقيها عن رأسه. ويقول الآخر: قد خلعتُه كما خلعت نعلي هذه، حتى اجتمع شيء كثير من العمائم والنعال هناك. ثم اجتمعوا على إخراج عامل يزيد من بين أظهرهم (..) وعلى إجلاء بني أمية من المدينة. فاجتمعت بنو أمية في دار مروان بن الحكم، وأحاط بهم أهل المدينة يحاصرونهم”. “ثم اقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزم أهل المدينة إليها”، “وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وراثت وبالت في الروضة بين القبر والمنبر”. “وهتك مسرف (مسلم بن عقبة) (..) الإسلام هتكا، وأنهب المدينة ثلاثا، واستخف الجمعة”.
وعم القتل “حتى كاد لا يفلت أحد من أهلها”. وكان في القتلى “أفاضل المسلمين وبقية الصحابة، وخيار المسلمين من جلة التابعين”. كما قُتل “سبعمائة رجل من حملة القرآن، (..) وكان فيهم ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم”. وكان من نتائج حملة اغتصاب نساء المدينة أن “وَلدت ألفُ امرأة من أهل المدينة، بعد وقعة الحرة، من غير زوج”، وأُرغم أهل المدينة على المبايعة على “أنهم خول وعبيد ليزيد”.
فلما “كان يوم السبت ثالث ربيع الأول سنة أربع وستين نصبوا المجانيق على الكعبة، ورموها حتى بالنار، فاحترق جدار البيت”.
وعلى العموم فقد “وقد وقع في هذه الثلاثة أيام من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يحد ولا يوصف، مما لا يعلمه إلا الله عز وجل” مما حذا بالذهبي إلى التعليق بالقول: “وهذه الوقعة من أكبر مصائب الإسلام وخرومه”.
وطبعا لن نعدم من يبرر للحاكم بأمر الله، كل الجرائم التي ارتكبها. يقول ابن الأثير: “وأما ما يذكره بعض الناس من أن يزيد لما بلغه خبر أهل المدينة وما جرى عليهم عند الحرة (..) فرح بذلك فرحا شديدا. فإنه كان يرى أنه الإمام وقد خرجوا عن طاعته، وأمروا عليهم غيره، فله قتالهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ولزوم الجماعة”. ثم يستدرك بأن يزيد “بعث إليهم من يردهم إلى الطاعة وأنظرهم ثلاثة أيام، فلما رجعوا قاتلهم وغير ذلك، وقد كان في قتال أهل الحرة كفاية، ولكن تجاوز الحد بإباحة المدينة ثلاثة أيام، فوقع بسبب ذلك شر عظيم”. لكن لا بأس ما دام هو الملك “الإمام”، الذي لا ينبغي الخروج عنه، “وإن جلد ظهرك وأخذ مالك”.
إنجازاته
يقول الذهبي بأن ليزيد، “على هناته، حسنة، وهي غزو القسطنطينية، وكان أمير ذلك الجيش”. ولسنا ندري كيف استطاع توفير الوقت لذلك، في غمرة مهرجانات القرود، وليالي الخمر والأنس التي لم تكد تنقطع يوما.
وفاته
قيل: “إن سبب موته، أنه حمل قردة وجعل ينقزها فعضته. وذكروا عنه غير ذلك والله أعلم بصحة ذلك”. وقيل إنه “ركض فرسا فسقط عنه وأنه أصابه قطع، ويقال ان عنقه اندقت”. وقيل أيضا، إنه “سكر ليلة وقام يرقص فسقط على رأسه وتناثر دماغه فمات”…
وكانت “ولايته ثلاث سنين وستة أو ثمانية أشهر”.
المراجع
الأعلام للزركلي – البداية والنهاية لابن كثير – أنساب الأشراف للبلاذري – تاريخ الإسلام للذهبي – سير أعلام النبلاء للذهبي – الثقات لابن حبان
لقراءة الجزء الأول: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. مقدمة لابد منها
لقراءة الجزء الثاني: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. ولاية أبي بكر الصديق
لقراءة الجزء الثالث: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. ولاية عمر بن الخطاب
لقراءة الجزء الرابع: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. عمر بن الخطاب، من توسع الخلافة إلى الاغتيال
لقراءة الجزء الخامس: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. عثمان بن عفان: الولاية والنهاية
لقراءة الجزء السادس: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة: علي بن أبي طالب… الإمامة وبداية الفتنة
لقراءة الجزء السابع:تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة: الحسن بن علي… صفقة الحكم
لقراءة الجزء الثامن: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة: معاوية بن أبي سفيان… الملك العاض
لقراءة الجزء التاسع: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة… معاوية بن يزيد: خليفة ضد الخلافة



