الشوغر دادي والرأسمالية الرقمية: استغلال جديد تحت قناع الحرية
بين عالمي الشوغر دادي والعمل عن بعد، تعيد الرأسمالية تقديم نفسها تحت قناع الحرية، وصياغة الهيمنة بأدوات أكثر خفاء: المال، العاطفة، والجسد.
بين العالمين، يتحوّل الإنسان إلى مورد دائم ومتصل لرأسمالية، لا تستغل العمل فحسب، بل تستوطن الوعي، وتحوّل الحميمية نفسها إلى سوق مفتوح.
في السادس من يونيو 2025، أعلن القاضي المسؤول عن قضية المنتج هارفي واينستين، إلغاء المحاكمة المتعلقة بتهمة الاغتصاب في قضايا الجرائم الجنسية، وذلك بعد رفض أحد المحلفين الاستمرار في المداولات بشأن الاغتصاب المزعوم للممثلة جيسيكا مان، سنة 2013.
هذه الواقعة، التي تعود فصولها إلى عام 2017، تطرح قضية استغلال واينستين لسلطته في التورط بسلسلة من حوادث التحرش والاعتداء الجنسي التي طالت ممثلات وموظفات في شركته.
أطلق “بيتر فليمنج” على هذه الواقعة اسم “اقتصاد الدناءة”، وانطلق منها في كتابه “رأسمالية الشوكَر دادي، الوجه المظلم للاقتصاد الحديث” لوصف هذا “الافتراس” في سياقه الاقتصادي، واعتبره نموذجا لما يحدث في العديد من الوظائف اليوم، وفسر فيه تحول الرأسمالية من بُنى تقليدية إلى بُنى غير تقليدية تستغل الحياة الخاصة للأفراد، وتُمارس عليهم نفوذها عبر المال.
في الماضي، كانت السلطة تظهر بطابع رسميً صارم: بدلات فاخرة، مكاتب ضخمة، ومؤسسات نافذة تتحكم في قرارات الأفراد وتوجهاتهم. التعبير عنها يتطلب هيكلًا واضحًا ومكانة اجتماعية محكومة بالبروتوكول، وغالبًا ما كانت تتجسد قديما بشكلها البسيط في صورة الأب داخل الأسرة، باعتباره المرجع الأعلى وصاحب الكلمة في اتخاذ القرار وتوزيع الأدوار.
لكن، في عصر الرقمي، لم تعد السلطة حكراً على تلك المظاهر التقليدية، بل تحوّلت إلى أشكال أكثر مرونة وخفاءً، تنتقل عبر شاشات الهواتف الذكية، وتتكثف في مقاطع الفيديو القصيرة والأغاني الرائجة على منصات مثل “تيك توك”. هذه “الترندات” لم تعد مجرد ترفيه، بل باتت تعكس مفاهيم جديدة للنفوذ، تمارس تأثيرها من خلال مزيج دقيق من المال، والمظهر، والعاطفة.
ضمن هذا المشهد الجديد، تبرز ظاهرة “الشوغر دادي” كنموذج حديث لسلطة غير مرئية، تستبدل الرمزية الأبوية التقليدية بسلطة مموّهة تُمارَس من خلال العلاقات الشخصية، فالمتحكم لم يعد ذلك الأب الصارم، بل شخصية تقدم الدعم المالي مقابل حضور عاطفي أو جسدي. لكنها تقوم في الأساس على عدم التكافؤ.
اقتصاد المرونة والعطاء كآلية للسيطرة والتحكم:
مع اندلاع جائحة كورونا، بدا وكأن العالم يدخل طوراً جديداً من “التحرر الرقمي،” تُرجِم ضمن ما يُسمّى اليوم بــــــ “العمل عن بُعد” كَحَلٍّ لاستمرار دوران عجلة الإنتاج. غير أن ما جرى في حقيقة الأمر، هو إعادة نحت مظاهر الهيمنة الطبقية داخل العملية الإنتاجية. مع صعود هذا المنطق من “المرونة”، أصبح زمن الحياة الخاصة خاضعاً لمنطق السوق، وانتفت الحدود الكلاسيكية بين البيت والعمل، وبين الراحة والإنتاج. غُرف النوم والمَطابخ هي امتداد لآلة الإنتاج، واستنزافٌ للفضاء الحميمي للعامل الحديث.
وفق هذه الرؤية، فالعمل عن بُعد ليس حريةً فعلا، بل هو، في النهاية، تطبيعٌ مع شكلٍ جديد من الهيمنة، التي تُقوّض استقلالية الفرد وتعيد تشكيل علاقته بذاته وزَمَنه.
لقد استعار “فليمينغ”، هذا الفهم ليكشف عن الوجه المُقنّع والمُظلم للاقتصاد الحديث، الذي سمّاه بـــــ “رأسمالية الشوغر دادي” كاستعارة أخلاقية وآلية تحكُّم جديدة، تعمل كــــــ “هِبَة مُلَغّمَة” لاستدراج الوقت والانتباه والجُهد وإعادة تدويره في قلب المنظومة.
ملايينُ العُمّال مُتاحون دائماً خلف الحواسيب، كجيشٍ احتياطي للعمل، قابلٌ للقياس والتّتَبُّع والتحكم، ويُقاس ولاؤهُم بالنّقرات. هذا الفائض البشري المُطلق والحاضر رقمياً، ليس دليلاً على الحرية بل “استعبادٌ خفي” لتلبية نداء السوق دون توقف… عبر جهاز استدعاءٍ دائم.
إنهم مُتاحون للفِعل دائماً، حميميتهم مُستبَاحة، وزمنهم الخاص مُستَعمَر من طرف هذه القِوَى، يُستعمل ويُستبدلُ كما تُستَبدل أجساد النساء من قِبَل الراعي المُستغِل، لمراكمة رأس المال العاطفي والجنسي.
الجسد كفضاء إنتاجي جديد:
هذا التشخيص ليس قطيعة مع الماضي، بل تذكير بالعصر الصناعي في ثلاثينيات القرن الماضي بأمريكا، حيث ترضخ وتُستَغل الطبقات الأضعف تحت هيمنة رأس المال، بعد تخلّي الدولة عن الرقابة، وبعد أن تُركت هذه الطبقة تحت رحمة السوق وحده، بعد الترويج لفضائل السوق الحرة من طرف مدرسة شيكاغو. غير أن ما دافع عنه فليمينغ في كتابه، هو أن المرحلة الراهنة، لا يُستنزف فيها العامل في ساعات عمله، بل تُحتلُّ ذاته دائماً كموضوعِ استغلال، حتى عندما يُقدَّمُ الأمر بغطاء الاهتمام والعناية.
كاميرات الحواسيب هي إخضاع للجسد، وآلية تُعيد تشكيل العلاقة بين الفرد وذاته، لا بوصفه كائناً حراً، بل بوصفه بنية إنتاجية متنقلة ضمن منظومة التراكم. بهذا المعنى، فالتعب نفسه يتحول إلى مُعطى اقتصادي. كما أن توفير هواتف وحواسيب متنقلة، كما قد يظهر كـ “ميزة” لصالح العامل هو، في نفس الوقت، وسيلة لاقتحام لفضائه الخاص، حيث يصبح العامل متاحا في كل وقت للعمل. تختفي الحواجز بين زمن العمل والزمن الخاص.
من جهة، يُقدم “الشوغر دادي” عنايته وهداياه ليخفي مظاهر التبعية المفروضة على الأنثى وعواطفها، وتُقدّم الرأسمالية الرقمية خطاب الحرية والمرونة والمعدات التكنولوجية لتُشرعن استباحة الجسد العامل وتملّك زمنه وطاقته.
في الحالتين، الجسد ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لإعادة إنتاج الهيمنة: عند الشوغر، يُستدرج الجسد إلى علاقة غير عادلة مقنّعة بالعطاء؛ وفي الاقتصاد الحديث، يُساق الجسد إلى علاقة إنتاجية مقنّعة بالحرية.
عموماً: ما يكشفه فليمنغ في كتابه بحدة هو أن الرأسمالية لم تعد تستغل اليد العاملة فقط، بل استعمرت الوجود الجسدي والحميمي نفسه، لتجعل من الإنسان مصنعاً متنقلاً ومتوفراً على الدوام.
الرأسمالية كشوكر دادي كوني:
ما يحدث اليوم ليس مجرد توسّع للأسواق، بل تفكك شامل للمعايير التي كانت تفصل بين العام والخاص، بين ما هو فردي وما هو جماعي. لقد تجاوزت الرأسمالية حدود الاقتصاد، لتتحول إلى منطق شامل يعيد تشكيل الأفراد ككائنات قابلة للاستغلال على مدار الساعة. “لقد حاول الاقتصاد الجديد تأليب الفرد ومنظماته، وفسّر المجتمع على أنه عائق أمام الحرية التي نتوقُ إليها، حيث، كلما انفصلنا عن بعضنا البعض، كلما نكون أكثر حرية. في حين أن الفكرة مثيرة للسخرية لأسباب عدة، إلا أنها استحوذت أساسا على المنطق المؤسسي المُشكل لعالمنا، حتى في مواجهة الإخفاقات الضخمة”.
يجادل فليمنج أن الرأسمالية لا تنتظر العامل خلف بوابة المصنع، بل تدخل غرف نومه، تراقب مزاجه، وتُعيد برمجة إحساسه بالوقت والحاجة والرغبة.
الرأسمالية الكونية في دول العالم “العالم الثالث” لا تحتاج إلى أدوات استعمارية، لأننا نطلب منها أن تستعمرنا، شرط أن تمنحنا شيئًا من المعنى، من المكانة، من الانتماء.
إنها لا تفرض نفسها علينا بقدر ما نمنحها نحن شرعية الدخول إلى عمق حياتنا، كلما شعرنا بأن البدائل أضعف، ننشُد الرأسمالية لأننا تعبنا من الهشاشة، في حين أن “الرأسمالية للخاسرين”.