شهـادات تكـشف عن مآس إنسانية… مغاربـة يسردون حكاياتهم مـع السحر والشعوذة
في القرن 21، عصر التكنولوجيا والاكتشافات العلمية والتقدم الطبي، لا يزال مغاربة يؤمنون بممارسات تستند إلى التسليم بالشعوذة والسحر والخرافات والأرواح الخفية.
إرث خرافي ثقيل يُلقي بظلاله على المغرب، من خلال تحكمه في نفوس العامة تفكيرا وممارسة.
إيمان بهكذا خرافات جعل من مغاربة ضحايا نصب واحتيال من طرف أشخاص يدعون “البركة”، ويتلبسون لباس التفقه والتدين.
“ضربة عين”، “واكل توكال”، “ساحرين لك”، “معكسين لك”، “واكل مخ الضبع”…
مصطلحات، وغيرها، يتداولها بعض المغاربة من فئات سنية مختلفة، يجيبون من خلالها عن صدمات يعيشونها في حياتهم، إما عدم الالتحاق بوظيفة، أو عدم زواج الفتاة، أو حتى تأخر الحمل، أو الاضطرابات النفسية التي يعيشها الفرد أحيانا.
صدمات يستغلها بعض الذين يزعمون امتلاكهم “للبركة”، مغلفين ذلك بجلباب ديني، من أجل النصب على ضحاياهم. عمليات نصب راح ضحيتها عشرات المواطينين المغاربة باختلاف مستواياتهم الفكرية والأكاديمية والطبقية.
وفق دراسة أنجزتها هناء شريكي، تحت عنوان: “الشباب المغربي والقيم: بين الثبات والتغير”، ونشرت بمجلة “رهانات” (العدد 41)، فإن 78% من شباب مغاربة تم استجوابهم يؤمنون بوجود العين الشريرة، كما يصدق 55.6%، بأن الحسد يؤذي الناس، في حين يعتقد 69% بوجود السحر، كما أن 39.9% من الشباب الذين تم استجوابهم سبق أن زاروا الأضرحة والصلحاء لقضاء حوائجهم.
… فكان الحشيش سببا لا السحر
حاليا، يعيشُ أيوب (32 سنة) مع زوجته وأمه وأخيه وزوجة أخيه مع أبنائهما في منزل واحد، لكنه وأخوه لم يعودا يجتمعان على نفس الطاولة نهائيا.
لم ينس أبدا يومَ كادت علاقته بأخيه وزوجة أخيه أن تتحول إلى حمام دم.
يحكي أيوب تجربته لمرايانا قائلا:” بعد مرور أشهر من زواجي، بدأت أشعُر باكتئاب حاد فجأة، أصرخُ كثيرا، أعاتبُ الكُل على أمور بسيطة، لم أعد قادرا على الصراخ، أو حتى قهقهات العائلة. حين روت أمي حالتي لإحدى نساء المنطقة، وجهتها لأحد الفقهاء، إيمانا منهما، ومني أيضا، أن مسا (صرعة جن) قد أصابتني”.
يتابع أيوب: “حضر الفقيه إلى منزلنا عصرا. وقبل أن يبدأ عمله بدأ يساومنا حول الثمن، أخبرنا بالدراجة المغربية: (والله أنا غادي نحيد ليكم 100 درهم، ولكن الجواد (الجن)، كيطلب 1200 درهم، عطيوني أنا غير 100 درهم والباقي راه ديال الجواد)، لم نجادله في ذلك”.
يسترسل المتحدث: “بعدها بدأ يذكُر طلاميسا لم نفهم منها شيئا، اشتد بياض عينيه، وبدأ يتمتم بعبارات دينية أحيانا، بعد دقائق أخبرنا أن زوجة أخي هي التي سحرت لي ولزوجتي حتى وصلتُ لحالي هذه.
في تلك اللحظة، اصفرَّ وجهُ الجميع. وصُدمت كثيرا؛ لأن زوجة أخي هاته، عاشت معنا 10 سنوات لم نر منها يوما سلوكا مشينا، بل هي من تكلفت عناء المنزل بعد وفاة أبي”.
ثم ماذا؟ يتساءل أيوب، “حين سمع أخي قولَ الفقيه، فكر مرارا وتكرارا بالانتحار ووضع حد لحياته، فكر أن يقتُل زوجته، أقسمت لأمي إن رأيت وجهها لأذبحنَّها، حاولت أمي تهدئة الأمور لكن دون جدوى، زوجة أخي كانت تحاولُ بكل جهدها أن تبرئ نفسها، سقطت مغشيا عليها، دخلت في عزلة تامة، وأُبعدت من الكل”.
لم تتحسن حالة أيوب، كما روى لمرايانا، نهائيا إلى أن زار طبيبة، وتابع معها، لتخبره بعد جلسات طوال أن الحشيش الذي كان يدخنه كان سببا في كل ضغوطاته النفسية.
بتأسف، وبدموع، يقول أيوب: “إيماننا بالسحر والشعوذة، كاد أن يجعلني أرتكب جريمة في حق إنسانة لم نر منها إلا الجميل، كدتُ أن أجعل أبناء أخي يتامى، والسبب غيبيات “مشعوذ”.
زوجتي لم تحمل، فتوجهنا إلى الفقيه، فكانت الكارثة
نفس التجربة عاشها خالد (29 سنة)، لكن بتفاصيل مغايرة.
سببُ توجه خالد لأحد الفقهاء، حسب ما رواه لمرايانا، تأخر حَمل زوجته، لم يسأل خالد ولا عائلته أحد الأطباء أو المتخصصين، بل اتفق الجميعُ على التوجه لأحد “الفقهاء”.
يقول خالد: “أخبرني الفقيه أن الأمر يعود إلى التوكال (السحر عن طريق الأكل)، بل ومنحني مواصفات عن المرأة التي قامت بذلك. من الصدف أن المواصفات شابهت إلى حد كبير أم زوجة أخي. حين أخبرت الجميع، بمن فيهم أخي، أنها السبب، لأني صدقت الفقيه، توترت علاقتي به كثيرا، لأنه لم يصدق ذلك، حاول مرارا أن يعتزل العائلة، ويكتري شقة لنفسه إلا أن أمي منعت ذلك”.
هذا الأمر جعَل الفُرقة تنهش العائلة، بين مُصدق للفقيه، ومُنكر لذلك، ولا زالت آثاره بادية إلى الآن، لأن هذه المرأة حين علمت اتهامي لها، لم تعد تزور ابنتها نهائيا في منزلنا.
حين يكون السحر سببا للتفكك الأسري
لم تكن فاطمة الزهراء البالغة من العمر 20 سنة، تؤمن بالسحر أو بفعاليته، إلا أنها، وفق ما حكته لمرايانا، تأكدت بما لا يدع مجالا للشك، أن السحر موجود، وله تأثيراته على الفرد والأسرة.
تضيف فاطمة الزهراء: “عشنا سنوات صعبة مع أبي، فكان بمجرد أن يدخل إلى المنزل تتغير سحنةُ وجهه، ويبدأ بالصراخ لأتفه الأسباب، أحياناً كان يضربنا دون سبب، أو لمناقشة بسيطة، ثم علمنا لاحقاً بعلاقته مع امرأة أخرى، كان يُنفق عليها كثيراً من أمواله، بل وباع بعضاً من ذهب أمي ليمنح ثمنه لها، أحسسنا بكراهيته لنا جميعا، حتى لإخوتي الصغار”.
تتابع المتحدثة: “لم تُفكر أمي سوى أن هذا الرجل مسحور، فأقنعته بالتوجه لأحد الفقهاء، وهو ما كان بالفعل، فمنحهُ بعضاً من الأعشاب ثم تقيأ شيئاً أسود اللون، منذ تلك اللحظة بدأت حالته تتحسن شيئاً فشيئاً إلى أن عاد لطبيعته، فعلمنا حينها أن أبي تعرض للسحر والشعوذة”.
يدل البحث عن تفسير علمي أو نفسي لكل الذي وقع، عوض محاولة فهم تفاصيل حكاية والدها بعيدا عن مفردات السحر والشعوذة، تبدو فاطمة الزهراء أكثر اطمئنانا للتفسير السهل والمتاح، بعيدا عن أي جهد في مساءلة الحالة النفسية أو حتى العاطفية لوالدها.
تفسير سهل وغير مكلف، سنكتشف بعضا من جذوره في تاريخ فاطمة الزهراء وعائلتها، مع ممارسات تنتمي لعوالم الخرافة…
… في قصة أخرى، حدثت قبل الحكاية الأولى، تقول فاطمة الزهراء لمرايانا: “كُنت أبلغُ من العُمر بضع سنوات، في منزل جدتي لأبي، وطلبنا من هذه الأخيرة أن تخرج معنا، لكنها رفضت ذلك، حين عدنا وجدنا رائحة كريهة داخل المنزل، لنُفاجأ بها أمام المِجْمَر، تتلو بعض التعاويذ المجهولة، حين سألناها ماذا تفعل، أجابت بطريقة مباشرة أنها تَسحرُ لنا، منذ تلك اللحظة أصبحت علاقتنا بها مضطربة جداً، بل وأصبحت علاقتنا داخل أسرتنا مُضطربة، لأن جدتي كانت تكره أمي كرهاً شديداً”.
تربط فاطمة الزهراء بين القصتين وتحيل سبب تغيّر أبيها إلى السحر الذي كانت تمارسه جدتها، فقد كان غرضُها الأول والأخير أن تفرق بين أمها وأبيها، بحسب اعتقادها.
فاطمة الزهراء بذلك ليست استثناء عن الكثير من الشباب والشابات في المغرب ممن يحيلون حوادث الحياة اليومية إلى السحر، وفقاً لما تقوله الأرقام عن التصديق بها وبأثرها على الحياة.
وتتعدد الأسباب…
محمد هروان، فاعل جمعوي، وباحث في الأنتروبولوجيا، يرى في تصريح خص به مرايانا، أن السبب الأول لاستمرار هاته الظواهر، يعود إلى الجهل، ليس الجهل بمعنى الأمية، إنما الجهل المناقض للوعي، حين تجد أساتذة وأطباء ومهندسين، ونخب تؤمن هي أيضا بذلك، فإن الأمر يتعلق، حسب هروان، بالجهل.
هذا الجهل الذي تُكرسه من جانب آخر السياسية التعليمية والإعلامية التي لا تُحاول نهائيا معالجة هاته القضايا، وتثقيف الناشئة بعدم جدوى هذه الممارسات أو حتى الإيمان بها.
من جانبها ترى مرية شطيبي، باحثة سوسيولوجية في تصريح لها لمرايانا أن العوامل متعددة، ترجع أولا لتجذرها في الذاكرة الجماعية، كونها طقوس واعتقادات راسخة في الثقافة المغربية، أضحى من الصعب الإقلاع عنها، تُنتجها بشكل كبير، الأسرة أولا، عن طريق الحكايات التي تسردها لأبنائها، أو حتى ممارستها لذلك بجانب أطفالها، ما يجعل الناشئة تؤمن بذلك دون وعي منها.
تضيف الباحثة في علم الاجتماع: “لا يجب إنكار العامل السياسي أيضا، خصوصا في ظل انتشار الزوايا والأضرحة والتي تعمل الدولة من خلال وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على استمراريتها، والعناية بها، واحتضانها أيضا لمجموعة من المواسم التي تنتشر فيها هذه الظواهر بشكل كبير”.