تكشفه قضية إيمان تازة. استهداف وجه المرأة: جرحٌ رمزي يفضح بنية العنف في المجتمعات العربية - Marayana
×
×

تكشفه قضية إيمان تازة. استهداف وجه المرأة: جرحٌ رمزي يفضح بنية العنف في المجتمعات العربية

حادثة الاعتداء على إيمان، التي خضعت لتدخل جراحي بعد هجوم طليقها عليها في تازة، تكشف عن أبعاد تتجاوز الألم الجسدي، فالوجه في السياق الاجتماعي العربي ليس مجرد مظهر خارجي، إنما مجال تتقاطع فيه التمثلات والمعايير.
الوجه، يُحمَّل بدلالات ترتبط بالشرف والهوية والظهور في المجال العام، وعندما يتم استهدافه، يتحول الفعل إلى رسالة تتجاوز الشخص المعني، ليصبح الأثر المرئي تعبيرًا عن علاقات قوة عميقة، تكشف كيف تُصاغ صورة المرأة وتُحدد مكانتها داخل البنية الثقافية السائدة.

تعرض إيمان لاعتداء بشع خلّف عشرات الغرز في وجهها وإصابة خطيرة بعينها، ليس مجرد خبر جنائي عرضي، وإنما نافذة نطلّ منها على طبقات أعمق من المعنى، فالوجه هنا ليس فقط موضعاً للإيذاء، وإنما ساحة تُختزل فيها كل التوترات التي تحيط بالجسد الأنثوي في المجتمعات العربية، إذ أن تشويه الوجه يعرّي البنية الثقافية التي تجعل المرأة مرئية حيناً، وموضعاً للتحكم حيناً آخر، بحيث يصبح الاعتداء عليه أداة قصوى لإعادة صياغة حضورها في المجال الاجتماعي.

لا يمكن النظر إلى هذا الفعل كحادث فردي معزول، لأنه يتغذى من تاريخ طويل من التصورات التي تحوّل الوجه إلى رمز، وإلى واجهة تُحمَّل بأكثر مما تستطيع احتماله. فحين يختار المعتدي الوجه، فهو لا يختاره فقط لأنه الأكثر عرضة للإصابة، أو لأنه يترك ندبة واضحة، بل لأنه يدرك ما يمثله في الوعي الجمعي؛ بطاقة تعريف، وسطح علني تُكتب عليه هوية المرأة.

الوجه كمساحة للظهور والسيطرة

في الثقافة العربية، يخرج الفرد إلى العالم عبر وجهه. والمرأة، على وجه الخصوص، تُقاس قيمتها ومكانتها من خلال ملامحها، جمالها، نظراتها، تعابيرها، وحتى قدرتها على إخفاء مشاعرها خلف قناع اجتماعي. يُقدَّم الوجه أولاً في اللقاءات العائلية، في حفلات الزواج، في مقابلات العمل، وفي الشارع، كما أنه المساحة التي تُفرض عليها أنماط بعينها من الضبط؛ الحجاب، المكياج، أو الابتسامة التي تعكس الامتثال للأدوار الاجتماعية المتوقعة.

بالتالي، يصبح الوجه فضاءً مزدوجاً؛ هو أداة تواصل، وفي الوقت نفسه ساحة مراقبة، فكل خط فيه يُفحص، وكل حركة عين تُقرأ، وكل إيماءة تُفسَّر، وهذه المركزية هي التي تمنح الاعتداء عليه دلالة تتجاوز الألم المادي، فحين يُشوَّه الوجه، يُشوَّه رمزياً ذلك النظام الذي يحدد كيف يجب أن تُرى المرأة، وأيضاً كيف يُسمح لها بالظهور.

 

الجرح كوثيقة علنية

الاعتداء على الوجه يترك أثراً لا يمكن إخفاؤه بسهولة، فالندبة أو الكدمة ليست مجرد علامة طبية، وإنما شهادة دائمة على العنف، ففي كل لقاء لاحق، في السوق أو العمل أو العائلة، تعيد هذه العلامة سرد القصة من جديد، إذ يقرأ المجتمع الجرح قبل أن يسمع الكلمات. هكذا، يصبح التشويه وجهاً آخر للعقوبة، فالمرأة لا تُؤذى فقط في لحظة الفعل، بل تُجبر على حمل أثره أمام الآخرين، ليصبح وجهها وثيقة علنية للجريمة.

في حالة إيمان، صور وجهها بعد الاعتداء انتشرت على نطاق واسع، وهذا الانتشار، في زمن الشبكات الرقمية، يضاعف من معنى الجرح، فالصورة لم تعد ملكاً للضحية، وإنما أصبحت مادة للنظر، للتداول، وربما حتى للاستغلال الإعلامي. وهنا يتداخل الخاص والعام بشكل عنيف، إذ لم يعد وجه إيمان وجهها فقط، وذلك لأنه صار واجهة لخطاب جماعي عن العنف، والعار، والشفقة.

الوجه كحدّ فاصل بين الفرد والجماعة

الاعتداء على الوجه يكشف العلاقة المعقدة بين الجسد والنظام الاجتماعي، ففي المجتمعات التي تُعامل المرأة كامتداد للعائلة أو القبيلة، لا يُنظر إلى وجهها كجزء فردي يخصها وحدها، وإنما كملكية مشتركة، محمَّل برمزية الشرف والسمعة. لهذا، فإن أي تغيير في الوجه – سواء كان عبر زينة، أو حجاب، أو ندبة – يُقرأ في ضوء الجماعة.

في هذا الإطار، يمكن فهم الاعتداء على الوجه بوصفه محاولة لإعادة فرض السيطرة على الحدود، فعندما تحاول المرأة أن تعرّف بنفسها، أو أن تخرج عن الصور النمطية المفروضة عليها، يصبح وجهها منطقة مواجهة مع المعتدي، وبتشويه هذا الوجه، يرسل المعتدي رسالة مفادها أن الحضور في الفضاء العام مشروط، وأن من يتجاوزه يُعاد رسمه بالقوة.

العنف الرمزي خلف العنف الجسدي

ما يحدث للوجه ليس فقط عنفاً مادياً، وإنما تجسيد لعنف رمزي أعمق، فالمرأة، حتى قبل أن تتعرض لأي اعتداء، تعيش تحت شبكة من التعليمات غير المعلنة. في البيت، يراقب الأب والأم ملامحها، شعرها، مكياجها، ضحكتها أمام الضيوف. في المدرسة وفي الجامعة، تخضع لنظرات التقييم، سواء من زميلات أو أساتذة، وفي الشارع، تُفحص نظراتها وكأنها رسائل تُقرأ علناً. هذه المراقبة اليومية تجعل الوجه في حالة توتر دائم، محكوماً بتوقعات خارجية لا تنتهي.

وحين يقع الاعتداء، يتحول هذا العنف الرمزي إلى فعل مادي فجّ، فالتشويه هنا ليس فقط هجوماً على جسد فردي، وإنما تتويج لمسار طويل من التحكم، حيث تُترجَم التعليمات والرقابات إلى جرح واضح لا لبس فيه. بهذا، يصبح الاعتداء على الوجه نقطة النهاية لسلسلة من أشكال السيطرة التي كانت صامتة وغير مرئية.

الوجه كمرآة للمجتمع

جريمة تازة لا تطرح سؤال “من اعتدى على إيمان؟” فقط، بل أيضاً “ما الذي جعل هذا الاعتداء ممكناً؟”، فحين نحلل اختيار الوجه كهدف، نفهم أن الجريمة تكشف عن تصور عميق للجسد الأنثوي، تصوّر يرى فيه مساحة للعرض، وموضوعاً للمراقبة، ورمزاً لشرف جماعي.

في هذا السياق، يصبح المعتدي ليس مجرد فرد غاضب أو مهووس، وإنما منفذاً لخيال اجتماعي أكبر، فعنفه يجد جذوره في البنى الثقافية التي تضع وجه المرأة في مركز الحضور والرقابة. بالتالي، فإن الجريمة ليست استثناءً، بل استمرارا منطقيا لبنية تجعل الوجوه معرضة دوماً لخطر التشويه، سواء عبر الكلمات أو عبر السكين.

الصورة الرقمية: عنف جديد مضاعف

في زمن وسائل التواصل، لم يعد الوجه محصوراً في اللقاءات المباشرة، فصورة واحدة تكفي لتنتشر عبر الشاشات، ولتُحوّل الضحية إلى “موضوع عام”، وهذا الانتشار يخلق فضاءً مزدوجاً؛ من جهة، تضامن وتعاطف واسع، ومن جهة أخرى، إعادة إنتاج للعنف من خلال النظر المتكرر إلى الجرح.

في حالة إيمان، الصور التي انتشرت قدّمت دليلاً على بشاعة الفعل، لكنها في الوقت نفسه ستعرضها لنظرات لا حصر لها، فكل مشاهدة للصورة هي فعل قراءة، وأحياناً فعل حكم، ما يجعل العنف الأصلي يتكاثر بدل أن يختفي، وبهذا، يتحول الفضاء الرقمي إلى مسرح جديد تُعاد فيه صياغة علاقة المجتمع بوجوه النساء (بالمناسبة، فقد اخترنا، في مرايانا، أن لا ننشر صورة الضحية إيمان حفاظا على خصوصيتها وحماية لها من العنف الالكتروني المستمر عير نشر صور الاعتداء أو نتائجه).

الوجه كأفق للتحرر

ورغم هذا الثقل الرمزي، يظل الوجه أيضاً مجالاً لإعادة التعريف، فبعض النساء يستخدمن وجوههن كمساحة مقاومة؛ نشر صورهن بلا مكياج، أو إظهار الندوب كعلامات قوة لا كوصمات عار. هذه الأفعال البسيطة، في ظاهرها، تحمل بعداً سياسياً عميقاً، لأنها تعيد للمرأة حقها في امتلاك صورتها، وتحديد كيف تريد أن تُرى.

غير أن هذا المسار محفوف بالمخاطر، لأن كل خطوة باتجاه إعادة تعريف الوجه تواجه احتمال الرد العنيف. لهذا، يظل الوجه في المجتمعات العربية ساحة مفتوحة، حيث تتصارع سلطتان: سلطة تفرض المعايير بالقوة، وسلطة تحاول استعادة الحق في الظهور.

الجريمة ضد إيمان تكشف أن الوجه ليس تفصيلاً عارضاً، وإنما مركزاً لمعركة رمزية، فـ130 غرزة لا تحكي فقط عن لحظة غضب فردي، بل عن تاريخ من التصورات التي تجعل من الملامح ساحة حرب.

لذلك، فإن مواجهة هذا النوع من العنف لا يمكن أن تقتصر على ملاحقة الجاني؛ بالأحرى تتطلب إعادة التفكير في مكانة الوجه في الثقافة السائدة؛ كيف نراه، وكيف نتحدث عنه، وكيف نحرره من كونه واجهة يحق للآخرين التحكم فيها.

إيمان اليوم تحمل جرحها في وجهها… لكن المجتمع بأسره مدعو إلى مواجهة جرحه الأعمق: جرح ثقافة ترى في المرأة صورة قبل أن تراها إنساناً.

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *