تسليع الأخلاق في العصر الرقمي: كيف تعيد الخوارزميات تشكيل قيمنا؟ - Marayana
×
×

تسليع الأخلاق في العصر الرقمي: كيف تعيد الخوارزميات تشكيل قيمنا؟

في العصر الرقمي، الأزمة الأخلاقية ليست حتميةً بقدر ما هي فرصة لإعادة تشكيل القيم بما يستجيب لتحديات العصر.
في المغرب، يشكل التفاعل الخلاق بين الحداثة والإرث الثقافي أرضيةً لإرساء نموذجٍ أخلاقي متجدد، قادرٍ على مقاومة تغوّل السوق وتعزيز التماسك الاجتماعي.

عبد الوهاب الفيعا
عبد الوهاب الفيعا

في عصرٍ تتصارع فيه هواتفنا الذكية مع قيمنا الإنسانية، لم تعد أزمة الأخلاق مجرد شعارات مجردة، بل تحوَّلت إلى معضلة وجودية تهدد نسيج المجتمعات.

في المغرب، تتصادم قيم التضامن العائلي التقليدي مع إغراءات الاستهلاك الفردي، مما يطرح سؤالًا جوهريًا: كيف أصبحت الأخلاق سلعة تفاوضية؟

الإجابة لا تكمن في لعن “الانحدار الأخلاقي”، بل في تفكيك البنى الخفية التي أعادت صياغة القيم وفق منطق السوق.

  الأزمة الأخلاقية: تفكك القيم أم تحولها؟

ليست الأزمة مجرد “ضعف الضمير الفردي”، بل هي نتاج تحولات عميقة في المؤسسات والممارسات:

 التفكك البنيوي للمؤسسات التقليدية

التفكك الأسري: الهجرة الداخلية والتغيرات الديموغرافية أضعفت دور الأسرة الممتدة، مما أدى إلى تراجع التضامن العائلي.
تحوُّلات المرجعية الدينية: مع بروز “شيوخ اليوتيوب” وخطابات دينية متنوعة عبر الفضاء الرقمي، أصبحت المرجعية الدينية أكثر تنوعًا، مما يفتح آفاقًا للحوار الديني المعاصر، لكنه يتطلب توازنًا بين التجديد واحترام الأطر المؤسساتية الراسخة.

 التعليم بين المواطنة والتسليع:

المدرسة العمومية تسعى لترسيخ قيم الانتماء، بينما تواجه المؤسسات الخاصة تحديات في التوفيق بين التنشئة القيمية والمنطق الربحي.

الرأسمالية بأقنعة أخلاقية: حين تصبح “اللايكات” على الفيسبوك وعلى إنستغرام مقياسًا للنجاح، وحين تُختزل الكرامة في امتلاك سيارة فاخرة، فالأخلاق لم تعد تُكتسب، بل تُشترى.

 العولمة الرقمية: حين تصبح الأخلاق خوارزمية

لم تعد التكنولوجيا وسيطًا محايدًا، بل صارت لاعبًا في إعادة تعريف القيم:

 تفكيك الحقيقة:

انتشار “الشائعات الأخلاقية” في الفضاء الرقمي يُعيد تعريف مفهوم الحقيقة نفسها، عبر تحويل الأخلاق إلى سلعة قابلة للتلاعب الرمزي. فخوارزميات المنصات – التي تفضِّل المحتوى الاستفزازي – تُحوِّل القضايا الأخلاقية المعقدة إلى سرديات درامية مبسطة تنتشر كالنار في الهشيم (مثل اتهامات زائفة بالسرقة أو “فتاوى” افتراضية تُصنع حسب الطلب). هذه الظاهرة لا تُشوه الحقيقة فحسب، بل تُنتج “أخلاقيات الظل” وتعيد تشكيل الوعي الجمعي: فالحقيقة لم تعد مرتبطة بالوقائع، بل بمدى قدرة السردية على إثارة المشاعر أو تعزيز الانتماءات الهوياتية. النتيجة: تفكك المُشترك الأخلاقي، واستبدال الحوار العقلاني بصراعات افتراضية تُعمق الانقسامات المجتمعية.

أخلاقيات المشاهدة: تحويل المعاناة إلى سلعة

تحوَّل القضايا الاجتماعية الجوهرية (كالفقر) إلى “محتوى درامي” يَستهلكه الجمهور ببرودٍ عاطفيٍّ عبر الشاشات، يُنتج أخلاقيات وهمية تختزل التضامن في مشاهداتٍ عابرة أو إعجاباتٍ رقمية. فتحويل المعاناة إلى عروضٍ درامية مفتعلة – كحملات التبرعات المُبالغ في إخراجها، والتي تُحوِّل الأزمات إلى سلعٍ قابلة للتسويق – لا يُشوِّش فحسب على إدراك حقيقة القضايا، بل يختزل التضامن الإنساني في ممارسة استهلاكية تفتقر إلى الشفافية والالتزام الأخلاقي. هكذا تُعيد الرأسمالية الرقمية تشكيل الأخلاقيات عبر توظيف آليات “اقتصاد الانتباه”، حيث تُصبح القيمة الأخلاقية مرتبطةً بمدى انتشار المحتوى، لا بجدواه المجتمعية، مما يُعمِّق الفجوة بين الواقع المُعاش والتمثيل الافتراضي له.

الوهم التحرري الرقمي:

تروج المنصات الرقمية لخطاب تمكيني زائف بينما تُعيد إنتاج قيم الاستهلاك المفرط. يتم تسويق السلع الكمالية تحت شعارات براقة عن التحرر الفردي (كما في نماذج “المؤثرين”)، مما يعكس تناقضًا بين الخطاب التمكيني والممارسات الاستهلاكية.

نحو عقد اجتماعي جديد: أخلاقيات ما بعد السوق

ليس الحل في العودة إلى الماضي، ولا في الاستسلام للعولمة ولمنطق السوق، بل في إعادة هندسة الواقع:

 الإصلاح التربوي العملي:

لم يعُد التعليم يقتصر على نقل المعارف، بل أصبح وسيلةً لبناء وعي نقدي يُمكِّن الأفراد من تفكيك المُسلَّمات وفهم القيم كبُنى تاريخية واجتماعية متغيرة. لتحقيق ذلك، يجب إعادة هيكلة المنظومة التربوية عبر إدماج الفلسفة التطبيقية في المناهج الدراسية، وتحويل الفصول إلى فضاءاتٍ للنقاش الأخلاقي، وتجاوز ثنائية “الصواب والخطأ” نحو فهمٍ تاريخي للقيم. يتيح هذا النهج للتلاميذ إدراك أن القيم ليست مُطلقة، بل أدوات لفهم العالم والتفاعل معه، مما يسهم في تكوين مواطن قادر على التمييز بين الخطاب الأخلاقي الحقيقي وخطابات الهيمنة المقنّعة.

 التشريع الأخلاقي

·       ضبط الفضاء الرقمي: تبني قانون يُلزم المنصات الرقمية بمدونات أخلاقية، على غرار القانون الألماني (NetzDG). لمحاربة خطاب الكراهية، مع فرض عقوبات على المحتوى المُحرِّض للانقسام القيمي.

التمويل الأخلاقي للشركات: إلزام الشركات الكبرى بتخصيص نسبة من إعلاناتها لدعم مشاريع التضامن، كما في تجربة “الصندوق الخاص لتدبير ومواجهة وباء فيروس كورونا” في المغرب.

إعادة تعريف الكونية:

استلهام الحكمة المحلية: يمكن استلهام فلسفات مثل فلسفة “أوبونتو” (Ubuntu) الأفريقية، التي تقوم على مبدأ “أنا موجود لأننا موجودون”، لتُجسد رؤية أخلاقية تسهم في بناء نموذج أخلاقي شمولي يعزز التكامل الاجتماعي، ويقوم على التعاطف والتعاون والاحترام المتبادل.
تفعيل الحوار القيمي الوطني: إرساء آليات مؤسسية لتعزيز الحوار بين الأديان والتيارات الفكرية في المغرب، بما يضمن فهمًا أعمق للتغيرات الاجتماعية وتعزيز التعايش والتفاهم المشترك.
الأزمة الأخلاقية ليست حتميةً بقدر ما هي فرصة لإعادة تشكيل القيم بما يستجيب لتحديات العصر. في المغرب، يشكل التفاعل الخلاق بين الحداثة والإرث الثقافي أرضيةً لإرساء نموذجٍ أخلاقي متجدد، قادرٍ على مقاومة تغوّل السوق وتعزيز التماسك الاجتماعي.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *