تعليم بسرعتين: مدارس رائدة وأخرى راگِدة!
صحيح أن التعميم، لابد أن تسبقه محطة التجريب. وصحيح أنه قبل اختيار أي نموذج بيداغوجي للمدرسة المغربية؛ لابد أن يأخذ هذا الكثير والكثير من الوقت. لكن…
أليس من المفترض أن نُفكر، قبل الشروع في التنزيل، في الالتزام بكل المبادئ الجاعلة من التعليم يسير بسرعة واحدة؟ وما السبيل اليوم لتحقيق الإنصاف بين جميع المتعلمين بغض النظر عما إذا كانت مدارسهم رائدة أو راگِدة؟
أي متتبع للخطاب الرسمي، وآخره خطاب جلالة الملك محمد السادس. وأي قارئ للوثائق الرسمية المرجعية المؤطرة لإصلاح التعليم (الرؤية الاستراتيجية، خارطة الطريق…). سيجد رغبة جامحة في خلق تعليم واحد بسرعة واحدة. كما سيجد تداولا واسعا لعبارات من قبيل: الجودة، الإنصاف، تكافؤ الفرص وغيرها.
دون شك، الجميع يتغيا تنزيل إصلاح لتعليم يروم إعطاء نفس الانطلاقة للجميع، كما يضمن الترقي الاجتماعي عبر مؤسسة واحدة ووحيدة… وهي المدرسة. والكل يريد دمقرطة التعليم بين جميع أبناء المغاربة، ولا أحد يرغب في خلق مدرستين عموميتين بسرعتين متباينتين.
أحد المداخل، على الأقل، الضامن لتوحيد التعليم والتعلم بين جميع المتعلمين في مختلف ربوع المملكة، (مع احترام لخصوصية المناطق بشكل لا يضرب في مبدأ تكافؤ الفرص)؛ هو المنهاج الدراسي. هو عبارة عن وثيقة رسمية مؤطرة تُوحد مختلف المدخلات، العمليات والمخرجات التي تروم المدرسة – حسب طبيعة كل سلك – تحقيقها. هذا الأخير، يتضمن الأهداف، الكفايات، المحتوى، الطرائق وكل ما من شأنه توجيه، على حد سواء، عمل المدرس والمتعلم. بمعنى، من الواجب، أن نجد مدرسة في قلب مدينة الرباط، تعمل بنفس البراديغمات وتضمن نفس الكفايات، عبر نفس الطرائق والبيداغوجيات، التي تعمل بها مدرسة في مدينة الريش.
اليوم، يبدو أننا لازلنا، ربما، بعيدين عن خلق هذه المدرسة. فقد أفرز نظامنا التعليمي مدرستين:
مدرسة رائدة، تحدثنا عنها في جزء سابق بشكل عام، بغلاف زمني مختلف عن المتضمن في المنهاج، بمقاربات ونموذج تعليمي جديدين، تركيز على بعض المواد وبعض الكفايات، توفير عدة من تكنولوجيا المعلومات والاتصال داخل المؤسسة (مسلاط ضوئي، حاسوب للأساتذة، دروس على شكل شرائح PowerPoint جاهزة…)، تتبع ومواكبة مستمرتين من لدن المفتشين، الذين أصبحوا يلعبون دور المصاحبين، تقييم مستمر للمدارس حسب درجات والألوان بتراتبية تميز بين الناجحة منها وغير الناجحة في معالجة التعثرات…
ومدرسة أخرى لا أعلم ماذا سأسميها: عادية؟ تقليدية؟ سنسميها راگِدة. لازلت تعمل وفق تصور المنهاج، تشتغل على جميع المواد بنفس المقاربات، لا تتوفر على الحد الأدنى اللازم من تكنولوجيا المعلومات والاتصال، لازال فيها دور المفتش تقليديا يُقيم، وفقط، عمل المدرس. تغيب فيها المقاربات المنزلة داخل المدرسة الرائدة الرامية لمعالجة التعثرات.
أول مسألة نسجلها، غياب تعميم نموذج المدارس الرائدة على جميع الأسلاك، فإذا كان المبرر الداعي لاعتمادها هو معالجة التعثرات العميقة، فإن هذه التعثرات ليست حكرا على سلك التعليم الابتدائي، بل إن نسبة مهمة من الهدر أيضا، مرتبطة بتعثرات تفرزها أسلاك أخرى. صحيح أن هنالك محاولات مُحترمة حاليا لتجريبها في السلك الثانوي الإعدادي، إلا أن الوثيرة بطيئة والإيقاع جد منخفض، ولا يوجد تصور نفهم من خلاله مدى الرغبة في اعتمادها وبالتالي تعميمها، كأن الغرض هو التركيز فقط على فترة التعليم الأساسي (من 4 إلى 16 سنة) من حياة كل متعلم، والتي لا تؤهله للانخراط في سوق الشغل الحالي نظرا للتطورات السريعة التي تتجاوزنا جميعا.
في التعاطي مع حاجات المتعلمين، بداية كل سنة، يتم التعامل مع كل متعلم حسب مستواه الحقيقي، تنزيلا لمقاربة التدريس وفق المستوى المناسب (انظر المقال السابق) لا حسب مستواه الدراسي. الشيء الذي يجعله قادرا على معالجة تعثراته وتأهيله لمواصلة تعلمه بشكل جيد. يخدم هذا بشكل واضح، مبدأ الإنصاف بين المتعلمين، بحيث تُقدم لهم عدة تتضمن أنشطة ولبنات معتمدةً على فارقية منصفة. هذا بالنسبة للمدارس الرائدة.
بالنسبة (للراگدة)، لازال العمل تقليديا، يستند على تقويم تشخيصي للمستلزمات في عدد من المواد، على شكل اختبارات تُفيئ المتعلمين إلى ثلاث درجات تقليدية: (متحكم، في طور التحكم، متعثر)، دون تقديم أي عدة للأساتذة، اللهم اجتهاداتهم الشخصية. كما يتم التعامل مع المتعلمين حسب مستوياتهم الدراسية، بغض النظر عن حجم تعثراتهم.
طبيعة المواد المُركز عليها في المدرسة الرائدة؛ هي المواد الأداتية (العربية، الفرنسية، الرياضيات)، وذلك لعدد من الاعتبارات، جزء منها، مرتبط بالفكرة القائلة بأن: لا يمكن تحقيق باقي الكفايات لباقي المواد، دون التحكم المطلق في الكفايات الأساسية (قراءة، كتابة، حساب) والتي تضمنها هذه المواد. بيد أن باقي المواد الأخرى؛ لا يتم التركيز عليها بالشكل الكافي، نظرا لحجم الوقت الكبير الُموفر للمواد الأداتية على حساب الأخرى. في حين، في المدارس العادية (الراڭِــدة) يتم التقيد بالغلاف الزمني المبرمج في المنهاج، الشيء الذي لا يجعل المتعلم يركز على صنف واحد من المواد وبالتالي الكفايات. هذا بالضبط، ما يخلق ملمحين لمتعلمين مختلفين، في تجاوز سافر، لكل المراجع المؤطرة للإصلاح، والتي تدعو لتوحيد الكفايات لتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص.
كما أن هناك حيف مُلاحظ في صفوف المتعلمين المتفوقين، إذ أن مستواهم يصبح عاديا – حسب شهادات بعض السادة الأساتذة – نظرا للأنشطة (المبتذلة) التي تُركز فقط على المتعثرين، لأن أساس هذا النموذج المدرسي، مبني أصلا على معالجة التعثرات العميقة، مما يُخل بمبدأ الإنصاف القائم على التجاوب والاستجابة مع مختلف حاجات ومستويات المتعلمين. بالتالي، تصبح هذا الأخيرة منتجة لصنف واحد من المتعلمين وبمستوى واحد.
في مسألة الإبداع، تحسب هذه النقطة لصالح المدارس العادية، التي، لا تُقيد البتة عمل المدرس بشرائح وأنشطة مبرمجة، لا يتدخل في تصميمها ولا تعديلها، اللهم في تنزيلها، بخلاف المدرسة الرائدة التي لا تسمح بهامش الحرية للمدرس، مما جعل منطق تطوير الأداء المهني ينتقل من هاجس تحقيق المهننة، إلى المكننة، جاعلا هذا الأخير (المُدرس)، يسقط في أنشطة روتينية متكررة تُعكر صفو ومناخ القسم بشكل عام. ولا تحفز المدرس على الاجتهاد والتفكير في أنشطة وطرائق متنوعة.
صحيح أن التعميم، لابد أن تسبقه محطة التجريب. وصحيح أنه قبل اختيار أي نموذج بيداغوجي للمدرسة المغربية؛ لابد أن يأخذ هذا الكثير والكثير من الوقت. لكن، أليس من المفترض أن نُفكر قبل الشروع في التنزيل في الالتزام بكل المبادئ الجاعلة من التعليم يسير بسرعة واحدة؟ وما السبيل اليوم لتحقيق الإنصاف بين جميع المتعلمين بغض النظر عما إذا كانت مدارسهم رائدة أو راگِدة؟