تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. عثمان بن عفان: الولاية والنهاية (الجزء 5)
على امتداد فترة لم تتجاوز الـ 12 سنة، سيبدأ عثمان بن عفان حكايته خليفة للرسول، وسينتهي عنوانا لفتنة وخلاف، و”قميصا” مرفوعا باسم الثأر والاستفراد بالحكم.
خليفة، اتهمه خصومه بالفساد وتبديد المال العام ومحاباة بني أمية، وانتهى به المطاف مقتولا ومدفونا بطريقة في غاية الغرابة.

ثالث الخلفاء “الراشدين”. أبو عمرو، وأبو عبد الله، القرشي الأموي.
سمي “ذو النورين” لأنه تزوج من ابنتي الرسول، أم كلثوم ورقية.
لقب أيضا بـ “صاحب الهجرتين” لأنه هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة.
وهو “أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة، أصحاب الشورى” الذين أوكل لهم أبو بكر أمر تعيين الخليفة بعده.
وهو، أحد “الأئمة المهديين، المأمور باتباعهم والاقتداء بهم”.
رابع من أسلم حسب ادعائه هو نفسه، وذلك قبل أن يجهر الرسول بالدعوة. وكان سبب إسلامه، أنه “لما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج ابنته رقية (..) من ابن عمها عتبة بن أبي لهب، تأسف إذ لم يكن هو تزوجها”. فلما عاد إلى بيته، لقي خالته الكاهنة، التي نبأته ببعثة الرسول، وهو أيضا ما أكده له أيضا أبو بكر، ودعاه إلى الاجتماع به. فكان أن أسلم وحسن إسلامه.. وتزوج بعد ذلك من رقية.
فلما “كانت وقعة بدر اشتغل بتمريض ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام بسببها في المدينة”. ثم “شهد أحدا وفر يومئذ فيمن تولى، وقد نص الله على العفو عنهم”. كما أنه “تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها”.
لكنه شهد “الخندق والحديبية (..) وشهد خيبر وعمرة القضاء، وحضر الفتح وهوازن والطائف وغزوة تبوك، وجهز جيش العسرة”، لكن الظاهر أنه لم يحارب في أي من تلك المشاهد.
الإسهام الحقيقي والأوحد لعثمان، على ما يبدو، تجلى في كونه الممول الرسمي للرسول، خلال الغزوات الأولى.
وهو ما حذا بالرسول نفسه إلى القول: “ما ضر عثمان ما فعل بعد هذا اليوم”. أي يوم أن جهز جيش العسرة في تبوك بـ “بألف دينار”.
هذا السخاء المبالغ فيه روائيا، كان بمثابة استثمار في مشروع توسعي، إن نجح، سيحار المرء بين “من أخذ ممن لم يأخذ”. وإن فشل فلن تكون النهاية.
يرتبط اسم عثمان أيضا بواقعة ردة وفرار عبد الله بن أبي سرح، كاتب الرسول والمالك للحقوق الحصرية، لعبارة “تبارك الله أحسن الخالقين”.
ذلك أن عبد الله، في لحظة انبهار بآية “ثم خلقنا النطفة علقة…” (المومنون – 14)، قال: “تبارك الله أحسن الخالقين”. فانبهر الرسول بالرد وأمر: اكتبها، فقد نزلت كذلك. انصدم عبد الله وتعطلت كل عداداته: كيف أكتب عبارة من وحي إعجابي بكلام الله، ضمن كلام الله، على لسان رسوله؟
ارتد عبد الله وفر إلى ذويه في مكة. وأهدر الرسول دمه.
ويوم الفتح أمسكه عثمان من يده واقتحم به جحافل المبايعين، وطلب من الرسول، بما يشبه الأمر، أن يبايعه. فتم ذلك، ولو على مضض.
بخصوص طريقة توليته، فقد سبق الحديث عن اللجنة السداسية التي عينها عمر بن الخطاب من أجل اختيار الخليفة بعده، مضاف إليها عبد الرحمن بن عمر، الذي تبوء يوم التعيين “مقعد النبي صلى الله عليه وسلم وأجلس عثمان تحته على الدرجة الثانية”!
لذلك أشير فقط إلى أن أول ما أوخذ على عثمان بعد توليه، هو العفو عن عبيد الله بن عمر، الذي قتل الهرمزان، وكان قد أسلم حديثا، وابنة أبي لؤلؤة، وجفينة “النصراني” انتقاما لمقتل أبيه عمر، رغم عدم ثبوت ضلوع أي منهم في الاغتيال.
وقد كان مبرر عثمان في ذلك، أنه بعد مصيبة مقتل عمر، لا يليق قتل ابنه أيضا!
إنجازاته
على خلاف عمر، الذي كان حضوره لافتا في كل صغيرة وكبيرة، يمكننا الجزم بأنه لم يكن لعثمان أية إنجازات تذكر، إن استثنينا بعض المحاولات الإنشائية لتلميع لصورته. من قبيل “فتح الله على يديه كثيرا من الأقاليم والأمصار، وتوسعت المملكة الإسلامية، وامتدت الدولة المحمدية، وبلغت الرسالة المصطفوية في مشارق الأرض ومغاربها”.
بل يمكن أن ندفع بأن عثمان كان أسوء خليفة “راشد”، وانتشر الفساد في عهده. وهذه فقط عينة من تمظهرات هذا الفساد التي حاول الرواة، فيما بعد، إما إهمال الحديث عن أغلبها عمدا، وإما تبريرها بشكل فج بل ومفضوح.
– كان عثمان “يؤثر أهله وأقاربه في الله، تأليفا لقلوبهم من متاع الحياة الدنيا الفاني، لعله يرغبهم في إيثار ما يبقى على ما يفنى”.
الإيثار في الله! أو هكذا حاول ابن الأثير أن يضفي على الفساد مسحة من طهرانية مقيتة، بعقد مقارنة غاية في المكر، بين نهب عثمان وأهله لأموال المسلمين، وبين ما كان الرسول يعطي للمؤلفة قلوبهم، لتحبيبهم في الإسلام و “خشية أن يكبهم الله على وجوههم في النار” و “يكل آخرين (أي من آمنوا) إلى ما جعل الله في قلوبهم من الهدى والإيمان.
على كل، فالمقدمات الفاسدة لا يمكن أن تنتج سوى الفساد، أيا كانت التبريرات.
– وعد عثمان أخاه المدلل (ابن أبي سرح) بخمس الغنائم، إن هو افتتح إفريقية، وهو ما كان.
ثم إن عبد الله صالح أهل إفريقية على “ألفى ألف دينار وعشرين ألف دينار” أي أزيد من مليوني دينار، أطلقها كلها “عثمان في يوم واحد لآل الحكم، ويقال لآل مروان”.
– مما نقم عليه أيضا عزله لسعد بن أبي وقاص عن الكوفة وتولية “الوليد بن عقبة بن أبي معيط”، بداعي أن سعدا كان عليه دين لأحدهم ولم يتيسر له قضاؤه في الأجل المحدد! وعزل عمرو بن العاص عن ولاية مصر بداعي فساده ثم تولية الأفسد منه، عبد الله بن أبي سرح مكانه.
– “قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان، فوهبها لبعض بني الحكم”.
– أقطع عثمان موضعا يعرف بمهزور لـ “الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم. وأقطع مروان فدك”. للإشارة ففدك هي الأرض التي كانت فاطمة قد طالبت عُمرَ بها.
– منع “المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم، إلا عن بنى أمية”.
– أعطى “أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال، في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال”.
– “أتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة، فقسمها كلها في بنى أمية”.
– عزل كل ولاة الأقاليم السابقين وعين بدلهم المخلصين له من بني أمية.
فضلا عن كونه سير أبا ذر “إلى الربذة، وضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر أضلاعه”.
هده الممارسات، وغيرها كثير، سهلت على الغاضبين والمتربصين بحكمه، تأليب جميع الأمصار عليه. وصارت نهاية حكمه وحياته مسألة وقت، ليس إلا.
مقتل عثمان
جند محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة ستمائة راكب إلى المدينة. وعندما دخلوها، أمر عثمان عليا بأن يردهم. فذهب إليهم وناظرهم، فتعللوا بما فعله عثمان من حرمان أغلب الصحابة الكبار من العطاء وتفضيله لبني أمية، وغدره بمحمد بن أبي بكر وحرق القرآن وغير ذلك. فتعذر علي بن أبي طالب قدر ما استطاع، بمبررات يستند أغلبها لما فعله الرسول من قبل، وانتهى بإقناعهم بالرجوع. ثم عاد إلى عثمان فنصحه بأن يخطب على الناس ويعتذر لهم “مما كان وقع من الأثرة لبعض أقاربه” ويعاهدهم على “الاستمرار على ما كان عليه من سيرة الشيخين قبله”، ففعل عثمان.
لكن مروان بن الحكم خرج إلى بعض من كان مرابطا أمام بيت عثمان، فأغلظ لهم القول، “فرجع الناس” واشتكوا لعلي، فجاء إلى عثمان مغضبا فقال: “أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحويلك عن دينك وعقلك؟! وإن مثلك مثل جمل الظعينة سار حيث يسار به، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه، وأيم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت سوقك، وغلبت على أمرك”. ثم انقطعت قناة التواصل بين علي وعثمان.
المثير في الأمر أن أهل مصر كانوا مصرين “على ولاية علي بن أبي طالب، وأهل الكوفة عازمون على تأمير الزبير، وأهل البصرة مصممون على تولية طلحة، لا تشك كل فرقة أن أمرها سيتم”.
هكذا، “زحفوا على المدينة وأحاطوا بها، وجمهورهم عند دار عثمان بن عفان، وقالوا للناس: من كف يده فهو آمن، فكف الناس ولزموا بيوتهم، وأقام الناس على ذلك أياما”.
أتوقف هنا قليلا لأذكر بأن المصريين، في طريق عودتهم، إثر وساطة علي، “وجدوا في الطريق بريدا (مرسولا) يسير، فأخذوه ففتشوه، فإذا معه في إداوة (كيس من جلد) كتابا على لسان عثمان، فيه الأمر بقتل طائفة منهم، وبصلب آخرين، وبقطع أيدي آخرين منهم وأرجلهم، وكان على الكتاب طابع بخاتم عثمان، والبريد أحد غلمان عثمان وعلى جمله”، فلما واجهوا عثمان بكل هذه القرائن، أنكر واتهم مروان بأنه زور عليه كل هذا.
حينها، “لزم كثير من الصحابة بيوتهم” وسار إلى عثمان بعض أبناء الصحابة، و “طلبوا منه إما أن يعزل نفسه، أو يسلم إليهم مروان بن الحكم”. ومنهم من طالبه بأن “يعزل نوابه عن الأمصار ويولي عليها من يريدون هم”. فرفض عثمان تسليمهم مروان، وعلق على طلبهم له بخلع نفسه بالعبارة الشهيرة: “أما أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لأخلع سربالا سربلنيه الله عز وجل” وفي رواية أخرى قال: “والله لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إليَ من أن أخلع قميصا قمصنيه الله”.
استنجد عثمان طبعا بمعاوية لكن الأخير ماطل وتلكأ. واستنجد بولاته في البصرة والكوفة، فبعثوا بجيوشهم بعد فوات الأوان.
أثناء ذلك، دخل محمد بن أبي بكر على عثمان، “فأخذ بلحيته فعال بها حتى سمعت وقع أضراسه، فقال: ما أغنى عنك معاوية، وما أغنى عنك ابن عامر، وما أغنت عنك كتبك؟”. وأهوى عليه “بمشاقص (سهام) معه فيجاء بها في حلقه”، ثم “أتاه رجل بيده جريدة يقدمهم حتى قام على عثمان فضرب بها رأسه فشجه، فقطر دمه على المصحف حتى لطخه، ثم تعاوروا عليه فأتاه رجل فضربه على الثدي بالسيف”.
وجاء آخر، فضربه “بحربة وبيده السيف صلتا (..) ثم جاء فضربه به في صدره حتى أقعصه، ثم وضع ذباب السيف في بطنه واتكى عليه وتحامل حتى قتله”.
وقد ذكر أنه، بعد وفاته، مكث “ثلاثة أيام لا يدفن”، لأن الناس، ولعجيب الصدف، كانوا منشغلين عنه “بمبايعة علي”. وقد “زعم بعضهم أنه لم يغسل ولم يكفن”. كما ادعى بعضهم بأنه دفن ليلا في حش كوكب. وهي مقبرة كانت مخصصة لليهود.
بهذه المشاهد الدرامية المروعة، انتهت ولاية حُكم ثالث خليفة راشد. لكن وجب التنبيه إلى أن فساد عثمان وبطانته، لم يكن العامل الوحيد ولا الرئيسي في تمرد عامة الناس والنافذين عليه. ذلك أن فترة حكمه شهدت نشوء طبقة جديدة من أبناء الصحابة الذين كان كل منهم يرى أن صحبة والده للرسول، تمنحه الشرعية للمطالبة بالحكم. ولذلك ساروا، في مصر وغيرها، “يؤلبون الناس على حربه والإنكار عليه”.
هذا دون أن ننسى دور عائشة في التأليب على عثمان منذ البداية. ورغم تكتم الرواة ومراوغاتهم بخصوص الأسباب الحقيقية لنشوب الخلاف بينهما، فقد رشحت عن ذلك الصراع، مقولة شهيرة لعائشة: “اقتلوا نعثلا، قتل الله نعثلا”، وفي عبارة أخرى “اقتلوا نعثلا فقد كفر”. “ولما بلغها قتله فرحت بذلك، ثم سألت: من تولى الخلافة؟ فقالوا: علي. فخرجت لقتاله على دم عثمان”!
للإشارة فالنعثل لغة هو الضبع، وقد كان يشار بهذا الإسم إلى يهودي متشرد قيل إن الرسول شبه عثمان به.
ولتلخيص هذا الصراع الشائك حول السلطة، أشير في الأخير، لحديث بالغ الدلالة. فقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال، حين سئل عمن قتل عثمان: “قتله سيف سلته عائشة، وشحذه طلحة، وسمه علي. قلت: فما حال الزبير؟ قال: أشار بيده، وصمت بلسانه”. هذا دون الحديث عن دور محمد بن أبي بكر، كما سلف.
أما دور علي، فسيأتي الحديث عنه في حينه.
نصان على الهامش
1- استأذن أبو بكر “على رسول الله (ص) وهو مضطجع على فراشه، لابس مرط عائشة” فاستقبله وهو على تلك الحال، وقضى حاجته وانصرف. وكذلك كان بالنسبة لعمر. وحين استأذن عليه عثمان، قال لعائشة: “اجمعي عليك ثيابك”. فلما انصرف عثمان قالت عائشة: “يا رسول الله! ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر، كما فزعت لعثمان؟ قال رسول الله (ص): إن عثمان رجل حي. وإني خشيت، إن أذنت له على تلك الحال، أن لا يبلغ إلي حاجته”!
2- فر معاوية بن المغيرة الذي كان متهما بالتجسس على الرسول، من معركة أحد واختبأ عند عثمان، فأبلغت عنه رقية، وسحب من بيته وأعدم. “فضرب عثمان بنت رسول الله (ص) وقال: أنت أخبرت أباك بمكانه. فبعثت إلى رسول الله (ص) تشكو ما لقيت”. فأهملها ثلاث مرات، وفي الرابعة أرسل عليا فخلصها من قبضته. “فلما نظرت إليه، رفعت صوتها بالبكاء واستعبر رسول الله (ص) وبكى، ثم أدخلها منزله، وكشفت عن ظهرها. فلما أن رأى ما بظهرها قال ثلاث مرات ما له قتلك قتله الله”.
وبات عثمان تلك الليلة “متلحفا بجاريتها”. فمكثت رقية “الإثنين والثلاثاء وماتت في اليوم الرابع”. – بحار الأنوار للمجلسي.
لقراءة الجزء الأول: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. مقدمة لابد منها
لقراءة الجزء الثاني: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. ولاية أبي بكر الصديق
لقراءة الجزء الثالث: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. ولاية عمر بن الخطاب
لقراءة الجزء الرابع: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. عمر بن الخطاب، من توسع الخلافة إلى الاغتيال
المراجع:
البداية والنهاية لابن كثير – الحاوي الكبير للماوردي – بحار الأنوار للمجلسي – تاريخ الإسلام للذهبي – تاريخ الطبري
تاريخ أبي الفداء – تاريخ دمشق لابن عساكر – سير أعلام النبلاء للذهبي – شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
صحيح مسلم – كنز العمال للمتقي الهندي