زياد الرحباني… تلك الأغنية التي حملت أوجاع الناس
في 25 من يوليوز 2025، رحل زياد الرحباني، غاب الجسد، غير أن غيابه لا ينفي حضوره، سيظل زياد الرحباني صاخبا في عقولنا رغم وفاته، سيظل بموسيقاه وموقفه ونقده وسخريته حاضرا في الذاكرة، في الأغنية، في المسرح الذي جسد آلامنا وأحلامنا وآمالنا
رحل زياد الرحباني…
رحل زياد جسدا، لكنه بَقي فِكرا، على حد تعبير غسان كنفاني، “تسقط الأجساد لا الفكرة”. صوتُه سيظل معلقا على جدران ساحة النجمة في وسط بيروت، وستحملهُ الذاكرة إلى شارع الحمرا، وسيُكتب اسمه بحبر الخلود بأروقة متحف سرسق.
أن تكُون موسيقيا أو مُلحنا أو عازفا، لم يكن يعني فقط، عند زياد، أن تُطرب أو أن تبدع ألحانا، لكن أن تَحمل قضية وموقفا، وزياد اختار الانحياز للحرية، للإنسانية، للفقراء والكادحين… اختيار سيجعلهُ حيا في ذاكرة المقهورين.
البدايات…
وُلد زياد الرحباني في الأول من يناير 1956 في بلدة أنطلياس، قضاء المتن بمحافظة جبل لبنان.
من حُسن حظ الرجل أنه وُلد في بيت مُشبع بالموسيقى والفن، فهو الابن البكر للموسيقار “عاصي الرحباني”، و”سيدة الصباح”، كما يُحب محبوها وصفها، “فيروز”… في هذا البيت الغارق بالموسيقى، وُلد ونشأ زياد الرحباني، لكن الفتى لم يقُل “كان أبي”، بل كان المتمرد الذي أراد أن يَخط لنفسه مسارا آخر.
تلقى زياد تعليمه الابتدائي في مدرسة “جبل أنطلياس” الكثالوليكية”، قبل أن يتنقل إلى مدرسة “اليسوعية” في بيروت.
إلى جانب ذلك، درس زياد الرحباني الموسيقى الكلاسيكية والجاز، وتعلم التأليف الموسيقي ذاتيا معتمدا على تأملاته في أعمال والده وعمه.
من بوابة الأدب، بدأ زياد الرحباني مسيرته الفنية، إذ كتب بين عامي 1967 و1968 نصوصا شعرية بعنوان “صديقي الله”، والتي رأى فيها النقاد بداية لموهبة شعرية متدفقة، قبل أن يُحول الدفة نحو الموسيقى والتأليف المسرحي.
برزت موهبة الرحباني الموسيقية في سن الخامسة عشر من عمره، حين لحّن أولى أغنياته بعـنوان “ضلّك حبيني يا لوزية” سنة 1971. إلا أن الشارع اللبناني والعربي سيعرفُ زياد الرحباني، حين لحن أغنية “سألوني الناس” التي أدتها والدته فيروز سنة 1973… الأغنية التي كتب كلماتها منصور الرحباني، عبرت عن مشاعر فيروز خلال غياب زوجها عاصي الرحباني بعد دخوله المستشفى.
الأغنية كانت جزءا من مسرحية “المحطة”، والتي سيلعبُ فيها زياد دور الشرطي… ستؤسس لعلاقة فنية بين فيروز وابنها زياد وترسمُ ملامح مسيرة فنية بينهما، كان أبرزها “عندي ثقة فيك“، “ضاق خلقي“، “حبوا بعضن“، “أنا عندي حنين“، و”البوسطة” في شراكة فنية استثنائية جمعتهما.
في مسرحية “ميس الريم“، سيظهر بشكل جلي أسلوب زياد الرحباني المفارق لمدرسة والديه. حينها، وفي سن الــ 19، لحن زياد الرحباني المقدمة الموسيقية للمسرحية، وأدخل خلالها أساليب تلحين غير معتادة على عروض الرحابنة، فكان يمزج بين الموسيقى الحزينة والمتأملة الهادئة.
بين المسرح والتلحين والعزف…
أحدث زياد الرحباني تحولا مهما في شكل المسرح اللبناني، إذ ابتعد به من النمط التخيلي ، إلى مسرح يعكس حياة الناس اليومية، خصوصا في ظل أجواء حرب أهلية أكلت الأخضر واليابس، ليصبح زياد صوتا يعبر عن آلام وآمال جيل تقاذفته أهوال الحرب والضياع.
قدم مسرحيات لاذعة وناقدة، من بينها: “بالنسبة لبكرا شو“، “نزل السرور“، “فيلم أمريكي طويل“، “بخصوص الكرامة والشعب العنيد“، و”لولا فسحة الأمل“. أعمال مسرحية كُتبت بلغة الناس، بأتراحهم وأفراحهم، لكنها مست موضوعات عدة، كان أبرزها النقد الجارح للطائفية والفساد الذي ينخرُ السلطة، بل وانتقد بأسلوب عبثي وضع المثقف والسياسي والنخبة في ظل الحرب.
إلى جانب ذلك، أصدر مجموعة من الألبومات التي حملت ألحانه: “أنا مش كافر“، “إلى عاصي“، “مونودوز“، “هدوء نسبي“… إصدرات بصمت على تحولات فارقة في مجرى الموسيقى العربية، إذ أدخل عناصر الجاز والأنماط الغربية إلى الموسيقى الشرقية، ما شكل نهجا جديدا في الموسيقى العربية.
زياد الرحباني… الوجه الثاني
إلى جانب الموسيقى والفن، عُرف زياد الحرباني بعلاقته الطويلة بالسياسة، حيث كان شيوعي الهوى، وظل منخرطا في الحزب الشيوعي اللباني طول حياته… اصطفاف يساري بالموقف لا بالنظري، فجاءت بذلك أعماله وخرجاته وتصريحاته لاذعة.
كان انحياز الرحباني إلى الفقراء والمظلومين بوصلة مواقفه كُلها. لم يتردد الرجل في السخرية من الجميع، حتى في أشد لحظات الحرب، ما أظهر جرأة وقدرة دون مواربة أو مراوغة.
ساند القضية الفلسطينية منذ بداياتها، وأدان مجازر المخيمات، وانتصر لمقاومة كل من الاحتلال والاغتراب الهوياتي، ورفع صوته عاليا ضد الفساد في وطنه، وتعرية تناقضات السياسيين بسخرية سوداء.
رغم نقده الساخر، كان الرجل يُحس بحرقة على البلد.
من تعليقاته الساخرة اللافتة أيضا، قوله إن “الإنسان متى عرف الحقائق سقط عن سرير الأحلام”. وقال في سياق مماثل وبأحاسيس مليئة بالشكوك والأشواك: “حائرٌ أنا بين أن يبدأ الفرح وألاّ يبدأ مخافةَ ينتهي”.
انتقد الرحباني بشدة استغلال الناس باسم الدين ودعوتهم لتقبل حياتهم البائسة من منطلق الصبر والبلاء، فقال
أنا مش كافر بس الجوع كافر
أنا مش كافر بس المرض كافر
أنا مش كافر بس الفقر كافر والذلّ كافر
أنا مش كافر
لكن شو بعملّك إذا اجتمعوا فيّي
كل الإشيا الكافرين
يللي بيصلّي الأحد ويللي بيصلي الجمعة
وقاعد يفلح فينا على طول الجمعة
هوّ يللي ديّن قال وأنا يللي كافر عال
راجعوا الكتب السماوية راجعوا كلام القادر
جسد زياد المثقف والمبدع، معنى الإخلاص والثبات على المواقف… معنى أن تصطفَّ بعيدا عن البحث عن أي مكاسب مادية أو امتيازات.
وقف زياد على نفس المسافة من الجميع، عارض اليمين وانتقد اليسار… لم ينتصر قط لغير لبنان والناس… ونفسه
جاي مع الشعب المسكين
جاي تعرف أرضي لمين
لمين عم بموتوا ولادي بأرض بلادي جوعانين
يصعب جدا أن تُلخص حكاية زياد الرحباني في بضعة سطور، وصعبٌ جدا أن تلخص معنى كل ذلك الحزن الذي اجتاح الناس عند إعلان وفاته. لكن، لنقل… هو ذاك الإنسان الذي ظل صامدا.