تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. عمر بن الخطاب، من توسع الخلافة إلى الاغتيال (الجزء 4)
في تاريخ الخلافة، يظل عمر بن الخطاب واحدا من أهم الملفات المفتوحة على الكثير من الأسئلة…
شدة عمر مع الجميع، وحدة مزاجه، سببا له الكثير من الصراعات مع أقرب الصحابة للرسول، حتى أن أغلبهم لم يفوت الفرصة للشكوى من ممارساته، بالرغم من ضرورة التحفظ، وبالرغم من محاولات الرواة التقليل من حدة بعض المواقف.
سيرة مليئة بالأسئلة، انتهت بلغز أكبر… هو حادثة اغتياله في المسجد أما الجميع.

في الجزء الثالث من هذا الملف، توقفنا عند ظروف وسياقات إسلام عمر بن الخطاب وتليه الخلافة، عند أهم إنجازاته الداخلية وعلاقاته بالمجتمع والفاعلين السياسيين الذين عايشوه.
في هذا الجزء الرابع، نواصل التنقيب في سيرة عمر بن الخطاب، ونتوقف عند أهم إنجازاته الخارجية وملابسات مقتله.
إنجازات عمر خارجيا
الفتوحات
– فتحت على يديه دمشق “سنة 14 وقائد الجيوش خالد بن الوليد”، واليرموك “سنة خمس عشرة وعلى المسلمين أبو عبيدة بن الجراح”، والقدس في السنة السادسة عشر ومصر سنة عشرين. إضافة لمدن أخرى مثل تكريت والموصل والبصرة في العراق، وتستر ونهاوند في إيران.
العهدة العمرية
بعد “فتح” القدس، فرض عمر على المسيحيين التوقيع على عهدة، هذه أهم مقتضياتها: “إنا سألناك الأمان لأنفسنا وأهالينا وأموالنا وأهل ملتنا على أن نؤدي الجزية عن يد ونحن صاغرون (..) ولا نضرب فيها بالنواقيس إلا ضربا خفيا، ولا ترفع فيها أصواتنا بالقراءة ولا نؤوي فيها ولا في شيء من منازلنا جاسوسا كعدوكم ولا نحدث كنيسة ولا ديرا ولا صومعة ولا قلاية (صومعة) ولا نجدد ما خرب (..) ولا نظهر شركا ولا ندعو إليه، ولا نظهر صليبا على كنائسنا ولا في شيء من طرق المسلمين وأسواقهم، ولا نتعلم القرآن ولا نعلمه أولادنا، ولا نمنع أحدا من ذي قراباتنا الدخول في الإسلام إن اراد ذلك، وأن تجز مقادم رؤوسنا ونشد الزنانير (أحزمة) في أوساطنا، ونلزم ديننا ولا نتشبه بالمسلمين في لباسهم ولا في هيئتهم ولا في سروجهم ولا نقش خواتيمهم، فننقشها عربيا، ولا نكتني بكناهم، وأن نعظمهم ونوقرهم ونقوم لهم من مجالسنا ونرشدهم في سبلهم وطرقاتهم، ولا نطلع في منازلهم ولا نتخذ سلاحا ولا سيفا، ولا نحمله في حضر ولا سفر في أرض المسلمين ولا نبيع خمرا ولا نظهرها، ولا نظهر نارا مع موتانا في طرق المسلمين، ولا نرفع أصواتنا مع جنائزهم، ولا نجاور المسلمين بهم ولا نضرب أحدا من المسلمين ولا نتخذ من الرقيق (الطريق في الأصل) بيتا جرت عليه سهامهم. شرطنا ذلك كله على أنفسنا وأهل ملتنا فإن خالفناه فلا ذمة لنا ولا عهد وقد حل لكم منا ما يحل لكم من أهل الشقاق والمعاندة”.
علاوة عن كونه اشترط “على أهل الذمة إصلاح القناطر والضيافة يوم وليلة وإذا قتل رجل من المسلمين في أرضكم فعليكم ديته”.
أخرب الله مصر
كتب عمر إلى ولاته في كل الأمصار يأمرهم بإرسال إمدادات، بسبب المجاعة التي ضربت سكان المدينة، وحين اقترح عليه عمرو بن العاص حفر نهر يصل النيل بالبحر الأحمر، لتسهيل وصول الإمدادات في أقرب وقت ممكن، أجابه عمر: “اعمل فيه وعجل، أخرب الله مصر في عمران المدينة وصلاحها”.
مصير الأموال المتحصلة من الغزوات.
– لما افتتح عمر الشام، قام إليه بلال فقال: “اقسمها بيننا وخذ خمسها”. وفي حديث آخر قال: “لتقسمنها أو لنضاربن عليها بالسيف”. فرفض عمر وقال. “اللهم اكفني بلالا وذويه”. قال الراوي: “فما حال الحول ومنهم عين تطرف”.
المعروف أن بلالا عاش بعدها بسنوات لكن المجهول هو كيفية تقسيم الغنائم المتنازع فيها.
– روي أن “عمر بن الخطاب قسم أرض السواد (العراق) بين غانميها وحائزها ثم استنزلهم بعد ذلك عنها واسترضاهم منها”. نعرف أن غانميها هم المثنى بن حارثة وجنوده، لكننا نجهل بم استرضاهم عمر.
وعموما، فإن تراجع عمر عن تقسيم الغنائم بين المحاربين، نموذج واضح للتخبط بين الطريقة البدائية لتقسيم الغنائم، وضرورة استفادة الدولة الناشئة من عائدات الحروب بشكل معقلن، ولو في أدنى الحدود.
– “كان السلب المتحصل من وقعة جلولاء ثلاثين ألف ألف” قرر عمر أن يقسمه بين غانميه. لكن، حين كُشف عن محتواه ونظر “إلى ياقوته وزبرجده وذهبه الأصفر وفضته البيضاء، بكى عمر”. وحين سألوه عن السبب قال: “تالله ما أعطى الله هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقي بأسهم بينهم”. ثم “قسمه كما قسم أموال القادسية” أي مرة أخرى، حسب الأسبقية في الإسلام والقرب من النبي. بل إنه تم تقسيم راية فارس الكبرى، التي كانت بطول اثني عشر ذراعا وعرض ثمانية، ومرصعة بالياقوت واللؤلؤ، وأنواع الجواهر، على المحاربين.
خلافات عمر مع الصحابة
شدة عمر مع الجميع، وحدة مزاجه، سببا له الكثير من الصراعات مع أقرب الصحابة للرسول، حتى أن أغلبهم لم يفوت الفرصة للشكوى من ممارسات عمر معهم، بالرغم من ضرورة التحفظ، وبالرغم من محاولات الرواة التقليل من حدة بعض المواقف. وهذه أهمها.
خالد بن الوليد
كان أول قرارات عمر بعد استخلافه، أن عزل خالد بن الوليد عن قيادة جيوش الشام. ليس بالضرورة بسبب المجازر التي اقترفها في حق المسلمين الرافضين لأداء الزكاة، كما يشاع. وهذه بعض المؤشرات الدالة على ذلك:
– “اصطرع عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وهما غلامان. وكان خالد ابن خال عمر، فكسر خالد ساق عمر، فعولجت وجبرت وكان ذلك سبب العداوة بينهما”.
– طلب عمر من أبي بكر أن يكتب إلى خالد بأن “لا يعطي شاة ولا بعيرا إلا بأمرك (..) فكتب إليه خالد بن الوليد لعمر: إما أن تدعني وعملي وإلا فشأنك بعملك”. فأبدى أبو بكر استعداده لعزله، واقترح عمر أن يقود الجيوش مكانه. لكن ذلك، مرة أخرى، لم يحدث.
– كما أنه أشار على أبي بكر بأن يرسل عمرو بن العاص مدداً لخالد، فقال خالد: “هذا من عمر حسدني على فتح العراق وأن يكون على يدي، فأحب أن يجعلني مدداً لعمرو، فإن كان فتح كان ذكره له دوني”.
ولما ولي عمر “كان أول ما تكلم به أن عزل خالدا، وقال: لا يلي لي عملا أبدا.
إضافة إلى أنه كان يتذمر بشدة من كم المديح الذي كان الصحابة يكيلونه لخالد بن الوليد. فلما سار إلى الشام قال: “لأعرفن ما مدحتم خالد بن الوليد، فإنه رجل يهتز عند المدح”.
حاول عمر طبعا تبرير هذا العداء بالقول: “إني ما عتبت على خالد إلا في تقدمه وما كان يصنع في المال، وكان خالد إذا صار إليه المال قسمه في أهل القتال ولم يرفع إلى أبي بكر حسابا”.
معاوية بن أبي سفيان
– “دخل معاوية على عمر بن الخطاب وعليه حلة خضراء (..) فلما رأى ذلك عمر وثب إليه ومعه الدرة فجعل ضربا لمعاوية (..) فقال له القوم لم ضربت الفتى يا أمير المؤمنين؟ ما في قومك مثله فقال: والله ما رأيت إلا خيرا (..) ولكني رأيته (..) فأحببت أن أضع منه”.
وحين سار عمر إلى الشام، ومعه عبد الرحمن بن عوف، على حماريهما، “تلقاهما معاوية في موكب ثقيل” ولم يرهما وهما يمشيان خلفه. ولما احتج عمر على مظاهر البذخ تلك، قال معاوية: “لأنا في بلد لا نمتنع فيها من جواسيس العدو ولا بد لهم مما يرهبهم من هيبة السلطان”، فأجاب عمر: “لئن كان الذي تقول حقا فإنه رأي أريب، وإن كان باطلا خدعة أديب”.
– “كان عمر بن الخطاب إذا رأى معاوية قال: هذا كسرى العرب”.
أبو هريرة
دعا عمر أبا هريرة فقال له: هل علمت من حين أني استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين، ثم بلغني أنك ابتعت أفراسا بألف دينار وستمائة دينار؟ وبعد مشادات كلامية عاصفة، “قام إليه بالدّرّة فضربه حتى أدماه” وقال: “ما رجعت بك أميمة إلا لرعية الحمر. وأميمة أم أبي هريرة”.
وفي حديث أبي هريرة قال: “قال لي: يا عدوّ الله وعدوّ كتابه، سرقت مال الله؟ قال: فقلت: ما أنا عدوّ الله ولا عدوّ كتابه، ولكني عدوّ من عاداهما، وما سرقت مال الله”. لكنه اضطر للاستسلام في النهاية. وحين اقترح عمر أن يعود لمنصبه قال: “أخشى أن يشتم عرضي، ويضرب ظهري، وينزع مالي”.
عمرو ابن العاص
كتب عمر إلى عمرو، عامله علة مصر: “بلغني أنه فشت لك فاشية من خيل وإبل وغنم وبقر وعبيد، وعهدي بك قبل ذلك أن لا مال لك”. فبرر عمرو كما استطاع ثم قال: “أقصر أيها الرجل، فإن لنا أحسابا هي خير من العمل لك، إن رجعنا إليها عشنا بها”. فأرسل عمر إليه من يشاطره ماله. فقال عمرو: “قبح الله زمانا عمل فيه عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب، والله إني لأعرف الخطاب يحمل حزمة من حطب و على ابنه مثلها و ما معه إلا تمرة لا تنفع منفعة”.
مقتل عمر
تجمع الروايات على أن أبا لؤلؤة (بابا شجاع الدين) هو من قتل عمر.
أبو لؤلؤة هذا، فارسي من نهاوند، كان غلاما للصحابي المغيرة بن شعبة، والي عمر على البصرة، سُبي من الروم سنة 21 للهجرة. واختلف الرواة بين قائل إنه مجوسي وقائل إنه مسيحي (نصراني). “وكان يصنع الأرحاء” (جمع رحى)، إضافة إلى النجارة والنقش وغيرهما.
وكان أبو لؤلؤة قد طلب مرة من عمر “أن يكلم مولاه (المغيرة) في خراجه”، وكان “المغيرة يستغلّه كل يوم أربعة دراهم”، وقال: “يا أمير المؤمنين، إن المغيرة قد أثقل عليّ فكلّمه، فقال: أحسن إلى مولاك – ومن نية عمر أن يكلم المغيرة فيه – فغضب وقال: يسع الناس كلّهم عدله غيري، وأضمر قتله”، لكنه تجرع غيضه لحظتها وسكت. وحين سأله عمر أن يصنع له رحى قال: “أما والله لأعملن لك رحى يتحدث عنها الناس في المشارق والمغارب”. وفي حديث غيره قال: “لئن سلمتَ…”، ثم انصرف.
العجيب أنه في اليوم الموالي، يأتي كعب الأحبار إلى عمر ويقول له بالحرف: “اعهد (أي عين خليفة من بعدك)، فإنك ميت في ثلاث ليال (..) فلما كان الغد جاءه كعب فقال: بقي يومان. فلما كان الغد جاءه كعب فقال: مضى يومان وبقي يوم”.
كل هذا ولا أحد يتساءل أو يأخذ حذره. وكأني بالقوم لا ينتظرون إلا هذا.
وفي اليوم المشهود، “خرج عمر إلى الصلاة (..) ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته وهي التي قتلته”. وفي رواية أخرى قيل إنه “اتخذ خنجرا، وشحذه وسمّه”.
السؤالان المنطقيان هما طبعا:
– كيف يدخل خادم بسيط على الخليفة وهو وسط الصحابة والحرس، ويخترق الصفوف ثم يطعنه ست طعنات، ثم يطعن اثني عشر رجلا، قبل أن يرمي عليه “رجل من أهل العراق برنسا” ثم يبرك عليه لتقييد حركته؟
– كيف يصيب المعتدي بطن عمر في هجوم من الخلف؟
وقد سأل عمر نفسه مستغربا: “أعن ملإ منكم هذا؟ فقالوا: معاذ الله، والله ما علمنا ولا اطلعنا”.
آنذاك فقط، اعترف عبد الرحمن بن أبي بكر بأنه رأى “عشية أمس، “الهرمزان وأبا لؤلؤة وجفينة وهم يتناجون، فلما رأوني ثاروا وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه. وهو الخنجر الذي ضرب به عمر”.
طلب عمر طبيبا، “فدعي الطبيب، فقال: أي الشراب أحب إليك؟ قال: النبيذ. فسقي نبيذا فخرج من بعض طعناته، فقال بعض الناس: هذا دم، هذا صديد. فقال: اسقوني لبنا، فسقي لبنا، فخرج من الطعنة (كأنه كيس ماء مثقوب) فقال له الطبيب: ما أرى أن تمشي، فما كنت فاعلا فافعل”.
فأوصى إذاك “أن يصلي بالناس صهيب بن سنان الرومي ثلاثة أيام حتى تنقضي الشورى”.
وللتوضيح، فعمر تعمد تعيين إمام رومي مؤقتا، وليس أحد الصحابة، لكي لا يعطي الأحقية في الخلافة لأحد بناء على مبدإ الإمامة، كما حدث مع أبي بكر ومعه هو شخصيا.
كما أنه رفض تعيين خليفة له مباشرة كما فعل معه أبو بكر.
كيفية انتقال الحكم
اجتمع المتربصون بالخلافة في أحد البيوت، ومنعوا عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة من حضور الاجتماع، وادعى الرواة أنهم بعد لأي، اجمعوا الرأي أحقية عثمان بن عفان في الخلافة، باستثناء عمار والمقداد الذين “أشارا بعلي بن أبي طالب”.
العجيب أيضا في هذا الموقف أن عبد الرحمن بن عمر، الفتى الغر، هو من قاد المفاوضات، ذهابا وجيئة بين أعتى الصحابة وأكبرهم سنا ومكانة.
قال عبد الرحمن: “قم إلى يا عثمان، فأخذ بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم!”.
وفي أحاديث أخرى، أن عمر “لما حضرته الوفاة وأجمع على الشورى، بعث إلى ستة نفر من قريش (..) وأمرهم أن يدخلوا إلى بيت فلم يخرجوا منه حتى يبايعوا لأحدهم، فإن اجتمع أربعة على واحد وأبى واحد أن يبايعه قتل”.
لقراءة الجزء الأول: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. مقدمة لابد منها
لقراءة الجزء الثاني: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. ولاية أبي بكر الصديق
لقراءة الجزء الثالث: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. ولاية عمر بن الخطاب
المراجع:
الاستيعاب لابن عبد البر – الدراية في تخريج أحاديث الهداية – الطبقات الكبير لابن سعد _ العقد الفريد لابن عبد ربه
الكامل في التاريخ لابن الأثير – إمتاع الأسماع للمقريزي – بحار الأنوار للمجلسي – تاريخ الإسلام للذهبي
تاريخ الطبري – تاريخ دمشق لابن عساكر – سنن البيهقي الكبرى – سير أعلام النبلاء للذهبي – سيرة ابن هشام
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد – صحيح البخاري – صحيح مسلم – فتح الباري لابن حجر
فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل – كنز العمال للمتقي الهندي – مصنف عبد الرزاق – منهاج السنة النبوية لابن تيمية