تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. مقدمة لابد منها - Marayana
×
×

تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. مقدمة لابد منها

حكم أبو بكر، وتوفي في ظروف ليست فوق مستوى الشبهات، وخلفه عمر. ثم قيل: قتل عمرَ صبي مجوسي حاقد. خلفه عثمان بن عفان وقيل: قتله المصريون، ثم خلفه علي بن أي طالب وقيل: قتله ابن ملجم الخارجي؛ بعد أن حصد صراعه على السلطة مع معاوية، عشرات الآلاف من أرواح المسلمين.
حكم معاوية، وتبخر الرشاد في الحكم، فكان أن انفصل المقدس عن “المدنس” إلى غير رجعة، وتحول نظام الحكم من الخلافة إلى الوراثة، وبدأ زمن الخلفاء غير الراشدين.

محمد امحاسني
محمد امحاسني

لنتفق، بادئ ذي بدء، على أن رسول الإسلام لم يترك بعد وفاته أية أحاديث واضحة حول كيفية تداول السلطة من بعده.

من سيكون خليفة له على الأرض؟ ووفق أية مقاييس؟ كيف ينبغي لخلفه أن يحكم؟

أسئلة لم تكن تعني الكثير للجماعات المتحفزة وقتها للقفز على السلط بكل الوسائل الممكنة، حيث كانت كل منها ترى نفسها الأحق بالخلافة دون غيرها. ولم تتحول إلى موضوع للتنظيرات الفقهية والصراعات المذهبية إلا بعد قرنين على الأقل من وفاة آخر الخلفاء “الراشدين”.

بل إن الرسول نفسه، وفي الهزيع الأخير من نبضه، مُنع، ليلة الخميس الأسود إياه، من كتابة أخر الوصايا التي كان يتهيأ لكشفها للصحابة والتابعين ولأمة الإسلام والإنسانية من بعده، والتي فيها ما لن يجعل الأمة تضل بعدها أبدا.

لولا أن الفاروق ارتأى أن “حسبنا كتاب الله”، وما قاله ورسوله وفعله إلى حد اليوم. وأن كل ما يمكن أن يصدر عن الحبيب بعد الآن من كلام (وحيا كان أم حديثا نبويا)، سيكون محض هذيان بفعل الحمى التي جعلته يهجر.

ادعى بنو أمية أن الخلافة آلت من أول يوم، إلى من شاء الله أن تنتهي إليه، اعتمادا على أحاديث مكذوبة في معظمها، واتخذ الشيعة مما حدث حائطا للمبكى، تراجيديا لا يوازيها إلا صلب المسيح. بل خلدها البعض من هؤلاء إلى اليوم، بالانخراط سنويا في نوبات تنكيل دام بالذات، احتجاجا على حرمان أهل البيت من اعتلاء سدة الحكم، كما وعد بذلك أشرف الخلق في حديث أو اثنين، وعلى اغتيال الحسين وقبله “أبو تراب” (علي بن أبي طالب)، صهر النبي ووارث سره.

لم يوص الله في قرآنه ولا الرسول في أحاديثه بما لا لبس فيه، لشخص بعينه بالأحقية في خلافته، ولا لقواعد وشروط واضحة ينبغي توفرها فيه.

كيف استثبت أمور الخلافة إذن لأول خليفة لخير البرية على الأرض؟ وكيف انتقلت السلطة منه إلى غيره؟

هل كان وقتها لعموم المسلمين دور، مثلا، في الاختيار الحر في أن يحكموا في أمرهم من حكموهم؟

تقول الرواية إن رسول الإسلام، بعد وفاته، تُرك حيث لفظ آخر أنفاسه، ثلاثة أيام، في عز القيظ، انصرف خلالها الصحابة جميعا إلى شحذ الخطابات والسيوف، للحسم فيمن سيحكم، قبل أن يبادر علي بن أبي طالب إلى تغسيله ومواراته التراب. (وهذا أيضا فيه نقاش).

سبق الأنصار للموقعة، وتفطن المهاجرون للخطة، فنزلوا بكامل ثقلهم تحت السقيفة. وغاب عن الموقعة الأحق بالخلافة، حسب الشيعة. ولا ندري أصلا لم.

عمر بن الخطاب، الصحابي الذي لا تكاد تذكر له معركة واحدة على عهد الرسول، أعمل فيها السيف في المشركين، يكسر باب ويد فاطمة ويمسك بعلي من قفاه، ويرغمه على المبايعة لأبي بكر تحت وابل من التهديد بتحريق البيت عليهما.

وعلي بن أبي طالب، الذي حسم معارك كثيرة قيد حياته، يختبئ خلف زوجته (ابنة الرسول)، ثم يضطر في النهاية صاغرا، للموافقة على مضض، على تولي أبي بكر لشؤون المسلمين.

ثلاثة أيام قتلت خلالها الجن كبير مرشحي الأنصار للخلافة (سعد بن عبادة)، لأنه تبول واقفا في بئر، وأنشدت في ذلك مأثورا من الشعر.

تقول الرواية إن عمر بن الخطاب، بعدما أخذت منه الحماسة مأخذها، سارع للحشد لتنصيب أبي بكر، ظنا منه أن الأخير سيردها عليه، ويعترف له بالأحقية في الحكم. لكن والد الحميراء ارتأى أنه، إلم يكن قد أمر بها، فإنها لم تسؤه.

عض عمر يومها على شفة الحسرة، وعاهد نفسه وذويه على ألا يلدغ من الجحر مرتين: ” کانت بيعة أبي بكر فلتة، وقى اللَّه شرها، فمن عاد لمثلها فاقتلوه” (تاريخ اليعقوبي).

حكم أبو بكر، وتوفي في ظروف ليست فوق مستوى الشبهات، وخلفه عمر. ثم قيل: قتل عمرَ صبي مجوسي حاقد.

خلفه عثمان بن عفان وقيل: قتله المصريون.

ثم خلفه علي بن أي طالب وقيل: قتله ابن ملجم الخارجي؛ بعد أن حصد صراعه على السلطة مع معاوية، عشرات الآلاف من أرواح المسلمين.

حكم معاوية، وتبخر الرشاد في الحكم، فكان أن انفصل المقدس عن “المدنس” إلى غير رجعة، وتحول نظام الحكم من الخلافة إلى الوراثة، وبدأ زمن الخلفاء غير الراشدين.

كان لزاما انتظار ظهور الرعيل الأول من الفقهاء المتعلمين، في العصر العباسي، لكي ينطلق النقاش حول شروط الإمامة كشرط إجرائي لتبرير الأحقية في الخلافة ليس إلا.

من أوائل هؤلاء، مثلا، الماوردي (القرن الخامس الهجري) الذي يحدد شروط الإمامة، باعتبارها شرطا للخلافة، في سبعة خصال هي:

1- العدالة على شروطها الجامعة

2- العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام

3- سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان؛ ليصح معها مباشرة ما يدرك بها

4- سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض

5- الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح

6- الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو

7- النسب، وهو أن يكون من قريش.

شروط، أغرب ما فيها، فضلا عن ضبابيتها ومحدوديتها جميعا، النص على أن الانتماء لقبيلة قريش شرط لا فصال فيه فيمن ينبغي أن يحكم في أرض الإسلام جميعا، بعد وفاة القائد/المرجع.

وأما عن مهام الخليفة الجديد ومسؤولياته، فهي وفق الماوردي نفسه:

1- حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود؛ ليكون الدين محروسا من خلل، والأمة ممنوعة من زلل.

2- تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة، فلا يتعدى ظالم، ولا يضعف مظلوم.

3- حماية البيضة والذب عن الحريم؛ ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال.

4- إقامة الحدود؛ لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.

5- تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرما، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دما.

6- جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة؛ ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله.

7- جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير خوف ولا عسف.

8- تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.

9- استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.

10- أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش.

ليس الغرض من عرض حزمتي الشروط أعلاه مناقشة مدى معقوليتها أو قدرتها على التأسيس لفضاء سياسي، يتم فيه التنافس بين الفرقاء على أساس برامج سياسية واجتماعية واضحة، بل فقط لتبيان أن أعطاب دولة الخلافة لم تبدأ مع تنازع الشرعيات الواهنة على الحكم، زمن الخلفاء الراشدين. بل إن ما تلاها من تشريعات فقهية، كرس لنفس الممارسات البدائية المهترئة، وإن برشة جريئة من مسحوق القداسة.

للذين يصدقون أسطورة دولة الخلافة الوردية، حيث كان الصحابة إخوة في الله، وحيث شهد سفير الروم لعمر بن الخطاب وهو يأخذ حمام شمس في الخلاء، بأنه حكم وعدل فنام، وحيث كان عمر الآخر يبكي مخافة ألا يتمكن الناس من حقوقهم دون حتى أن يطالبوا بها.

وللذين اتخذوا من فيلم الرسالة لمصطفى العقاد، أفقا لتصوراتهم عن تاريخ الخلافة اللاحق، هذه سلسلة مقالات، نرصد خلالها، قدر المستطاع، مختلف محطات هذا التاريخ الطويل، اعتمادا على مراجع تاريخية معتبرة؛ وليس على الخطب العاطفية والحماسية للدعاة، من خلال ثلاثة محاور رئيسية:

– كيفية تولي كل خليفة لمقاليد الحكم

– إنجازاته خلال مدة حكمه

– ظروف ترجله عن صهوة الحكم

ولكل في آخر المطاف أن يقرر، عن علم وتبصر، وليس عن إي انحياز قبلي عاطفي، إن كان تطبيق نظام الخلافة، أفضل النظم السياسية وأقدرها على تحقيق العدل والمساواة والرخاء.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *