يونس طير: طيف يحتمي بمجاز كاذب - Marayana
×
×

يونس طير: طيف يحتمي بمجاز كاذب

يتبوأ مقعدا في ساحة المدينة، ويبتسم لقطط تعجبها لمسات الغرباء. يتذكر غيابه ويخجل من كل شيء ولاشيء. يرمي جسده قطعة قطعة، ويمتلئ بوجع الأصدقاء كبالون يفتن براءة الأطفال. يتلاشى في الأحجار والدروب وصفحات الكتب.. يغيب ليحضر في الشمس.
تشرق شمس المدينة لتذكرنا بالأزرق الذي يشبه الفضيلة الأخرى.

إلى روح محمد الأزرق: ألمح طيفك يجوب الدروب ويباركها بالقصائد القديمة…

 

“لم أستطع أن أغرق في الحزن

بلا نهاية،

فلقد كان ثمة ما يجب القتال

بشأنه مهما حدث.

الأخلاق… كلا

إن قلت ذلك فسيبدو نفاقاً.

الحب لعله فقط الحب”

– أوسامو دازاي

 

حين مات الرجل العظيم:

 

انتهى حينها كأنه لم يكن. استولت البرودة على كل الحكاية، وغرقت غابة الأعماق في الظلام. انتحر قلب كان ينبض بجلد الرجل العظيم وبشامته. غاب الظل في الفناء، وانهزمت كل التمائم. احترق الحقل الواسع وذبل الزيتون والنعناع. قامت قيامته وامتلأ بالصدى الكبير. اعتنق غربة الجفاف تجاه الفجر والسماء والشتاء والإعدام والحرب…

مر الزمن كفتنة أتت على كل شيء. لا لون للأبعاد ولا ذاكرة تراود الحقيقة ولا خيال ليسرح في الحلم. كان الطريق ذكرى للبرد. ولا ولادة أخرى للفرح. تبق ما تبقى وانتهى نبض مألوف. يا أب الزمن والمكان والفجر واليمين واليسار: يا أب الفرح والأمل وكل شيء.

لا شوق للغد ولا دمعة لتترك جفنا تائها. وعاطفة الأمس سكنها الجفاف. ولا صورة تصلح للاتكاء. ولا كلام ليعبر حلما يتيما كالعمر. تعالى النشيد الكبير، واشتعلت قشور القمح وذبلت الفضيلة التي كانت.

امتلأ الحقل الأصفر بالمقابر، وماتت قصيدة تتعبد بلحاف الشجر وبنهود الفاتنات.

 

حين غابت رائحة النعناع:

تجملت الرائحة الفاتنة ودندنت للذكرى الباردة. تلمست أوراقها وهمست للنجم البعيد بكلمات بلا معنى، ونعت رائحتها. سكنها الغياب وسكنته. لا رائحة اليوم لتتسلل للسجاد الصوفي. كانت سببا آخر للحياة، كالحب وكالله.

لمسة الغائب أشبه بلمسة نبي غارق في همومه، وكالحب حين يشتعل ويسكن صدر امرأة تقرأ الشعر. تغيب الذاكرة وتغرق في جلد تملأه الأرض. محنة الفقد الكبير، الذي يغرز أسنانه في الذاكرة كل نفس. غابت كذبة الحياة في قبر صغير.

كذب كله هذا الوجود المعتل. ووحش الفقد الذي يفتك بالداخل بلا رحمة. يا الألم البارد: جد لي زاوية تحت الأرض فقط.

الأرض صديق وفي زمن الخذلان.

القبر عنوان مذهل جدا للحياة.

الغياب مرادف للحضور.

عبث الزمان بالأشياء وكان ما كان.

نهض من القبر كالدهشة،

وتوجته السماء ملاكا

ليحرس اللغة والحقول والمفاهيم

والحب والتردد والملح والذكرى،

والكمنجات..

 

لا أصدقاء في زمن الحرب:

كان الطيف ينام قليلا ويذرف دمعة يتيمة. يكحل عينيه قبل ترتيب رقصة للنبات الشوكي، ويغسل أسفله بالحناء. يواجه الأفق بالخسارة، ويقول: اللعنة على المدن إذا لم تغسلها الأغنيات..

وحين يواجه حريته المزعومة، كان يقطف شعيرات صدره بصبر شاعر نسي بندقيته والأبجدية كلها. وحين يحضر عطر المون، كان يحرق أصابعه، ويزيل وشومه الخضراء. ولما يلوح في القلب وجه الغياب، كان يبني على هيكل خراب ذاكرته قبرا للأشلاء القديمة والجديدة، للخواطر وللذكرى، للفناء وللحضارة المزعومة.

قال للخيال الهش: سأمتلئ بالليمون وقليل من الحزن، وأحشو عنبا في إطار رخامي لصورة الأب، الذي غاب في اللغز والقصيدة والظل والوعد والتعب الملازم للنفس. وحين يغلبني البياض ويهرب الحرف، سأهرب لحياة أخرى، لأصدقاء يتنفسون الزيتون، ويتمتمون للشمس بقصائد الجنة التي كانت.

يا أصدقاء الظل والفتن الغبية،

لا تغنوا للسؤال اليتيم جدا،

لا تركنوا للحب الهش،

يا لصوص الليل: لا تتوسلوا بالفضيلة،

وحين يرتد الصدى:

اختبأوا بالغياب وسراب من ريش خشبي.

يا خذلانا مميت كالجحيم: صوت يشبه الكذب

والهاوية..

ورمل الصحراء.

أغلق الطيف المسافر في الأبجدية باب الحلم، ورسم موتا وشيكا على ورقة نعناع، ودلل مسافة صفراء تربط القبر بالقلب. واحتمى بالمجاز الكاذب وابتسم للصباح والحمى وقصيدة تلهج بالحب، وتتربص بشمس تنام في قبر رجل كان أبي.

 

الأزرق الذي كان حلمه بحجم الأفق:

كان يشبه الأبجدية المصابة بالحمى الصغيرة، وحين يصيغ استعارة ما، كانت تحمل كل الولع المفتون بالحياة. وفي كثير من الأحيان يصفر لعصافير ملونة، يحمل ظلها في حقيبته. رجل بقامة قصيرة وبقبعة تلازم أعلاه يغري الشعر الجاهلي بظل عصافير تسكن الجبال.

لم ينسى كأنه لم يكن، لم يكن البتة وردة في الثلج. كان ضوء يسطع في ليل الأفكار ويراود حجارة الطريق لتولع بالموسيقى والشعر. يوزع أحلامه الزرقاء ويبتسم للحرية المؤجلة. رجل السراويل الملونة كطبيعة تتبختر في عذريتها.

الأزرق الذي يزاحمنا في دروب المدينة،

لا يزال يسكنها وتسكنه

كان المدينة التي تضحك للجبل،

يخطف زقاقا ويجعل منه تذكارا في كتاب قديم.

يغمز لخصلة شعر تختصر امرأة كلها،

ينهر الريح ويلوح لذكرى بعيدة بيده.

يكتب تدوينة تشبه الثورة.

يعتذر للقيامة ويشرب نخب قبر يتحرش بجسده.

الأزرق الذي كان ولا يزال:

ترف الموت الساذج،

انتصار الغياب على الحضور.

أفول آخر للمادة الحمقاء جدا.

سمفونية كالعمر القصير،

وككتاب يؤرخ للدمع.

هاوية تعصر نهدا فاتنا جدا،

وتقتات بخبز يابس.

كان الأزرق ولا يزال.

يتبوأ مقعدا في ساحة المدينة، ويبتسم لقطط تعجبها لمسات الغرباء. يتذكر غيابه ويخجل من كل شيء ولاشيء. يرمي جسده قطعة قطعة، ويمتلئ بوجع الأصدقاء كبالون يفتن براءة الأطفال. يتلاشى في الأحجار والدروب وصفحات الكتب.. يغيب ليحضر في الشمس.

تشرق شمس المدينة لتذكرنا بالأزرق الذي يشبه الفضيلة الأخرى.

 

يونس طير| كاتب من المغرب

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *