التنس… المدينة الفاضلة في هذا العالم - Marayana
×
×

التنس… المدينة الفاضلة في هذا العالم

أحبطتنا الفلسفة عندما برز أن “جمهورية” أفلاطون المثالية التي يحكما فيلسوف حكيم أبعد بكثير من الواقع…
يبدو أن التنس من الملاجئ الأخيرة للتمسك بالإيمان بأهمية القيم والأخلاق والتنافس الشريف… حتى في عصر تنافسي محض، يظهر فيه الآخر كعدو وعقبة، أكثر منه شريكا وحافزا لتطوير الذات.

“ألعب كل نقطة وكأن حياتي متوقفة عليها”

رفائيل نادال

 

قد ينتهي بها الأمر حتما كواحدة من أعظم الصور في القرن الواحد والعشرين: روجر فدرير، أسطورة التنس السويسرية، يمسك بحنان يد رافائيل نادال، منافسه التاريخي وكابوسه الأكبر في المباريات النهائية، ثم يبكي الاثنان بحرقة تأثرا بلعب روجر لمباراته الأخيرة، واعتزال المايسترو عالم الكرة الصفراء.

كيف تحول كل هذا التنافس الشديد، والتسابق نحو الألقاب والأرقام، بين “كوكب التنس”، و”الماتادور” الإسباني، إلى صداقة عميقة، لدرجة أن الاثنين دأبا على المشاركة في الأعمال الخيرية لبعضهما، وأصرّ السويسري على أن يختم مسيرته الرياضية في مباراة “زوجي” تجمعه بصديقه نادال؟

الفرضية الأقرب للحقيقة، كما صرح بذلك البطلان، أن كل منهما دفع الآخر للوصول لقمة مستواه. التنافس على مرارته، جعل كل لاعب يصل إلى المجد ويحصد العديد من الألقاب. تحولَ الصراع إلى حافز، وكثرة المواجهات الثنائية بين العملاقين إلى فرصة للتآخي والتقار، بينهما، خارج ملاعب التنس، للترويج للعبة التنس في العالم، وبناء صداقة رياضية خالدة.

هذا المشهد الأيقوني في لعبة التنس ليس حالة معزولة، بل هو تجلِ لظاهرة أعمق تتمثل في الأهمية الشديدة للأخلاق والمبادئ في هذه الرياضة.

أحمد مستاد في مجمع رولان غاروس بباريس سنة 2018
أحمد مستاد في مجمع رولان غاروس بباريس سنة 2018

… ذات يوم، عندما دلفتُ إلى ملعب فيليب شاترييه، الملعب الرئيسي لبطولة رولان غاروس، خلال مواجهة بين زفيريف و ألكاراز، انبهرت بالصمت التعبدي للآلاف من المشاهدين، والتوقف الإجباري عن الحركة، والأكل، والحديث، أثناء التبادل بين اللاعبين.

كل من يخرق هذا الالتزام، ولو عن غير قصد، تلتهمه النظرات المعاتبة للجميع. احترام اللاعبين وتركيزهم أثناء اللعب دستور غير مكتوب، يجعل العلاقة بين الجماهير واللاعبين، أثناء اللعب، مؤطرة، وليست عرضة لنزوات المشاعر المتقلبة أو العنيفة للعشاق.

في نفس الصدد، رغم تألقه وبصمته في عالم التنس، يتذكر هواة التنس الأمريكي جون ماكنرو كمجادل مقرف مع الحكام، بينما سيستحضر العالم للأبد أن نادال -المعتزل حديثا- هو الوحيد من لاعبي الصفوة الذي لم يكسر أبدا مضربا في الملعب.

لاعب موهوب جدا أيضا، كالسويدي المعتزل روبين سودرلينغ، يمقته العديد من عشاق التنس، لأنه اقترف سلوكا مشينا مع الأسطورة الإسبانية، حين انتقد علانية طقوس نادال قبل لعب أي نقطة. كما تحول لاعبين مثل الإيطالي فونيني والفرنسي بونوا بيير إلى أضحوكة، بسبب عصبيتهم الزائدة في الملعب، وملاسناتهم المتكررة مع الحكام.

لا أرمي الوقوع في فخ مقارنة “أخلاقيات” التنس مع رياضات أخرى، لكن من اللافت أن الممارسين للعبة التنس ملزمين رمزيا بالاعتذار من المنافس في حال لمست كرتهم الشبكة وغيّرت مسارها، كما يخفض العديد من اللاعبين من مستواهم في حال لاحظوا إصابة عضلية ألمت بمنافسهم أثناء المباراة، ويمتنعون عن الاحتفال الاستعراضي في هذه الحالة.

أنس جابر وباولا بادوسا
أنس جابر وباولا بادوسا

أضحك بإعجاب، مثل طفل منبهر، عندما أشاهد فيديوهات أنس جابر، لاعبة التنس التونسية المتألفة، وهي تشارك في مواقع التواصل، لحظات ودودة مع منافساتها في الملعب، وصديقاتها خارجه، مثل الإسبانية باولا بادوسا، والبيلاروسية أرينا سابالينكا.

كيف يمكن أن يحرمك شخص من لقب أو تأهل ثمين اليوم، ثم ترتمي في حضنه يوم الغد؟  إنها الروح الرياضية، والانتصار لقيم الإنسانية النبيلة، بدلا من التمادي في التعصب الرياضي وتوسيع الانقسامات.

يقول المدرب الألماني الشهير يورغن كلوب: “لا يهم ما يفكر فيه الناس عندما تأتي، الأهم هو ما يتذكروه عندما ترحل”، ميزان الإعجاب يصبح ثقيلا في التنس عند اعتزال الموهوبين الذين عرفوا بدماثة أخلاقهم واحترامهم للجمهور، مثل الأرجنتيني خوان مارتن ديلبوترو وفيدرير.

دجوكوفيتش في حضن موراي، مدربه الحالي ومنافسه السابق

حلقة أخرى من هذا الاستثناء “التنسي” هي تعيين نوفاك دجوكوفيتش، أعظم لاعب في تاريخ اللعبة، بلغة الأرقام، لأندي موراي مدربا له، رغم أن البريطاني المعتزل كان واحدا من أشرس منافسيه. رأى العالم بانبهار البطل الصربي، شهر يناير الماضي (2025)، وهو يرتمي في حضن الأسكتلندي بعد مباراة مرهقة ومثيرة.

حتى على مستوى المساواة بين الجنسين، تعتمد البطولات الأربع الكبرى في التنس (غراند سلام) مكافأة مالية مماثلة للرجال والنساء، رغم فرق عدد المجموعات الملعوبة وتباين المجهود البدني المبذول بين اللاعبات واللاعبين.

أحبطتنا الفلسفة عندما برز أن “جمهورية” أفلاطون المثالية التي يحكما فيلسوف حكيم أبعد بكثير من الواقع. زادنا الأدب إحباطا من خلال الرواية المتميزة ليوسف السباعي “أرض النفاق”، والتي يبرز من خلالها أن الأخلاق والقيم مثل المروءة والشجاعة لا تجلب للإنسان سوى المتاعب.

يبدو أن التنس من الملاجئ الأخيرة للتمسك بالإيمان بأهمية القيم والأخلاق والتنافس الشريف… حتى في عصر تنافسي محض، يظهر فيه الآخر كعدو وعقبة، أكثر منه شريكا وحافزا لتطوير الذات.

أخيرا، وكي لا ننفصل عن الواقع، من المؤكد الإقرار أن التزاحم والصراع من سنن هذه الحياة… والوجود المتخم بالجدلية، لكن الإنسان يمتلك سلاحا أكبر هو الحب الذي نتدرب على ممارسته من خلال “تمارين في التسامح” والتآخي، والاعتبار من نماذج ملهمة مثل رياضة التنس.

… أو كما اختزلت زميلة فرنسية لي الأمر بقولها:

– ماهي أفتك الأسلحة في هذا العالم؟

– وردة.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *