رمضان في مارسيليا: الشيخ الواعظ، أبي وأنا 2\2
في تلك العتمة، لم يكن ثمة فرق بين العجوز الواعظ وشابة مراهقة، بين من أدمن الوعظ ومن استسلم لخطاياه في صمت، فالرغبة حين تستعر، تُسقط كل الأقنعة، تكشف الوحش الكامن خلف اللحى المتمسّحة بالدين، والمتسترة بالأعراف وزيف الهوية.
وأنا ما أزال مراهقة، لم يكن لرمضان وقع خاص في نفسي، ولم أكن أكترث كثيرًا لأجوائه التي كانت تغمر شوارع مارسيليا كل عام. كنت أعيش في عالم آخر، عالم لا يعترف بالصيام ولا يستوعب طقوسه. أصدقائي كانوا في غالبيتهم فرنسيين، فرنسيات، يعيشون بحرية مطلقة، تتناغم مع إيقاع المدينة الصاخب، حيث المقاهي لا تعرف الهدوء، والطرقات لا تستكين. كنت أخشى أن أعلن أمامهم صيامي، أن أترك كوب العصير في منتصف النهار دون أن أرتشفه، أن أبرر امتناعي عن الطعام بكلمات مترددة. كنت أخشى ضحكاتهم الساخرة، تعليقاتهم التي تتسلل في شكل مزاح، لكنها تغرز شكوكًا في القلب.
كنت أرى في صيامي تراجعًا عن الحداثة التي كنت أقدم نفسي بها، عن تلك الصورة التي كنت أرسمها بعناية، صورة الفتاة المنفتحة، المندمجة، التي لا تختلف عنهم في شيء. فكيف أعترف لهم بأنني، رغم كل شيء، ابنة إمام المسجد، ذلك الرجل الذي يقف كل مساء على منبره، يخطب في جموع المصلين، يعظهم ببلاغة، ويحثهم على التمسك بدينهم في بلاد تزداد ابتعادًا عنهم؟ كنت أخشى أن يصبح صيامي مادة للتهكم بين رفاقي، أن يتهامسوا في الزوايا، يرددون بلهجتهم المغاربية الممزوجة بالسخرية : “جزار ومعشّي باللفت”.
في داخلي، كنت أعيش صراعًا لم أجد له مخرجًا. بين ما أُجبرت عليه وما أردت أن أكونه، بين خوفي من أن أكون ابنة والدي وخوفي من أن أفقد عالمي الآخر. كنت أصوم، لكنني كنت أخجل من صيامي، أخفيه كأنه وصمة، وأمارسه كأنه واجب لا خيار لي فيه، حتى لا أترك فرصة لأولئك الذين يتصيدون الأخطاء ليقولوا: “انظروا، ابنة الإمام تتنكر لدينها!”.
كنت أعيش في المسافة الفاصلة بين عالمين، بين المسجد الذي كان والدي يقف فيه شامخًا، وبين المقاهي التي كنت أجلس فيها محاولةً أن أكون شخصًا آخر. بين الكلمات التي كنت أنطق بها هناك، والأفكار التي كنت أخفيها هنا. بين خوفي من الأحكام وخوفي من خسارة نفسي. ولم أدرك حينها، أن هذا الصراع لم يكن سوى البداية، وأن مارسيليا نفسها، بكل تناقضاتها، كانت تعيش في داخلي كما كنت أعيش فيها.
كانت والدتي، المغلوبة على أمرها، ترجوني كل عام أن أتخلى عن ارتداء الجينز في رمضان، كأن بنطالًا ضيقًا قد يفسد قدسية الشهر، أو كأن جسدي، إن استتر قليلًا، سيُطفئ نارًا تتأجج في عيون العابرين. لم تكن تطلب مني سوى أن أكون “محتشمة”، أن أُسدل على قامتي ثوبًا فضفاضًا، يمنحها بعض الطمأنينة، ويبعدها عن همسات الجارات ونظرات العتاب في المسجد.
وحين كنت أصرّ على ارتداء ما أريد، كانت تلجأ إلى الحل الوسط: تمدّ لي عباءة خفيفة، تقول لي بحنان خجول:” ضعيها فوق ملابسك، فقط حين تخرجين من البيت”. كنت أقبلها على مضض، أرتديها متظاهرة بالطاعة، أجرّها على عتبات الحي حيث تعرفني الأعين، حيث تتربص بي الكلمات غير المنطوقة، تلك التي تتركني معلقة بين الإدانة والشفقة.
لكن، ما إن أبتعد عن الزقاق، وما إن تبتلعني شوارع مارسيليا المتداخلة، حتى أخلع العباءة بحركة خاطفة، أطويها بمهارة بين دفاتر المدرسة، وأمضي بخطوات واثقة نحو الثانوية، كأن شيئًا لم يكن. كنت أشعر لحظتها بنشوة صغيرة، بانتصار سريّ، وكأنني أفلت من قيد خفيّ لم أكن أملك الجرأة على مواجهته علنًا.
لم يكن الأمر تمردًا كاملًا، لكنه كان صراعًا صامتًا بين ما تريد أمي، وما يريده الشارع، وما كنت أريده أنا… بين جسدي الذي يُطالَب بأن يكون محجوبًا، وعالمي الذي كنت أرسمه بحرية، بعيدًا عن أعباء التقاليد وأثقال الأحكام الجاهزة.
لحسن حظي، لم يكن في الثانوية التي أدرس بها أحد من معارف العائلة. لم تكن هناك عيون تراقب خطواتي أو تنقل أخباري إلى بيتنا الصغير في لو بانير. في هذا الحي، حيث ترتفع الكنائس كمنارات تحرس الإيمان وسط ضجيج المدينة، من كنيسة سان لوران إلى فيي شاريتيه، كنت أشعر أنني أعيش في عالمين متوازيين: أحدهما يخصني وحدي، حيث أتنفس بحرية؛ والآخر فرضته عليّ نشأتي، بكل ما فيه من قيود وهمسات وعيون تحصي عليّ أنفاسي.
لكن لسوء حظي، لم يكن حظي الجيد ليصمد طويلًا. ذات مساء، وأنا عائدة إلى البيت، بخطوات رخوة تتكسر على إيقاع أنوثة كنت أتعلم اكتشافها، لمحت وجهًا مألوفًا بين العابرين. كان صاحب والدي، رجلًا وقورًا، بلحية مخضبة بالشيب وعينين حادتين كأنهما وُجدتا لاختراق النوايا. كنت أرتدي بنطلون جينز مطاطيًا، يلتصق بجسدي كما لو كان جلدًا ثانيًا، وقميصًا قصيرًا بالكاد يغطي سرّتي. في تلك اللحظة، شعرت كأنني تجردت من كل دفاعاتي، كأن جسدي كله تحول إلى جريمة مكتملة الأركان، تنتظر الحكم النهائي.
التقت نظراتنا، ولم أكن بحاجة إلى قراءة أفكاره. كانت إدانته واضحة، تتدفق من عينيه قبل أن تنزلق إلى شفتيه المطبقتين على جملة لم ينطقها، لكنه حتمًا سيحملها معه إلى والدي. كنت أعرف أن الخبر سيسبقني إلى البيت، أن أبي سيتلقاه على مهل، ربما أثناء احتساء الشاي في المسجد، حيث يجتمع مع رفاقه بعد صلاة العشاء. كنت أعرف أيضًا أن أمي ستكتم تنهيدة خائفة حين تسمع الخبر، ستنظر إليّ بعينيها اللتين لا تعرفان القسوة، لكنهما تحملان خيبة لا أطيقها.
أكملت طريقي كأن شيئًا لم يكن، لكنني كنت أشعر بثقل خطواتي، كأنني أسير تحت عين السماء المفتوحة، حيث لا مهرب من الحساب.
لم يخبر والدي كما كنت أتوقع. كان يمكنه أن يفعل، لكنه لم يفعل. فقد سبق أن لمحني من قبل، أسير بمحاذاة مارغو وهي تنفث دخان سيجارتها في الهواء، تتابع تصاعده بأصابعها الرشيقة، وكأنها ترسم به خطًا واهنًا في الفضاء. لم يقل شيئًا آنذاك، لكنه رمقني بعينين صارمتين، كأنما طوّقني بنظرته تلك إلى الأبد، ثم مضى بخطواته الواثقة نحو الحي، تاركًا في داخلي رجع تلك النظرة الثقيلة.
في المساء، حين عاد والدي بعد صلاة العشاء، كان الصمت يخيّم على البيت، لكنه لم يكن الصمت العادي الذي ألفته، بل ذلك الصمتٌ الذي يسبق العاصفة. فجأة، وجدته أمامي، لم يحتج إلى الكلام، كان الغضب يتحدث من خلال يديه القويتين وهما تمسكان بي. رأيت في عينيه نظرة لم أرها من قبل، مزيجًا من الخيبة والغضب، شيء أشبه بوجع يُقشّر الروح. أطبق بيديه على التيو، ذلك الخرطوم المطاطي الذي كان ملقى في زاوية الفناء، وبدأت طقوس العقاب.
لم أبكِ. لم أصرخ. كنت أعرف أن ثورته ستنطفئ سريعًا. لكنه كان، في تلك اللحظة، يصبّ عليّ ما يفوق الألم، كان يغرس في جلدي شعور الذنب، يجعلني أصدّق أنني اقترفت خطيئة لا تغتفر، لا لأنني سرت بجوار مارغو وهي تدخن، بل لأنني، في نظره، كنت أخرج عن الخط، أقترب من هاوية يخشاها هو أكثر مني.
حين انتهى، رمقني للحظة، ثم أدار ظهره وغادر. لم يقل كلمة واحدة، لكن الصمت الذي خلّفه كان أشد وقعًا من كل الكلام.
في الغد، حين لفظتني بوابة الثانوية إلى الشارع، وجدته هناك، كان صاحب والدي مستندًا إلى عمود الإنارة، يعتمر قبعته الداكنة، يرمقني بنظرة هادئة، لكنها لا تخلو من ثقل. تقدم نحوي بخطوات وئيدة، ثم قال بصوت خافت لكنه نافذ: “أتعلمين لماذا لم أخبر والدك بما رأيت البارحة؟”
تملكني ارتباك مفاجئ، وحركت رأسي نافية، غير قادرة على نطق حرف. ابتسم ابتسامة شاحبة، ثم أردف: “أريدك أن ترافقيني إلى السينما… هناك سأشرح لك كل شيء.”
تردد صوته في رأسي كصدى بعيد، تسللت إلى نبرته غرابة لم أفهمها. كان المساء قد بدأ يبسط أجنحته فوق مارسيليا، والريح القادمة من البحر تهفهف بين الأزقة، تحمل معها شيئًا غامضًا، كأنها تحمل نبوءة لم تُكشف بعد.
في السينما، حيث الأضواء الخافتة تنسج ستارًا واهيًا بين الواقع والخيال، اكتشفت أن الوقار ليس سوى طقس ظاهري، قناع يرتديه البعض ليخفي نهم الرغبة المتربصة خلف ستائر التقاليد. هناك، تحت ظلال المشاهد المتلاحقة على الشاشة، أدركت أن الشيب لا يمنح صاحبه حصانة، ولا يُكسبه هيبة حين تستيقظ الشهوة من سباتها، حين يتمرد الجسد على قيوده، ويتلاشى فارق السن كأنه لم يكن، ويُداس رمضان بأقدام الرغبة.
في تلك العتمة، لم يكن ثمة فرق بين عجوز وشابة مراهقة، بين من أدمن الوعظ ومن استسلم لخطاياه في صمت، فالرغبة حين تستعر، تُسقط كل الأقنعة، تكشف الوحش الكامن خلف اللحى المتمسّحة بالدين، والمتسترة بالأعراف وزيف الهوية. كنت أراه جالسًا إلى جواري، لكنه لم يكن الرجل ذاته الذي التقيته عند بوابة الثانوية، لم يكن ذاك الذي رمقني بنظرات الوعظ والتأديب، بل آخر، أكثر غرابة، أكثر هشاشة، وأكثر افتراسًا.