رمضان في مارسيليا… حين يكتسي الميناء القديم وشاح التقوى 1 - Marayana
×
×

رمضان في مارسيليا… حين يكتسي الميناء القديم وشاح التقوى 1\2

رمضان في مارسيليا، ليس مجرد شهر، بل كائنٌ حيٌ…
عندما كنت أعبر الأزقة الضيقة في “بيلفيل” أو “الحي الشمالي” أو “نواي”، لم أكن أعبر أحياءً فقط، بل كنتُ أخطو في صفحات تاريخٍ تُكتب كل يوم. هنا، لم تكن الجدران إسمنتًا صامتًا، بل ذاكرةً تحفظ ضحكات أطفالٍ يركضون بين ماضٍ يشدّهم ومستقبلٍ ينادونه بأسماءٍ فرنسيةٍ لا تشبههم تمامًا. كانت الحكايات تتناثر كحبات الرمان، تُروى على عتبات البيوت وفي الأسواق المزدحمة، كأنها تريد أن تثبت للعالم أننا هنا، لسنا عابرين، ولسنا مجرد نزلاء في قدر مارسيليا، بل سطورٌ لا تكتمل قصتها إلا بنا.

إليك إعادة الصياغة بأسلوب أكثر شاعرية وبلاغة:

ها هي مارسيليا، المدينة التي اعتادت أن تنبض كقلبٍ متمرد، تُخفض إيقاعها مع قدوم رمضان، لكنها لا تهدأ تمامًا، بل تستسلم لموسيقى أخرى، أكثر خفاءً وأشدُّ استِتاراً، تتردد بين الأزقة العتيقة كترتيلٍ مهيب. كأن المدينة تخلع ثوب صخبها المعتاد، لترتدي وشاحًا من السكينة. لكنه ليس سكونًا مطلقًا، بل همسٌ ممتزج بروائح الزمن البعيد، بأثر خطواتٍ مهاجرةٍ لا تزال تحمل في ثناياها عبق الأندلس ووهج الصحراء.

في أحياء “بيلفيل” و”الحي الشمالي” و” نواي”، يسري رمضان كحكايةٍ منقوشة على الجدران، تُقرأ بالعطر والدخان وصوت المؤذنين. تنبعث من نوافذ البيوت أنفاس التوابل، وكأن الجدران نفسها بدأت تتنفس رائحة االمقدونس والكزبرة، والزنجبيل، وحبات السمسم، والبريوات، والسلو، فيما تتطاير من المطابخ أنغام الملاعق وهي تغوص في قدور الحريرة، كأنها تُدندن بأغنيةٍ قديمةٍ لا يملّها الزمن.

هنا، الهواء مشبعٌ بالذكريات، كأن كل نفَسٍ فيه يحمل سرًّا عبر أجيالٍ لا تزال تحنّ إلى أرضٍ غادرتها ولم تغادرها.

تتخذ الأحاديث في الشوارع نبرةً مختلفة، ليست مجرد كلماتٍ عابرة، بل رسائل تنبض بروحٍ أخرى. التحايا تصبح طقوسًا مقدسة، يُبادلها الناس كما لو أنهم يتوضؤون بالكلمات قبل الإفطار، وكأن “رمضان كريم” ليست مجرد جملة، بل مفتاحٌ سحري يفتح أبواب القلوب المغلقة، ويمنح للغريب شعورًا بالانتماء. هنا، لا يكون الصيام فقط علاقةً بين الإنسان وربّه، بل يصير جزءًا من نسيج المدينة، كأنه ظلٌّ آخر للشمس، يسير معها في دروب مارسيليا، يغيّر الوجوه، ويطبع الأيام بطابعٍ مختلف.

رمضان في مارسيليا، ليس مجرد شهر، بل كائنٌ حيٌ، ينسج على مهلٍ خيوط سحره في تفاصيل المدينة، يحفر أثره في الأرصفة، في الأسواق، في النظرات، حتى يخال للمارّ بين دروبها أن المدينة بأسرها تصوم، حتى وإن كانت لا تؤمن بالصيام.

في النهار، حيث تسطع الشمس على صفحة البحر المتلألئ في الميناء القديم، تسير مارسيليا بحذر، كما لو كانت تخشى أن تكسر إيقاعها المعتاد أو أن تخلّ بالنظام الرمضاني الذي يُعيد تشكيل نبضها. في المقاهي، الطاولات الفارغة تروي بصمتها حكاية جوعٍ محتسب، بينما تتسلل نظرات الاستنكار نحو من تجرأ على احتساء قهوته علنًا، وكأن الصيام لم يعد شأناً خاصًا، بل أصبح قانونًا غير مكتوب تفرضه العيون الصامتة. في المدارس، يتهامس الصغار حول زملائهم الصائمين، وكأن الامتناع عن الطعام قد غدا رمزًا للنضج، شارةً للقبول الاجتماعي، أو ربما وسامًا يتمنون أن يعلّق على صدورهم.

وحين يقترب المغيب، تنقلب المدينة رأسًا على عقب. في الأسواق الشعبية، كـ “نويي ليه مين” و”فونفيراي”، يدور سباقٌ محموم بين الأيدي الممتدة نحو رفوف التمر والفواكه الجافة، نحو أكياس “الشباكية” وعلب اللبن، كأن الجوع ليس إحساسًا عابرًا، بل امتحانٌ طويل يستوجب التعويض بوليمة مترفة.

في الشوارع، تتسارع الخطوات المضطربة، فيما يتعالى ضجيج السيارات، وتصعد الأدعية من أفواه السائقين المتأخرين، كلٌّ يطارد بيته قبل أن يرتفع أذان مسجد “السنة” أو المسجد الكبير، حيث يصطفّ المصلّون انتظارًا لجرعة ماءٍ تضع حدًّا ليومٍ من الصبر، فيما تتعالى همسات الأذكار، مشوبةً بحفيف الأكياس المثقلة بما أعدّته الأيدي الجائعة.

وحين يسدل الليل ستاره، تخلع مارسيليا وجهها القديم، وتتوشّح بأنوارٍ جديدة، ليست أنوار الحانات والملاهي التي ألفتها شوارعها، بل أضواء المساجد التي تغصّ بالمصلين. في “مسجد الإيمان” و”مسجد المنار”، تمتد الصفوف خارج الأبواب، تتعالى أصوات الأئمة ما بين تلاوة خاشعة، وأخرى لاهثة وراء سرعة القراءة، كأن العبادة نفسها أصبحت سباقًا يُقاس بعدد الركعات لا بصدق الخشوع. وهكذا، في ليالي رمضان، تتجلى مفارقة المدينة؛ حيث يسود صمت الروح وسط صخب التدين، وحيث يصبح الإيمان في بعض الأوقات جزءًا من المشهد العام، أكثر منه رحلةً شخصيةً في دروب التأمل.

في المقاهي التي تعود للحياة بعد التراويح، يجتمع الشباب في حلقاتٍ لا تنتهي، البعض يتجادل في مسائل الدين، والبعض يناقش شؤون الدنيا، وكأن الليل تعويضٌ عن نهارٍ كان صومه فرضًا وصمته طقسًا مفروضًا. وهناك، في الزوايا البعيدة، يجلس أولئك الذين لم يجدوا في التدين العلني ملاذًا، أولئك الذين يرون في رمضان مجرد تهدئة مؤقتة لإيقاع الحياة، بلا استعراض ولا صخب.

مع اقتراب الشهر من نهايته، تتلاشى المظاهر كما يتبخر الضباب مع شمس الصباح. الأسواق تفرغ رفوفها من التمر والفوانيس، المساجد تفقد زحامها، والشوارع تستعيد ضوضاءها الأولى، بلا خشوعٍ يثقلها ولا وقارٍ يغيّر ملامح المارّة. كأنّ رمضان لم يكن سوى فصل عابر من فصول المسرح الديني، تُطوى ستارته مع أول أيام العيد، فتُنسى خطب الوعظ، وتُخلع أثواب التقوى كما تُخلع الملابس الرسمية بعد حفلةٍ تنكرية. يرحل الشهر، ولا يترك خلفه سوى ظلّ باهت، كذكرى عابرة في زحام الحياة، بين خطواتٍ مسرعة نحو المصالح، وبين الأسواق التي تتبدل بضائعها، لكن لا تتبدل قلوب روّادها.

وسط هذا المشهد، كان الفرنسيون يلمسون التغيّر الزاحف على مدينتهم، كأنّ مدًّا غير مرئي يُعيد تشكيل ملامح مارسيليا. الأزقة تفوح بروائح التوابل الثقيلة، تتسلل من النوافذ المغلقة نفحات الشواء والبهارات، كأنها تهمس بأسرارٍ شرقية لا يفهمها إلا من وُلد على ضفاف جنوب المتوسط. تتبدل الملابس كما لو أنّ فصول السنة تتعاقب، تتوارى الأجساد تحت طبقاتٍ من القماش، كأنّها تحتمي من نظراتٍ ترقب هذا التحول المفاجئ. أما السلوكيات، فقد غدت أكثر تحفظًا، حيث يسبق الصمت صوت الأذان، وتكتظ المساجد التي كانت قبل أيامٍ رحبةً بمن فيها.

رمضان في مارسيليا ليس شهرًا يمر، بل كائنٌ حي، يزحف بخطى هادئة، يُبطئ الزمن، ويثقله بنفحات التراتيل، محوّلًا ليالي المدينة إلى مزيجٍ غريب من الشرق والغرب، حيث تتوهج الأرواح بإيمانٍ لم يكن حاضرًا قبل أيام. وبين الأزقة، في ظل المساجد، وعند مائدة الإفطار، تنسج المدينة خيوطًا من الترابط، كأنّها تبحث عن ذاتها بين التقاليد التي حملها المهاجرون معهم، وبين الحداثة التي تأبى أن تذوب.

كنتُ أسير في شوارعها، متسائلةً كيف تنعكس صورتنا في عيون الفرنسيين، نحن الذين جئنا من الضفة الأخرى، من الجنوب، ذلك الامتداد الحارق للشمس، المستعمَرة القديمة للشمال، النقطة التي انطلقت منها البعثات والطلقات والغزوات، حيث تقاطعت الأقدار بين الفاتحين والمستعمِرين، بين المهزومين والمقاومين.

نحمل في جيوبنا مفاتيح أوطانٍ تركناها خلفنا، ونغرس في أرصفتها جذورًا من الشرق والشوق والتوجّس. نحن الذين كُتبت على جلودنا تواريخ مدنٍ لم تعد تشبهنا تمامًا، وحُفرت في ذاكرتنا أسماء شوارعٍ وأحياءٍ لم تخترنا يومًا، لكننا صرنا جزءًا من همسها، كما صارت جزءًا من مسامات أرواحنا.

كيف يروننا؟ كأبناء ماضٍ لا يريد أن ينطفئ، أم كعابرين لم يكتمل عبورهم؟

على أرصفة مارسيليا، تحت المصابيح التي تلقي بظلالها المرتعشة على المارة، كنت أشعر أن هذه المدينة تشبهنا كثيرًا، نِصفها بحرٌ مفتوحٌ على الاحتمالات، ونصفها الآخر ذاكرةٌ متكدسةٌ بوجوهٍ لم تغادرها أبدًا، حتى وإن تبدّلت الأسماء واللهجات. هنا، لا شيء يموت بالكامل، حتى الحكايات التي تُحكى همسًا في المقاهي، وحتى الروائح التي تتسلل من نوافذ المطابخ الصغيرة، حيث تمتزج رائحة الكسكس بالبغرير، كأنها تريد أن تُعلن أننا لسنا غرباء، ولسنا ضيوفًا طارئين على هذه الأرض، بل أبناءٌ لجذورٍ ممتدة، مهما حاول الإسفلت طمسها.

كيف يروننا؟ كملامح صارت جزءًا من تضاريس مدينتهم، أم كظلٍّ يتمدد بصمتٍ على جدران التاريخ؟

نحنُ رُبع مليون روحٍ مسلمة، نتنفس بين أضلاع مارسيليا، ننثر عبق التوابل في هوائها، كما نرسم بخطواتنا على إسفلتها مسارات الاغتراب والبحث عن الانتماء. في المقاهي، كانت الهمسات تتسلل بين فناجين القهوة، نظراتٌ تترنح بين التوجّس والتقبّل، بين ألفةٍ لم تكتمل ودهشةٍ لم تنطفئ. البعضُ كان يرانا امتدادًا لنسيج المدينة، وآخرون لم يروا فينا سوى طيفاً يتسع بلا استئذان. وبين هذه الفجوة المعلقة بين القبول والرفض، كنت أبحث عن ذاتي، عن جسرٍ يربط ضفتيّ روحي، حيث الشرق الذي يسكنني، والغرب الذي صرت أتنفسه كل يوم.

في رمضان، كان الزمن يأخذ إيقاعًا آخر، كأن المدينة تتوقف لبرهةٍ كي تنصت إلى دقات القلوب المتلهفة الآذان. كان الشهر الفضيل فرصةً لترميم الصدوع، لجعل الحوار أكثر دفئًا، لا بين السياسيين في قاعاتهم الباردة، بل حول موائد الإفطار حيث تنحني اللغات أمام رغيفٍ ساخن، وحيث تمتزج الثقافات كما تمتزج النكهات في قدور الحريرة.

وعندما كنت أعبر الأزقة الضيقة في “بيلفيل” أو “الحي الشمالي” أو ” نواي”، لم أكن أعبر أحياءً فقط، بل كنتُ أخطو في صفحات تاريخٍ تُكتب كل يوم. هنا، لم تكن الجدران إسمنتًا صامتًا، بل ذاكرةً تحفظ ضحكات أطفالٍ يركضون بين ماضٍ يشدّهم ومستقبلٍ ينادونه بأسماءٍ فرنسيةٍ لا تشبههم تمامًا. كانت الحكايات تتناثر كحبات الرمان، تُروى على عتبات البيوت وفي الأسواق المزدحمة، كأنها تريد أن تثبت للعالم أننا هنا، لسنا عابرين، ولسنا مجرد نزلاء في قدر مارسيليا، بل سطورٌ لا تكتمل قصتها إلا بنا.

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *