من مارسيليا، جيهان القاضي تكتب: الحب في رمضان
في لغة الناس، الحب مدان منذ البدء، حتى وإن كان لا يعدو همسة على سلم مدرسة.
مدان، كأن القلوب كتب عليها الحرمان، حتى ونحن نهفو إليه خارج زمن الصيام والغفران، كأن الحب خطيئة مؤجلة، لا يغفرها إلا النسيان، أو جريمة مؤجلة، لا تنكشف إلا بالخذلان.
لم نفكر يومًا في الحب في رمضان، كأن العاطفة تعلق على مشجب الصيام، وكأن القلوب تمسك كما تمسك الشفاه عن الماء عند الفجر. كان الإمساك عن شهوة الفرج نصًا قاطعًا، لكن، من ذا الذي يمسك القلب عن خفقانه، ويجعل المشاعر تصوم عن شوقها؟
الحب ليس نزوة تنطفئ حين يأذن المؤذن بالمنع، ولا رغبة مؤجلة حتى لحظة الإفطار، بل هو صلاة لا تؤدى بالركوع، وقيام لا يعرف السجود، هو شيء يشبه الصيام في جوهره، انضباط وتهذيب، انكشاف واختبار.
كم من حب ظنناه نارًا متقدة، فلم يصمد في برد الإمساك، وكم من عشق حسبناه نزوة، فإذا به يتطهر كقطرة ندى في فجر رمضان. هنا، تنكشف الحكايات على حقيقتها: هل هذا حب يسري كالدعاء، أم شهوة كانت تتخفى بثوب العاطفة؟
رمضان ليس زمن المنع، بل زمن التجريد، حيث لا يبقى من الحب إلا نقاؤه، ولا يختبر العشق إلا في حرمانه، فإما أن يسمو كما يسمو القلب في سجدة الخشوع، أو يذوب كما تذوب شهوات العابرين عند أول ضوء.
لو سئل المغاربة عن الحب في رمضان، فلن تكون الإجابة عن العاطفة، بل عن الغريزة، كأن الحب لا يذكر إلا متلبسًا بالجسد، متورطًا في الفتنة، حتى وإن كان في أنقى صوره. هذا ليس لأن المغاربة قليلو الحياء أو شديدو الوقاحة، بل لأن لغتهم نفسها لم تمنح الحب حقه من التجريد، فظل مشدودًا إلى الجسد، معجونًا بالشهوة، لا يتنفس خارجها.
في المغرب، ما يزال “أحب” يعني “قبل”، كأن المشاعر لا تتجاوز ملمس الشفتين، وكأن الحب لا يكون إلا جسديًا، ملموسًا، قابلًا للإدانة عند ضبطه على درج ثانوية لآلة عائشة، حيث لا مجال للتفريق بين لمسة عابرة وبين حب ربما كان في جوهره أنقى من كثير من الصلوات الباردة والقلوب اليابسة.
هذه العلاقة الملتبسة بين الحب والجسد تجعل مجرد طرح السؤال عن الحب في رمضان وكأنه استدعاء لفضيحة، ليس لأن الناس يخافون الحب، بل لأنهم لم يتعلموا بعد كيف يحبون دون أن يخافوا.
تخيلت لو أنني أجريت ميكروتروتوار في شوارع المغرب، وطرحت على المارّة سؤالا واحداً لا شريك له: ما رأيك في الحب في رمضان؟
تخيلت الإجابات الصاعقة، العيون المتسعة دهشة أو استنكارًا، الوجوه المتجهمة كأن السؤال نفسه رجس من عمل الشيطان:
“أعوذ بالله استغفري ربك”
“اتقي الله فينا وفي نفسك”
“اللهم إن هذا منكر”
“النار مثواك يا فاجرة”
وقد تكون الردود أجرأ، أشد فظاظة، أكثر قسوة، ليس لأن المغاربة سليطو اللسان أو قليلو الحياء، بل لأنهم لا يرون الحب إلا جسدًا، لا يتخيلونه إلا شهوة، إلا غريزة تتربص بالأجساد، فتستدعي المنع والقمع والخوف والتكفير.
فلا تتعجّبوا إن علمتم أن في المغرب، ما يزال بعض الآباء والأمهات يستخدمون فعل “أحب” في الدارجة بمعنى “قبل”. كأن الحب لا يكون إلا ماديًا، كأن العاطفة لا تتحقق إلا بالتلامس، كأن لا حب إلا الذي يمر عبر الجسد.
أذكر أني كنت أسير مع أمي ذات يوم أمام ثانوية لآلة عائشة الإعدادية، حين التفتت إليها زوجة عمي قائلة:
“طردوا هذا الأسبوع ولدًا وبنتًا من لآلة عائشة.”
سألتها أمي: “علاش؟”
فردت بلهجة مشحونة بالسخط: “لْقَاوْه تيحُبْهَا فالدْرُوجْ”.
هكذا، في لغة الناس، الحب مدان منذ البدء، حتى وإن كان لا يعدو همسة على سلم مدرسة. مدان، كأن القلوب كتب عليها الحرمان، حتى ونحن نهفو إليه خارج زمن الصيام والغفران، كأن الحب خطيئة مؤجلة، لا يغفرها إلا النسيان، أو جريمة مؤجلة، لا تنكشف إلا بالخذلان.
في فيلم “طيور الظلام”، يقف رجل كهل أمام قاضٍ ملتحٍ، وكانت تهمته أنه قبّل فتاة في الشارع. القاضي، وفقًا لإيحاءات عادل إمام لزميله المحامي الملتحي، يبدو أنه ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين. سأل القاضي المتهم بصرامة: “هل قبّلتها أم لم تقبّلها؟”، فرد المتهم محاولًا دفع التهمة عنه: “ولكنني خالها يا سيادة القاضي”، لكن القاضي قاطعه بحزم، قائلاً: “ومن أين للناس أن يعلموا أنك خالها؟”.
حين يتحول الحب إلى مجرد قبلة، تصير الجريمة كلمتين، يُعاقب عليها القانون، ويتحول الإنسان إلى مذنب يتم الطواف به في أروقة المحاكم، لمجرد قبلة بريئة تسقط من شفاه العشاق. فما بالكم إذا مارستم الحب في رمضان؟ هنا، لا ينحصر الأمر في قوانين البشر، بل يمتد إلى أعراف وقيود تعصر القلوب، حيث يصبح الحب خيانة، والعاطفة خطيئة تنخر في كيان الروح.
يجد الإنسان نفسه تحت طائلة الأحكام المسبقة، وكأن الشوق والحنين، كأغنيات المساء، أصبحا جرائم تُعاقب عليها القلوب قبل الأجساد. في هذا السياق المظلم، يُختصر الحب في أشكال سطحية، ويتلاشى جوهره كعاطفة إنسانية سامية، تُحاصر بتهم وجرائر لا تُغتفر. وكأن القلب، وما في جعبته الأسرار والأماني، محاصر بأغلال الرفض والنفور، ينتظر لحظة حرية تتيح له أن يعبر عن شغفه دون خوف أو قلق.
في رمضان، تُقلع النساء عن الزينة، يُلقين بقطع الماكياج في الأدراج كأنها رماد أيام مضت. يمتنعن عن التطيّب، ويكون الويل لمن تجرأت وتطيبت وخرجت إلى الشارع، الويل والثبور لمن لفحت رائحة طيبها أنوف الرجال المنتصبة. يتسرب الشعور بالسخط إلى القلوب، ويتسلل الصمت إلى الشفاه، كأن الزينة جريمة لا تُغتفر، وكأن العطر قيد يُكبّل حرية الأنفاس. في رمضان، تُوصدُ أبواب الشغف وتُحجب ألوان الحياة، لتبقى الأرواح عارية أمام قيود العرف والتقاليد، عائشة على طيف الرغبات المؤجلة وعطر الأماني المدفونة.
هنا، لابد من التوقف أمام التعريف السطحي للصوم، حين يُعرّف بالإمساك عن شهوتي البطن والفرج. آن لنا أن نعلن بوضوح أن الصوم هو الامتناع عن شهوة الجسد كل الجسد، وأن نضع حدًا لاختزال الجسد كله في الفرج. آن لنا أن نُعلن اعتقال الجسد في زنزانة الممنوع والمحظور، ولا نطلق سراحه أبداً.
فالإمساك، في عمقه، يبدو كأنه حبسٌ دائم، لا يُرفع إلا على فراش الزوجية أو أفرشة اللحظات المسروقة. هنا، يُجسّد الصوم التوتر الدائم بين الرغبة والامتناع، كأن الجسد مكبّل بأصفاد من القيود، تسلبه حريته، وتُخضعه لسلطة الممنوعات. ويظل الوجود، في هذا السياق، عالقًا بين شغف الرغبة وواجب الانضباط، يعيش في صراعٍ أبدي، تحت وطأة الحظر الاجتماعي والعرف، وكأن القلب ينادي بحريته بينما تُغلق الأبواب أمام شهواته، مُحتفظًا بأحلامه في زوايا مكدسة بالنوايا.