الحريرة، سلو والشباكية… هذه حكاية بعض الأطباق الرمضانية المغربية.
للمغرب خصوصياته التي تميزه عن باقي بقاع العالم، أبرزُها الأطباق الرمضانية التي تُزين مائدة الإفطار.
خلال هذا الشهر، تتغير عادات المغاربة، وخاصة على مستوى المأكولات… مأكولات لها حكايات ضاربة جذورها في التاريخ، بعضها من صُلب الثقافة المغربية، وبعضُها الآخر وافد، لكنه تمغرب حتى أصبح من صميم الهوية المغربية.
مع بداية رمضان، تظهر الكثير من التغيرات على عادات المغاربة في الأكل. تظهرُ أطباق ومأكولات خاصة بهذا الشهر، في حين تُصبح أخرى يومية بعدما كانت تؤْكل بشكل متقطع أو مناسباتي.
ما يُميز المائدة الرمضانية المغربية، هو اتصافها بالغنى والتنوع، حيث تجمع بين الأطباق الحُلوة والمالحة. ولكل طبق من هذه الأطباق تاريخ طويل وحكايات مثيرة، تفاعلت معه الحضارات المتعاقبة على المغرب.
في هذا المقال، نكتشف تاريخ بعض الأطباق التي تزين المائدة الرمضانية.
الحريرة…
لا تخلُ المائدة الرمضانية بالمغرب من حساء الحريرة، ورُغم أن هذه المائدة عرفت ظهور مجموعة من الأطباق العصرية، فإن الحريرة ظلت متربعة على عرش المائدة في رمضان، تنتشر رائحتها الزكية في كل أحياء البلاد، ساعات قبل الإفطار.
يذكر الباحث في تاريخ التغذية والمطبخ، الراحل الحسين الهواري، في مقال له، أن حساء الحريرة تعتبر أقدم وجبة مغربية موثقة في التاريخ؛ إذ بدأ تحضيرها، حسب الباحث، قبل 22 قرنا، وربما قبل ذلك، إلا أن الوثائق التي تحصل عليها الباحث تشير إلى أن تحضيرها بدأ خلال القرن الأول الميلادي.
مصطلح الحريرة، حسب الحسين الهواري، ليس من اللغة العربية كما كان شائعا عند الباحثين، بل هو من اللغات الهندو-أوروبية القديمة، والكلمة أدخلت في اللغة العربية حوالي القرن العاشر الميلادي.
بالاعتماد على وثيقتين قديمتين لـ“جوفينال” و”سويطيون”، يعتبر الباحث أن تدوين الحريرة المغربية بدأ خلال فترة حكم “روتولوس روفوس” لموريتانا الرومانية بعد نهاية الحرب البونيقية الثالثة، وتشير الوثيقتان إلى أن هذا الطبق عُرف عند المصارعين، قبل أن ينتشر على نطاق واسع بين السكان الأصليين، وخاصة سكان الجبال.
الباحث يضيف في مقاله أن “مجموعة من المدن التي شُيدت في المغرب، عُرفت بتكوين الأبطال المصارعين وتحضير وتدريب لاعبي القتال والألعاب الحربية. لهذا، اعتمد المصارعون على الحريرة كطبق غني ومركز بالحبوب والقطاني للقدرة على المصارعة”.
بذلك، يعتبر الباحث أن هذا الطبق يختزل بطولة تاريخية مغربية لا يوجد له شبيه في باقي دول العام، وحتى في الدول المجاورة.
من جانب آخر، يشير باحثون آخرون إلى أن الطماطم لم تكن من المقادير الأساسية للحريرة، ولكنها جاءت مع المعمرين نهاية القرن التاسع عشر.
الشباكية…
إلى جانب حساء الحريرة، تحتل الشباكية مكانتها الخاصة داخل المطبخ المغربي، هما التوأمان اللذان لا يحلو فطور دون وجودهما.
تختلف التسميات بين من يُطلق عليها الشباكية، وبين من يفضل الزلابية أو كوليش أو المخرّقة… لكنها مسميات لعنصر واحد، لربما الإفطارُ بدونه يبدو، بالنسبة للبعض، مكروها أو فاقدا للشرعية!
الباحث في المطبخ المغربي، هشام الأحرش، يرى أن الفروق في التسميات يرجعُ لأسباب محددة.
يقول هشام في تصريحه لمرايانا: “الشباكية هي الزلابية والمشابهة للزلابية التي تُصنع ببلدان المشرق من الطحين والماء، وتقلى في الزيت لتُغمس في العسل على شكل وردة، وقد كانت حاضرة في المغرب خلال القرن 12. أما الشباكية الحالية، التي تسمى أيضا بالمخرقة، فهي تطور للأولى، حيث عرف المطبخ المغربي استوراد مجموعة من التوابل والمكونات الجديدة، إذ كان لا بد من تطوير هذه الحلوى على مستوى المكونات والطريقة أيضا”.
على أن البحث في أصل هذه الحلوى، يُدخل الباحث في دوامة من التفسيرات والتأويلات، إذ يُرجع البعضُ أصلها إلى الأندلس زمن حكم بوعبديل أمير غرناطة، والذي دعا الطهاة لصنع حلوى خاصة بشهر رمضان، إلى أن تمكن أحدهم من صنع الزلابية.
في حين يذهب هشام الأحرش إلى أنه، ووفق الرواية الشفهية المغربية، فإن أصلها يعود إلى قصة بائع حلويات مغربي أسرتْ ناظره فتاة جميلة تطل خلفَ شباك منزلها، فقرر صناعة حلوى متميزة شبيهة بالشباك الذي أطلت منه، لكن الصانع فوجئ بأن حبيبته تُزف لغيره، ليعود ويصنع حلوى أخرى مغايرة لشكل الشباك، وهو ما أنتج شكل الشباكية الحالية.
إلى جانب ذلك، أبدع المغاربة في إضفاء لمستهم عليها بإضافة توابل ومكونات في صنعها، بعيدا عن مقاديرها الأولى، فأضافوا إليها ماء الورد و”المسكة الحرة” والسمسم، حتى أضحت جزءا من الهوية المغربية.
سلو…
يعتبر سلو أو الزميتة أو السفوف من بين الأطباق التي يتم العملُ عليها قبل رمضان بفترة طويلة، وما ميمز هذا الطبق، أنه يُحفظ لمدة طويلة دون أن يحدث عليه أي تغير في نكهته أو جودته.
تختلف طريقة تحضيره من منطقة إلى أخرى، إلا أن الغالبية تعتمد على الفواكه الجافة التي يتم مزجها مع الدقيق “المُحمر”/ المحمص في الفرن، وزيت الزيتون والعسل، كما يضيف البعض اللوز والسمسم والزبدة.
حسب الباحث في المطبخ المغربي، الحسين الهواري، فإن هذا الطبق يعود إلى عصور قديمة، إذ ذُكرت نفس الوصفة عند شيشرون وغيره من الأطباء والصيادلة الإغريق والرومان، علاوة على الأطباء المغاربة والأندلسيين خلال عصر المرابطين والموحدين.
من زاوية أخرى، كان هذا الطبق معتمدا في رحلات الحجاج إلى الديار المقدسة، باعتبار أنه يحتوي على مجموعة من العناصر المقوية والغذائية، إضافة إلى كونه سهل التخزين ويمكن الاحتفاظ به لمدة طويلة كما أشرنا إلى ذلك سابقا.
حسب ما جاء في كتاب المؤرخ أبو عبد الله الإدريسي، في كتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”، أنه قديما، كان يتم وضع “أسلو”، حسب التسمية الأمازيغية، بعد تحضيره في مزاود فيأتي طعاما شهيا…كما أن البعض إذا أخذ هذا الطعام ملء كفه وشرب عليه اللبن ثم مشى بقية يومه ذلك، لم يشته طعاما إلى الليل.