في زمن التواصل الاجتماعي… نحو مثقف رقمي
نحتاج لمُثقّفٍ رقمِيٍّ يستَطيعُ التكيُّف مع التغيُّرات السّريعة للمُجتمَعات الحدِيثَة المُتأثّرة بالانتِرنِت. مثقف رقمي يستَطيعُ بنَاء هُويّة رقميّة خاصّة به، تعكِسُ توجُّهاتِه وأفكَارَه، وتُسَاهمُ في زيَادَة تأثيرِه وانتشار صَوتِه في الفَضَاء الرّقمِيّ. هذه الهويّة الرقميّة تُمثّل امتِداداً لدورِه التّقلِيديّ، بالإضَافَةِ لأبعَاد جَديدَة تَتنَاسبُ معَ مُتطلَّباتِ العَصرِ الرَقمِيّ.
على سبيل التقديم: ما المثقف؟
قد يكون من الصّعب تحديد مفهوم متفق عليه حول مصطلح “المُثقّف”.
هل المثقف، هو الحاصلُ على شهادات أكاديميّة، الذي يتحدّث بمصطلحات فلسفيّة غامضة طول الوقت. أم هو السياسيّ الذي يشارك في صنع القرار بطرقه المُختلفة. أم أنّه الخَطيبُ الذي يتوجّه للجميع بكلماته الرّنانة؟
يقُول إدورد سعيد في تعريفه للمُثقّف، أنّه الشخص المُلتزم والواعي اجتماعيا بحيث يكون بمقدوره رؤية المجتمع والوقوف على مشاكله وخصائصه وملامحه وما يتبع ذلك من دور اجتماعي فاعل من المفروض أن يقوم بتصحيح مسارات مجتمعية خاطئة.[1]
إذن، المثقف ليس مجرد شخص يمتلك المعرفة، بل يمتلك التزامًا تجاه مجتمعه. هذا الالتزام يجعله على دراية بالأحداث والتغيرات التي تحدث في مجتمعه، ويهتم بمشاكله وهمومه، بحيث تكُون له القدرة على تحليل مشاكل المجتمع وفهمها، وبالتالي العمل انطلاقا من المُعطيات الّتي يحصل عليها لإيجاد حلول لتلك المشاكل.
على المُثقّف امتلاك الشجاعة والمعرفة اللازمة لتصحيح المسارات الخاطئة في المجتمع، سواء كانت هذه المسارات تتعلق بالسياسات أو السلوكيات الاجتماعية أو الثقافة العامة، يجب على المثقف أن يكون صوتًا للتغيير والإصلاح.
انطلاقًا من هذا التعريف، واعتبارًا للتطّورات الّتي يعرفها عالمنا في المجال الرّقمي، وكيف أصبحت مواقع التّواصل الاجتماعي جزءً لا يتجزّأُ من حياتنَا اليوميّة. هذه المواقع أصبَحت أكبَر من مُجرّد مساحَة للتّواصل، بل أيضًا لتمرير الخطَابات وتوجيه الرّأي العامّ وأدلَجَته، أصبَح على المُثقّف أن ينخرط في مواقع التّواصل الاجتماعِي، باعتبارها الوسيلَة الأكثَر تأثيرًا في القرن الواحِد والعشرِين.
فهل أصبَح هذا الإنخراط ضَرُورة وجُوديّة بالنسبة للمُثقّف المعاصر؟
الإنخراط في مواقع التّواصل الاجتماعي كضرُورة وجوديّة.
التطوّر التكنولوجي، دُون شكّ، أنتَجَ العديد من التغيُّرات على مستوى توزيع الأدوَار، وكذلك مواقعُ التّواصل الاجتمَاعي، فهذهِ الأخيرَة أصبَح دورُها يتجاوزُ “التّواصُل الاجتمَاعي” ليشمَلَ كذلكَ التَأثير على الرّأي العامّ للشُّعوب والجمَاعات، بل كذلكَ الأنظمَة والنُّخب السّيَاسيَة، إذ أصبَح هذا التأثيرُ حقيقِيًّا وواقِعًا. بالتّالي، فالانخِراطُ فيها أصبحَ مسألة وجُود بالّنسبة للجَميع دون استِثناء، فعدمُ توفُّركَ أنتَ الإنسانُ العاديُّ على حسَابات شخصيّة على فيسبُوك، إنستَغرام أو واتس آب يعنِي أنّك، وبكُلّ بسَاطَة، غيرُ موجُود. انخرَاط المُثقّف في مواقعِ التّواصل الاجتمَاعي أصبَح بالتالي، ضرُورَة وجُوديّة لا يُمكنُ تجاوزُهَا. والتّغاضِي عنهَا يعنِي بقاء المُثقّفين حبيسي الكُتُب والمجلاّت الورقيّة الّتي يتنَاقصُ قُرّاءُها يومًا بعد يَومٍ مُقابِلَ رُوّاد الانتِرنت.
واقع المُثقّفين من الكُتّاب والمُؤَلّفين، في المغرِب خُصُوصًا، وباقي الدول العَربِية عُمُومًا، يؤُيّدُ هذه الضّرُورة. ففي أحسنِ أحوَال أغلب الكُتّاب يبيعُون عشَراتِ النُّسَخ. الأغلَبيَّةُ السّاحقَة لا تصِلُ لقَاعدَة قُرّاء تتكوّنُ من الآلاف ومئًات الآلاَف، إلاّ في بعض الحَالاَت حيثُ يكُونُ الكاتِب أو الشّاعر نَشطًا في مواقِع التّواصُل الاجتِماعي، وينشُر في المَجلاّت الإلكترُونية واسعَة الإنتِشَار، أو تحدّثَت عنه وسائِلُ الإعلاَم. وينطَبقُ هذا الوضعُ على أغلَب الكُتّاب المشهُورين في الوقتِ الرّاهن.
نحوَ مُثقّفٍ رَقمِيّ.
مواقِعُ التّواصُل الاجتِماعِي تتيحُ للمُثقّف مسَاحَة للتّعبير عن أفكَاره واشِغَالاتهِ الفكريّة والأدبيّة، وكذَا مُمارسةِ دورِه الحَيَويّ في المُجتَمع. هذه المَواقع والمنصّات تتجَاوزُ الحُدُود الجُغرافيّة والزمنيّة، وبالّتالي، تمنح فرصةٌ أكبر في الوصُول إلى مختَلَف شرائِح المُجتَمَع، محليَّةً كانَت أم دوليّة، وفي أيٍّ وقت. كما يتيحُ الإنترنت للمثقّف فرصةً فريدَة للتفاعُل مع جُمهوره بشكل مُباشِر، حيثُ يمكنٌه سماعُ الآراء النّاس ومُناقشتُها والردُّ عليهَا، ممّا يخلقُ حواراً حقيقياً يُثري المَعرفة ويعمّق الفهم المُشترَك للقَضايا المُختلفَة، كمَا تفتحُ البَاب أمَام الانخِراطِ في النّقَاشات العُمُوميّة حول المَواضيع الحسَاسيّة الّتي تهُمُّ المُجتَمَع، وبالتّالي يكُون صوتُ المُثقّف مُؤثّرًا بفعّاليَة.
طبيعَةُ النّشاطِ الّذي يمكنُ للمُثقّف تقديمُهُ في مواقِع التّواصل الاجتِمَاعيّ، فيتَمثَّلُ في نشرِ الكُتُبِ والمقَالاتِ إلكترُونِيًّا، التّدوين والتّدوين الصّوتِيّ (الكُتُب الصوتيّة والبُودكاست المسمُوع)، وكذَا إنتَاج الفيديُوهَات (البُودكَاست المرئِي المسمُوع).
هي دعوة لمُثقّفٍ رقمِيٍّ يستَطيعُ التكيُّف مع التغيُّرات السّريعة للمُجتمَعات الحدِيثَة المُتأثّرة بالانتِرنِت. مُثقّفٌ يستَطيعُ بنَاء هُويّة رقميّة خاصّة به، تعكِسُ توجُّهاتِه وأفكَارَه، وتُسَاهمُ في زيَادَة تأثيرِه وانتشار صَوتِه في الفَضَاء الرّقمِيّ. هذه الهويّة الرقميّة تُمثّل امتِداداً لدورِه التّقلِيديّ، بالإضَافَةِ لأبعَاد جَديدَة تَتنَاسبُ معَ مُتطلَّباتِ العَصرِ الرَقمِيّ.
* رشيد سبابو: كاتب وشاعر مغربي، مؤسس مجلّة آبُّولو الثقافيّة الإلكترونية.
[1] إدوارد سعيد، خيانة المثقفين؛ النصوص الأخيرة، ت غسان غصن، دار النهار، بيروت (ص 80ـ81).