أحمد البوعناني، عراب السينما المغربية: رحلة شعر وعدسة وجنون
في السينما، كما في الشعر والرواية، كان أحمد البوعناني بارعاً في كل شيء.
رحلة شاعر السينمائيين الأوائل، انطلقت من دروب الدار البيضاء إلى جبال دمنات. رحلة لم تخل من المتعة والصخب والكتابة “وحلم الثورة” والكثير من السينما والجنون الذي لا ينتهي…
لم يكن، مُخرجا فقط. كان، بالنسبة للكثيرين، عراب السينما.
كلَّما ذكر أحمد البوعناني في مجلس سينيفيلي، إلا وكان ذلك الجامع بين الإخراج والتوضيب والشعر، ومعها أشياء أخرى تركها البوعناني، منها السراب.
البوعناني، الحاضر الغائب، أنشد ذات قصيدة:
كان فيكتور هوجو يشرب في جمجمة، في صحَّة المتاريس، أمّا ماياكوفسكي فكان يطرح الغيوم في المدن الإذاعية، عليّ اليوم أن أطرح أناشيد الحبّ…
… فراشات تدخّن غليون الأبنوس، للأزهار جلد الذئاب، العصافير البريئة تسكر بالبيرة – وهناك من بينها، من يخفي مسدّسا أو سكّينا حتّى.
هكذا كَتب البوعناني، وكالفينيق سيحلق عاليا دونَ عودة، تاركا خلفه كلمات وشهادات وذكرى “السراب”.
نهاية لم تكن كبدايته، فقد كُتبَ لسفينته أن ترسو بمدينة دمنات، مدينة الهامش المُطلة على السفح من أعلى جبال الأطلس المتوسط.
من كازا إلى دمنات، رحلة العزلة، ربما كانت شبيهة بعزلة بول بولز وربما كانت أشبه برحلة متصوف يبحث عن السكينة في مدينة تنام باكراً.
في الدار البيضاء كانت صرخة البوعناني الأولى، في نونبر 1938، ليطل البوعناني على العالم من نافدة صغيرة، كانت تلك النافدة أوَّلَ عدسة في مساره.
مثقف لا يُهادن
عاشَ البوعناني فترة من الزمن في المغرب إلى أن غادره في اتجاه فرنسا سنة 1961 للدراسة بمعهد الدراسات العليا للسينماتوغرافية بباريس. هناك درسَ السيناريو والمونتاج وغيرها. هناك، كانت ولادته الجديدة.
عاد البوعناني إلى المغرب، ليبدأ الاشتغال مع المركز السينمائي المغربي، ولينطلق الطائر في التحليق، معلنا ميلاد شاعر السينمائيين المغاربة. رغم الهجرة، كان سؤال التراث رحلة بحث عند البوعناني، فترجم سؤاله لأعمال سينمائية تنتصر للموروث الشعبي.
من الصحراء، أخرج البوعناني أول فيلم له بعنوان “طرفاية أو مسيرة شاعر” سنة 1966. وبعده الفيلم القصير “سيدي أحمد أو موسى”، سنة 1972، والذي يحكي سيرة ومسار عبد الرحمان المجدوب (وهو الفيلم الذي لم تتم المحافظة عليه، وفقد بشكل نهائي من الخزانة السينمائية)، ثم فيلم “المنابع الأربعة” سنة 1977.
كلُّ هذا الزخم الإبداعي والفكري لا يُمكن إلا أن يصدر عن مثقف تنويري ويساري يفهم جيداً موقع الفن والمسرح والسينما ضمن الصراع الطبقي وغيرها من المفاهيم. هكذا كان للبوعناني موقع ضمن مجلة أنفاس اليسارية.
حَلم البوعناني بالاشتراكية والحرية، حمل قيم اليسار ودافع عنها، من خلال كتاباته بمجلة أنفاس، التي كان يديرها الشاعر والكاتب عبد اللطيف اللعبي. تلك المجلة التي كانت أكثر من مجلة فكرية بل كانت صوت المبدعين الذين يفكرون خارج النسق.
عوالم البوعناني الخفية
ترك البوعناني حياة السينما وصخب البلاطو وليالي التوضيب بعد مسار توجه بفيلمه الطويل “السراب” الذي انتجه سنة 1979. غير أن السراب سيرافقه طيلة مساره، ليُعتبر محطة فارقة في السينما المغربية.
السراب، شريط طويل، يصفه أهل السينما بالفيلم المرجعي، فهو فيلم يصارع الواقع والخيال والسراب الممتد لما وراء الإنسان، للغوص في عوالمه. البوعناني يفتح فيلم السراب، بمشهد رجل في حقل يرمي أحجاراً في اتجاه عدو لا يُرى.
هل هو جنون؟ أهو صراع مع الجن؟ يدخلنا البوعناني في عالم السرديات الشفهية حول الجن والمخلوقات الغريبة.
أدخلنا البوعناني في ورطة، بين الثقافة الشعبية والتجربة الشعرية والإخراج ورؤيته البصرية. غير أن الورطة ذاتها، هي هم ذاتي وجماعي، وحلم صغير يعكس أحلام فترة إنتاج الفيلم.
من السراب لعود الريح، لمخرجه داود أولاد السيد… فقدَ كتب البوعناني هذا الفيلم، وساهم في تشكيل عناصره البصرية والفنية، إلى جانب أعمال أخرى ساهمَ فيها البوعناني برؤيته البصرية وإخراجه وتجريده.
هكذا استمر مسار البوعناني، متنقلاً من فيلم لآخر وتوضيب لآخر، إلى أن قرر سنة 1998، لعبَ دور الناسك الهارب من ملذات الدنيا، قاصداً مدينة دمنات. لعلَّه كان متنكرا قاصداً مدينة يعيش فيها حياة “الدراويش” التي لم يجدها في الدار البيضاء.
عزلة ورحيل زمن “الثورة”
كتب بول بولز في سيرته الذاتية “بدون توقف”: “لم أختر العيش في طنجة على الدوام، لكن ذلك حدث…”. ربما لسان حالِ البوعناني قال الأمر نفسه: “لم أختر العيش في دمنات على الدوام”.
دمنات المدينة التي توحي للزائر أنها كامنة في مرتفع تستقبل الزائر التائه وتحتضن المجروح، تشدو للسعداء وتنوح للبائسين.
هكذا كانت دمنات مستقبلة وافدها الجديد، الذي جاء إليها مثقلاً بأحزانه وهمومه، ليبدأ تجربة العيش في الهامش مُستلقياً على أريكته، ليتفرغ للتأمل والكتابة والعيش كما يعيشُ بسطاء دمنات.
تأثر البوعناني بوفاة ابنته الباتول، كما احترقَ مثلما احترقت كتبه بشقته في العاصمة الرباط خلال صباح حزين في صيف يوليوز 2006. حينها، ضاع أرشيف البوعناني وكتبه وتسجيلاته وغيرها.
وفاء البوعناني للدار البيضاء، دفعه لتوثيقها في مغامرة سينمائية صامتة من خلال فيلم “6/12”. وقد جاء العنوان هكذا، لأن البوعناني كان يضع عدسة الكاميرا في أمكنة عدة من الدار البيضاء من الساعة السادسة صباحا إلى حدود الثانية عشرة.
هوس البيضاء كان مغامرة عند البوعناني. سافر بنا، بلغة الأبيض والأسود، كانت رحلة اكتشاف عوالم عيش المغاربة، صباحاتهم ومساءاتهم، وكذا مساراتهم في الحافلات والمقاهي والأسواق.
عوالم البوعناني متعددة، من السينما للشعر للنضال السياسي، عبر الكلمة إلى الرواية، فقد كتبَ البوعناني رواية “المستشفى” التي نقلها إلى العربية الكاتب والمُترجم محمد الخضيري؛ إذ يقول فيها:
“حين ولجت البوابة الحديدية الكبرى للمستشفى، كنت على الأرجح لا أزال حيا. على الأقل هذا ما اعتقدته، لأنني أحسست على جلدي روائح مدينة لن أراها البتة (…) أنا فاقد ذاكرة كبير، أعترف بهذا. ذاكرتي تشبه خرابا تُقلِّمه الانجرافات يوما تلو يوم”.
اقترب موعد الرحيل، كان الشارع حينها يصدح بصوت التغيير وشعارات 20 فبراير، بدأت الساحات تعج بالحالمين بمغرب أجمل. ربما قد تسللت تلك الأصوات إليه، ربما لسان حاله كان يقول:
آه لو كنت قادرا على حمل الكاميرا، أو كتابة قصيدة، أو ربما أعود لأنوال لأكتب فصلا جديداً في النضال والثورة”.
في السادس من فبراير 2011، حيث أحلام مُجهضة تبنى في ربوع الوطن، باغث الموت أحمد البوعناني ليحمله بعيداً، ليرحل عنا تاركاً وراءه سرابه الممتد وقصائده وذكرى دمنات التي سكنها وسكنته.