السلفية المغربية: هل فقد الفكر السلفي تأثيره وحضوره في المجتمع؟
شهدت العقود الماضية انتشارا واسعا للفكر السلفي في المجتمعات الإسلامية، وحتى في كثير من الدول العربية، بلغت ذروتها في ثمانينيات القرن الماضي.
على أن السنوات الأخيرة، شهدت تراجعا واضحا لهذا الفكر، مما أفقده تأثيره وحضوره في المشهد الديني.
تداخلت الأسباب وراء هذا التراجع، بين ما هو سياسي، وما هو اجتماعي قيمي، جردت الفكر من حواضنه الاجتماعية، وأقصته من دوائر الحظوة.
أسباب أثرت في انحسار بعض مظاهر التدين التي كانت سائدة من قبل، كما أن الأجيال الجديدة من الشباب المتدين لم تعد تحفل كثيرا بتلك الهالة والقدسية للرموز والدعاة…
أن تكون سلفيا، معناه أن تعود إلى نهج صحابة النبي، أن تكون خلفا لهم، لا في التفكير فقط، بل في العادات واللباس والعبادة.
التاريخ عند السلفية توقف عند ما ترسخ في تمثلهم لما يسمونه التجربة الإسلامية الأولى، من أجل استقاء الأصول الفقهية والعقدية والأخلاقية “للسلف الصالح” بغية إسقاطها على الحاضر والمستقبل، فهم لا يؤمنون بحركية التاريخ ولا تغيره.
السلفيون اليوم يعيشون في واقع مغاير، واقع حديث كليا، يجعلنا نطرح سؤال: هل السلفية المغربية إلى فناء؟
في جوهر السلفية
في البداية، ينبغي الإقرار أن هناك عدة أنواع من السلفية، فمنها ما يتمحور خطابها حول تعدد الزوجات، وإعفاء اللحية، وهناك “سلفية ولي الأمر”؛ التي يتمحور خطابها حول وجوب طاعة ولي الأمر المسلم، وحرمة الخروج عليه… علاوة على السلفية التكفيرية التي تنطلق من مبدأ: أنت كافر لأنك تخالفني الرأي! ومنها الجهادية والعلمية. لكن…
المشترك بينها، أنها جميعا تمتح من التاريخ ومن السلف. السلفية منهج في الدين للتعامل مع النصوص، فهم القرآن والسنة بفهم سلف الأمة. لكن، من هم سلف الأمة الذين فهموا القرآن والسنة، والذين وجب اتباعهم؟
ينتقي السلفي من تراث الأمة ما يوافق دعوته السلفية، فيبدأ التاريخ عنده بالعهد النبوي، ثم بعهد الراشدين، ثم بعض التابعين من أهل الحديث، ثم يتنقل إلى الإمام أحمد، ثم يقفز التاريخ عندهم إلى ابن تيمية وابن القيم ليتوقف عند ابن باز.
هؤلاء هم الذين يجب أن يشكلوا حياتنا، في عاداتنا اليومية، في لباسنا، في مأكلنا ومشربنا، في كيفية التقرب إلى الله…
يقول أحمد المهداوي، الباحث في الدراسات الإسلامية، في مقال له: “إن السلفيين يرفضون فكرة الزمن المتغير، والأنساق المجتمعية المتبدلة، في إغفال تام لجدلية الوحي والتاريخ. ومن هنا تسعى السلفية إلى توظيف العاطفة الدينية في أشكال محددة وبدقة، على اعتبار، كما في مخيال السلفيين، أنها ترجمة صحيحة للتعاليم الإسلامية الصحيحة، فيقومون بذلك بدغدغة المشاعر لدى فئات المجتمع وأطيافه”.
يتبين اليوم أن السلفية المغربية أضحت تصطدم بواقع وآليات فكرية أقوى، لربما أصبحت بعض المجتمعات اليوم تتجه نحو تجاوز مفهوم الوصاية، والانتفاح على سرديات وآراء وتصورات أخرى… أليس كل هذا من شأنه إضعاف، وربما، أفول التيار السلفي؟
السلفية المغربية: هل تنحو نحو الفناء؟
جوابا على السؤال، يرى محمد عبد الوهاب رفيقي، الباحث في الدراسات الإسلامية، أننا حاليا إزاء موجات كبيرة من الانسحاب من التيار ومغادرته.
يقول رفيقي في تصريحه لمرايانا: “الحال لا يختلف بين المغرب ودول أخرى. وسائل التواصل الاجتماعي تدق آخر المسامير في نعش الوهابية والتفكير الأصولي، وإذا أراد أن يحيا، فعليه أن يراجع جزءا من أفكاره التي تصطدم مع معنى العيش المشترك“.
ستغدو السلفية، وفق الباحث في الدراسات الإسلامية، مجرد فكر عادي قابل للنقد والأخذ والرد. بمعنى أنها ستسقط عنه صفة “القداسة” التي استغلها دهرا كاملا للتلاعب بعقول المغاربة وغيرهم.
من جانبه، يرى منتصر حمادة، باحث في مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث، أنه من المؤكد تراجعُ التوهج السلفي الذي كان حاضرا بشكل أكبر منذ عقدين من الزمن. لكن، لا يمكن الحديث عن أفول الظاهرة؛ لأنها ظاهرة مجتمعية لم تبزغ بين ليلة وضحاها، وكانت لولادتها عدة أسباب محلية وإقليمية، كما انتشر خطابها في مخيال المجتمع، وأصبحت لدينا فئات مجتمعية، خاصة في ضواحي المدن الكبرى، وفي الأحياء الشعبية، تتبنى التدين السلفي، ولا زال الأمر كذلك.
يضيف منتصر حمادة في تصريح خص به مرايانا: “المستجد خلال الفترة نفسها، أي منذ عقدين حتى اليوم، أن التبعات المحلية والإقليمية لأحداث 11 من سبتمبر ساهمت في تسليط الضوء على الظاهرة، كما تسببت في ضغوط وإكراهات، تقف وراء تراجع إشعاعها الديني والثقافي، ونتذكر ما جرى في الساحة المغربية، مع تأثير المقاربة الأمنية الصارمة التي تبنتها الدولة المغربية.
وفق المتحدث، فالظاهرة مستمرة في الساحة المغربية، لكن بتوهج أقل، عكس الدول الخليجية التي انقلبت بشكل جذري على سياسات الأمس التي كانت تمول وتدعم التيارات والجماعات السلفية، كما هو الحال مع السياسات المتبعة خلال السنوات الماضية في السعودية.
ماذا عن السلفيين الجدد؟
الواضح أن السلفية، خصوصا في المغرب، أدركت هذه التحولات، وبذلك صارت تغير من نبرتها وتلون جلدها، عبر شيوخ غيروا من نبرة الخطاب، وجعلوها أقرب ما يكون إلى الشعبوية، تغيير في اللباس واستغلال للرقمنة.
هل يمكن القول إنها محاولة لإعادة الانبعاث؟
يجيب الباحث في الدراسات الإسلامية، محمد عبد الوهاب رفيقي: “تحاول السلفية اليوم أن تراجع بعضا من أفكارها، لكي تدخل غمار عصر أصبح غريبا عنها. رأينا، مثلا، ظاهرة جديدة من شيوخ السلفيين يلبسون لباسا عصريا ويتحدون بجمل تتراوح بين العربية واللغات الأجنية، ويستعملون التقنيات الحديثة بما فيها الرقمية والتكنولوجيا“.
هذه المحاولات، وفق الباحث، لحظات أخيرة لمقاومة حقيقة الفناء. لقد كتب أحد شيوخ السلفية قبل مدة: “سنعيش فترة ما بعد السلفية“، لأنهم ربما أدركوا أن وسائل التواصل الاجتماعي والثورة المعلوماتية التي رافقتها وسرعة الوصول إلى المعلومة ووصول حركات الإسلام السياسي إلى سدة الحكم، كلها عوامل ساهمت في انحسار الفكر السلفي والإسلاموي، وفي بيان الكثير من تناقضاته وإظهار العديد من عيوبه”.
من جهته، يرى منتصر حمادة، الباحث في مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث، أن هناك لغطا إعلاميا كبيرا، وأحيانا حتى لغطا بحثيا، كلما تعلق الأمر بالحدث عن الشيوخ السلفيين في المغرب، بحيث يبدو لقارئ، خاصة وإن كان من الخارج، كما لو أننا إزاء تيارات سلفية وازنة بمشايخ ذات كاريزما ولديها أتباع بينما الأمر خلاف ذلك.
يضيف منتصر حمادة: “ساهمت وسائل الإعلام في التضخيم الرمزي من مكانة هذه الأسماء، رغم عدتها العلمية المتواضعة أساسا، وبالتالي الحديث عن تأثير خطاب هذه الأسماء على الواقع سيكون وجيها لو أنها كانت شخصيات سلفية وازنة، ولديها عشرات الآلاف من الأتباع وتملك منابر إعلامية ومؤسسات تروج لخاطبها كما نعاين في بعض التجارب المشرقية، لكن الأمر مختلف كليا في الحالة المغربية، ما دام يتعلق بحالات فردية، وقد يتجاوز عدد أتباعهم بضع عشرات“.