فيلم Voyage à Gaza … ماذا لو لم يبدأ كل شيء في السابع من أكتوبر؟
فيلم Voyage à Gaza، للمخرج الإيطالوـ فرنسي “بييرو أوزبيرتي”، يعيد فتح كتاب الجرح، ليرافق أهل غزة في يومياتهم، أحلامهم وتصوراتهم البسيطة لفلسطين… وللحرية في فلسطين.
فيلم، يعيد كتابة غزة قبل السابع من أكتوبر، ليذكرنا فقط، أن الإبادة، بدأت منذ زمن بعيد.
”التشاؤم ينبع من الذكاء، أما التفاؤل فمن الإرادة”.
أنطونيو غرامشي
كان التوت يُزرع في بيت لاهيا. لم تكن تُسوى مبانيها بصلية صاروخية وترتعد من “خطة الجنرالات”[1]. المصاعد كانت تحتضن القبلات المسروقة للعشاق الغزيين. اليوم، يقبلون بعضهم فقط في أحلامهم.. إن عاشوا.
كان يمكن أن تكون ملحدا وتجابه ما تراه “تضييق” و”تشددَ” حماس.
كان يمكنكِ أن تسافري من الجزائر للم الشمل مع الحبيب الغزي.. لكي يعيش الحب وتذوب المسافات.
كان يمكنكَ أن تحاولَ حتى الثمالة الفرار من معبر رفح عوض دفع 3000 يورو للسلطات المصرية.
كان كل شيء ممكنا.. حياة متخمة بالأمل والممكنات رغم الحصار الإسرائيلي.
هذه مشاهد آسرة ومؤلمة- شاهدتُها بعيني وربطتها ذاكرتي بحرب غزة- من الفيلم الوثائقي “رحلة إلى غزة”، للمخرج الإيطالي الفرنسي الشاب بييرو أوزبيرتي، الذي صوّرَه في فترتين متفرقتين من سنة 2018.
فكرة العمل تكمن في مقابلات عفوية مع شباب غزيين، يبوحون فيها بأحلامهم، وتصورهم لحرية فلسطين، وأثَر الحصار الإسرائيلي على معيشتهم اليومية، وطموحهم.
العرض ما قبل الأول في باريس كان في سينما “غراند أكسيون”(Grand Action). كنت متفاجئا ومسرورا بهيمنة الفرنسيين على عدد الحاضرين. واهم جدا من يعتقد أن كل الأوروبيين يتماهون مع المواقف الرسمية لبلدانهم. الحسابات السياسية تختلف عن الحسابات الإنسانية.
“غزة جميلة”، هذا ما ردده المخرج أوزبيرتي في نصه الشاعري الذي رافق مشاهد الفيلم.
…جميلة لأن مشاهد الفيلم تنقل قهقهات الغزيين التي لا تتوقف عندما ينقطع التيار الكهربائي) في دول أخرى يشتعل سعار جماعي لأن وسائل الاتصال الاجتماعي توقفت لدقائق). جميلة لأنك يمكن أن تسبح في البحر مع حصانك، في مشهد شاعري اجترحه طفل غزي وختم به المخرج عمله السينمائي.
نسائم البحر ترافقك عندما تذرع القطاع من الجنوب إلى الشمال. جمانة تُدرّسُ الإنجليزية وتحلم بأن تصبح صحافية. الفتيات الصغيرات يفتخرن بمشاركتهن الدورية في “مسيرات العودة”، دون تقديم مبررات أيديولوجية لذلك، بل بالتأكيد على أحلامهم بالحرية والاستقلال. هل هناك ما هو أجمل من إرادة الإنسان؟
بعد عرضِ الفيلم، تحلى أحد الحاضرين بالجرأة والوقاحة اللازمتين (وكأنه لم يلاحظ أن الفيلم لم يمنح الكلمة لأي مسلح) لطرح السؤال الكلاسيكي على المخرج : “ما رأيك في حماس”؟
أجاب المخرج بأن أحد الشباب الذين حاورهم قدم جوابا شافيا يتجلى في أن السبب الأصلي لوجود حماس أصلا هو الاحتلال الإسرائيلي، وأنه يشعر بالسأم لأن كل فلسطيني يعيش وضعا إنسانيا قاسيا يتعرض للابتزاز للتعبير عن موقفه من حماس.
كما أكد، بالمقابل، أنه لا يتعاطف أو يؤيد أيديولوجية حماس، وأحال على تطرق عالم اللسانيات تشومسكي للاستعمال الإشكالي لمفهوم ”الإرهاب” من طرف الدول المتطورة عسكريا لتبرير حروبها.
عموما، الفيلم هو تجسيد للفكرة النبيلة التي تذهب إلى أن كل شيء لم يبدأ في السابع من أكتوبر. هي ليست إشادة بالإرهاب وقتل حماس لمدنيين إسرائيليين أبرياء، بل إبراز لتجليات سنوات الحصار الإسرائيلي التي أجهضت أحلام الغريين، وأذلّتهم، وحرمتهم من الشروط الإنسانية كالكهرباء، والماء الصالح للشرب، وحرية التنقل. يبرز هذا في سخرية الفلسطينيين، في العمل الوثائقي، من “الزنانة” (الدرون) كما يلقبونها، والتي تحلق على مدار اليوم فوق رؤوسهم، وكأنهم في سجن عملاق في الهواء الطلق.
خرجتُ من القاعة السينمائية بقلب مدمّى. تذكرت أنني لم أعد الشخص الذي كنته قبل السابع من أكتوبر. لأنني اتصلت بمدير مستشفى الشفاء محمد أبو سلمية وأنا أعرف أن الدماء بجانبه. لأنني قرأت، بحكم عملي، مئات برقيات وكالات الأنباء عن الموت، والاغتيالات، والمحاصرة، والمساعدات الإنسانية، والاشتباكات.
لم أعد الطفل الذي رسم علم فلسطين في حرب سنة 2008. استقبلت لائحة أرقام هاتفي، على حين غِرّة، أرقام الناطقين باسم الهلال الأحمر والأنروا. قرأت تفاصيل الوضع الإنساني التي يكتبها رامي جاموس، لموقع أوريان21 ؛ عن السيجارة التي وصل ثمنها 10 يورو ويقتسمها أربعة غزيين، وحلق الناس لشعورهم الطويلة لأن إسرائيل تمنع دخول مواد التنظيف.
عبقري من ابتدع مصطلح « Gazicide ».دمج لكلمتي “غزة” و”الإبادة”. أغلب من ظهر في الفيلم الوثائقي، لم يعد لهم سقف في غزة وجغرافية لتحقيق أحلامهم. توزعوا على إيطاليا ومصر ودول أخرى. البقية غادروا –ربما- هذا العالم الدنيوي. غادروا أحلامهم وغادرتهم.
دائما ما أتساءل: من يتطوع لتحقيق أحلام الموتى؟ ربما.. لا أحد. لذلك، ستعاتب المصاعد المحرومة من دفء عشاقها الغزيين : لماذا تركتم المصعد وحيدا؟
عندما أُعيد قراءة ما كتبت، أجده يميل نحو الميلودراما والرومانسية. لكن، لا حل لي. صار لزاما أن ألتحق برَكب المحتفيين بأحداث أمستردام[2]، والمصفقين لموقف جنوب أفريقيا (قدمت جنوب أفريقيا مذكرة ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية).
ما أخشاه هو أن تُخصّصَ لنا (نحن المنتسبين للدول العربية) جائزة أفضل متعاطف مع المتعاطفين الجديين مع القضية الفلسطينية.
عادت باريس للارتعاش. لا يمكنها، في هذا الليل المتأخر، أن تستدفئ بجلبة السياح، واهتزازات الشباب العابثين في سان جيرمان، وطوابير الانتظار اللامنتهية.
نظرت للسماء، وهمست بلغة إيطالية مجروحة: غزة جميلة!
[1] ــ حصار شمال قطاع غزة (بيت لاهيا جزء منه). الترحيل القسري لكل مدنييه. محاصرة وتجويع مقاتلي حماس لإرغامهم على الاستسلام. إنشاء منطقة عازلة مع باقي مناطق القطاع.
[2] ــ تعامل مواطنين من أصول عربية في أمستردام مع مشجعين إسرائيليين، في ما وصفوه ردة فعل على تمزيق العلم الفلسطيني، من طرف مشجعي ماكابي تل أبيب، خلال تنقلهم للعاصمة الهولندية.