في ذكرى وفاته: ميمونيدس.. مفكر يهودي أم مفكر إسلامي؟
كان ابن ميمون أو ميمونيدس نتاج مجتمع وحضارة وثقافة متميزة بالاندماج والتعايش بين مختلف مكوناتها… باستثناء المراحل التي شهدت عدم استقرار وأعمال عنف مرتبطة بالنزاع على السلطة وتغيير الحكام وانتفاضات القصور.
من يقبل على قراءة سيرة ميمونيدس، سيجد نفسه في مفترق أسئلة عديدة. هذه الشخصية التي يعتبرها اليهود من بين أعظم الشخصيات لديهم، نشأت في الأندلس في وقت كان التعايش السلمي بين اليهود والمسلمين، حسب عدد من الروايات، في أبهى صوره.
صحيح أن ميمونيدس ولد يهوديا، لكن أحداثا سياسية أثارت جدلا واسعا عما إذا كان قد اعتنق الإسلام بعد ذلك. غير أن موته يهودي السريرة يبدو ثابتا.
مع أنه من اليهود القلائل الذين كتبوا بلسان عربي، يعد ابن ميمون مفكرا يهوديا لدى اليهود باعتبار ديانته، ومفكرا إسلاميا لدى بعض المسلمين، بحكم البيئة التي نشأ فيها. كيف ذلك؟ هذا بعض من حكاية موسى بن ميمون!
في قرطبة أكبر حواضر الأندلس، سيولد موسى بن ميمون في 30 مارس 1135م، “رمبام” كما يعرف لدى اليهود، أو “ميمونيدس” كما يعرف لدى العالم أجمع، ليصبح حسب بعض من سبروا أغوار اليهودية، أحد أعظم الشخصيات التي دانت بهذه الديانة على الإطلاق.
ولد موسى لأب كان قاضيا في المحكمة الشرعية اليهودية بقرطبة. أما أمه، فقد توفيت أشهرا قليلة بعد وضعه، وقد أسموه “موسى” ذلك أنه رأى النور قبيل عيد الفصح، وجرى العرف لدى بعض اليهود أن مواليد هذا العيد يطلق عليهم في الغالب اسم موسى.
لم يكن أب موسى متفقها في الدين اليهودي فحسب، بل كان يمارس علوما أخرى كالبيولوجيا والفلسفة. في غضون ذلك، كانت قرطبة أحد أهم مراكز العلماء والفلاسفة المسلمين. وعلى الرغم من أن العصر كان يعرف بالعصر الإسلامي، إلا أن الحضارة اليهودية قد ازدهرت في ضوئه كما لم يحدث سابقا.
اقرأ أيضا: إدمون عمران المالح… المغربي اليهودي الذي اتخذ الكتابة سلاحا لفضح الصهيونية!
يقول المؤرخ اليهودي المغربي حاييم الزعفراني: “كان ابن ميمون نتاج مجتمع وحضارة وثقافة متميزة بالاندماج والتعايش بين مختلف مكوناتها… باستثناء المراحل التي شهدت عدم استقرار وأعمال عنف مرتبطة بالنزاع على السلطة وتغيير الحكام وانتفاضات القصور. كانت السمة الغالبة هي العمل المشترك والتعايش في كنف الأمن والسلم”.
يقول ابن القفطي في كتابه “تاريخ الحكماء” إن موسى كان من بين من أعلنوا إسلامهم تقية بمدينة قرطبة. وبالمقابل، يقول الكاتب إسرائيل ولفنسون إنه ليس في المصادر اليهودية أدنى إشارة إلى إسلام أسرة ميمون في الأندلس أو في المغرب.
نشأ ميمونيدس “الصغير” في هذه الأجواء التي كان لها بالغ الأثر في نحت ورسم مجرى حياته فيما بعد. لكن جو النشأة هذا انقلب رأسا على عقب بعدما فتح الخليفة الموحدي، عبد المؤمن بن علي الكومي، قرطبة سنة 1148، ولم يترك ذميا واحدا لم يعرض عليه الإسلام؛ فمن أسلم سلم ومن أبى تم قتله، حسب ما يروي الكاتب إسرائيل ولفنسون عن حياة موسى بن ميمون.
في نفس السياق، يقول ابن القفطي في كتابه “تاريخ الحكماء” إن موسى كان من بين من أعلنوا إسلامهم تقية بمدينة قرطبة. ولما أظهر دينه، كان لزاما عليه أن يظهر إقامة شعائره من صلاة وتلاوة قرآن وما إلى ذلك، وكان ذلك إلى حدود أن أمكنته فرصة الفرار من قرطبة. لكن حسب ولفنسون، فإنه ليس في المصادر اليهودية أدنى إشارة إلى إسلام أسرة ميمون في الأندلس أو في المغرب.
اقرأ أيضا: أحمد الخمسي يكتب ـ حزن الظن: باب الجياف… باب اليهود!
هذا المستجد إذن، سيتسبب في نزوح عائلة موسى (“موشيه” بالعبرية)، إلى مدينة ألمرية التي حازها المسيحيون جنوبا. هناك سيلتقي بابن رشد الذي فر من قرطبة أيضا بسبب نزعته الفلسفية التي جرت عليه مقصلة الناس. لكن مقام أسرة ميمون لن يطول هناك، إذ سرعان ما هاجرت إلى فاس. هذه الأخيرة لم يكن الحال فيها أفضل من قرطبة، فنزحت الأسرة مرة أخرى بحرا إلى عكا بفلسطين، وبعد ذلك انتقل موسى بن ميمون وحده إلى الإسكندرية ليستقر به الحال في الأخير في مدينة الفسطاط (مصر)، التي أقام بها وأطلق فيها العنان لعلمه.
يعد “دلالة الحائرين” أشهر كتب ميمونيدس، وقد كتبه بالعربية والعبرية على حد سواء، لتفادي الدخول في نقاشات “بيزنطية” مع اليهود المتعصبين، وكتابه هذا يعد أيضا باكورة ما أنتجه الفكر اليهودي.
في الفسطاط، سيذيع صيت ميمونيدس وسيكون له جمهور كبير من الناس ينهلون من محاضراته في علوم الدين والرياضيات والفلك والفلسفة. في أثناء إقامته في مصر، سيظفر صلاح الدين الأيوبي بالسلطة بعد انقلاب سياسي على العلويين سنة 1171، ويبدو أن اليهود سيتنفسون الصعداء بحكم الأيوبي.
موشيه سيكون أوحد زمانه في الطب، حسب بعض المراجع، حد أن وزيرا قد سمع به، اقترحه على الأيوبي، فقرر له الأخير راتبا وأصبح طبيبا خاصا بعلي بن صلاح الدين، أكبر أبناء الأيوبي. ومع ذلك، لم يثنه بلاط القصر عن معالجة المرضى من باقي الفئات داخل المجتمع.
اقرأ أيضا: “الأصولية” في اليهودية: بين لعنة المنفى وغواية الأرض (الجزء الثالث)
بعد ذلك، كان بن ميمون من أعضاء هيئة المحكمة الشرعية اليهودية، بل وتزعم الطائفة اليهودية، وقد عمل طيلة مهمته على الرفع من مستوى الشعب اليهودي دينيا وخلقيا وعلميا، وفق بعض السير التي تتناول حياته.
ألف ميمونيدس بضعة كتب، تنقسم بين الفلسفة والطب وما هو خاص باليهودية، لكن أهم ما كتبه وعُرف به، كتاب “دلالة الحائرين”. هذه التسمية جاءت لأن الكتاب عده دليلا للحائرين بين ما تقرره الفلسفة بالعقل وبين ما تقرره الشريعة اليهودية بالنقل. وقد كتبه بالعربية والعبرية على حد سواء، لتفادي الدخول في نقاشات “بيزنطية” مع اليهود المتعصبين، ويعد الكتاب باكورة ما أنتجه الفكر اليهودي.
موشيه سيكون أوحد زمانه في الطب، حسب بعض المراجع، حد أن وزيرا قد سمع به، اقترحه على الأيوبي، فقرر له الأخير راتبا وأصبح طبيبا خاصا بعلي بن صلاح الدين، أكبر أبناء الأيوبي.
لكن، لماذا ينسب موسى بن ميمون إلى الإسلام؟ حسب المفكر المصري، مصطفى عبد الرازق، فإن بن ميمون يعد فيلسوفا من فلاسفة الإسلام؛ لأن “المشتغلين في ظل الإسلام بذلك اللون الخاص من ألوان البحث النظري مسلمين وغير مسلمين يسمَّون منذ أزمان فلاسفة الإسلام. وتسمى فلسفتهم فلسفة إسلامية بمعنى أنها نبتت في بلاد الإسلام وفي ظل دولته، وتميزت ببعض الخصائص من غير نظر إلى دين أصحابها ولا جنسهم ولا لغتهم”.
اقرأ أيضا: شمعون ليفي… السياسي المغربي الذي وهب حياته لإبراز أثر اليهودية في الهوية المغربية 1\2
أما عبد الوهاب المسيري، وهو مفكر مصري أبرز أعماله كتابه “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية”، فيقول عن موسى بن ميمون إنه “مفكر عربي إسلامي الحضارة والفكر، يؤمن باليهودية وعضو في الجماعة اليهودية في إسبانيا الإسلامية“.
في 13 من ديسمبر سنة 1204، وبعد سبعين عاما من امتطائه صهوة الحياة، سيترجل ميمونيدس لتُحمل جثته إلى طبرية حيث دفن، وقد عمّت لموته الأحزان لدى اليهود في جميع البلدان التي كانوا يوجدون بها. وما زال اليهود إلى اليوم يزورون ضريحه في طبرية ويقيمون ذكرى موته سنويا، كما أن الحي الذي ولد به بقرطبة، يحمل اليوم اسم “ميمونيدس”.