في ذكرى وفاتها: رضوى عاشور… قبلةٌ على جبين الأدب العربيّ 1/2
قالت رضوى مراراً إنّها محبةٌ للكتابة حد التخمة ومفتونة بها، وكأنها تعي بعمق أن الكتابة وحدها تضاهي جبروت الموت…
“قلتُ إني أحب الكتابة لأني أحبّها، وأيضاً لأن الموت قريب. قلت إن الواقع يشعرني بالوحشة وإن الصمت يزيد وحشتي والبوح يفتح بابي فأذهب إلى الآخرين، أو يأتون إليّ”.
“هي التي جعلت هشاشتها اسما آخر للصّلابة. هي التي علمت الديكتاتور كيف ترفض انتباهه المشبوه لقيمتها، وفى سلة مهملات واسعة قرب حذائها الصغير (نمرته خمس وثلاثون) ترمي المناصب السمينة المعروضة والألقاب الرفيعة المقترحة ودعوات الحظيرة/القصر التي يهرول إليها سواها، مكتفية بفرح القارئ ببرق السطور من يدها وفرح الطّالب ببرق المعرفة من عينيه…”، هكذا رثَى مريد البرغوثي رضواهُ وزوجتهُ رضوى عاشور التي خطفتها المنون عام 2014…
لمْ تكن الروائية رضوى عاشُور تدري أن السّرطان سينتصرُ في الثلاثين من نونبر من سنة 2014، وينقلها إلى عالم آخر… عالم الموت والصّمت عن عمر يناهز الـ68 عاماً… ويترُكَ خلفَها إرثاً أدبياً، لازال يصرخُ من أجل الحقّ والحُرية والكرامة الإنسانية والتحرّر الوطَني.
“رضوى عاشور” كانت قاصّة، وروائية، وناقدة أدبية، وأستاذة جامعية مصرية، ولدت في 26 ماي 1946 في القاهرة، ودرست اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعتها.
بعد حصولها على شهادة الماجستير في الأدب المقارن، من نفس الجامعة، انتقلت إلى الولايات المتحدة حيث نالت شهادة الدكتوراه من جامعة “ماساتشوستس”، بأطروحة حول الأدب الإفريقي الأمريكي.
“من قال إن القلق يذهب؟ إنه يفيض.” هكذا فكّرت رضوى، وهكذا سيفكّر القلقون في كلّ زمن…
لم تصبح صورة رضوى في الأدب العربيّ راسخةً من فراغ، ولا ضربة حظّ “طائشة”. بل كان ثمنُ ذلكَ أن قدّمت لهذا الأدب سفريات الغُربة والاغتراب لنيل المعرفة من كلّ الثقافات، ثمّ تلقين تلك المعرفة في الجامعات العربية. وجادت قريحتها النّقدية بعديد المؤلّفات أيضاً، على غرار “الطريق إلى الخيمة الأخرى” حول التجربة الأدبية لغسان كنفاني. فضلاً عن التّرجمة.
الأجمل، ربّما، أنّ رواياتها وقصصها وحكاياتها، ستبقى تقارعُ الزّمن، لكي تخبر الجميع أن رضوى راحت فعلاً، بيد أن كلماتها وأدبها صارت بمثابة قُبلة هادئة… ينتشي بها جبينُ الأدب العربيّ.
فِتنةُ الكِتَابة…
قالت رضوى مراراً إنّها محبةٌ للكتابة حد التخمة ومفتونة بها، وكأنها تعي بعمق أن الكتابة وحدها تضاهي جبروت الموت… “قلتُ إني أحب الكتابة لأني أحبّها، وأيضاً لأن الموت قريب. قلت إن الواقع يشعرني بالوحشة وإن الصمت يزيد وحشتي والبوح يفتح بابي فأذهب إلى الآخرين، أو يأتون إليّ”.
كانت رضوى مُصارِحةً لقرائها…
تنحاز صراحةً للمسحوقين والمهمشين والمستضعفين والمسلوبين والمُتعبين، للمواطن العربي والهنديّ الأحمر ولذوي الأصل الأفريقي والبورتوريكي والفيتنامي، وكل الحالمين في العالم الثالث!
لم تخف يوما أنّها تحملُ فكراً مُؤدلجاً ومنحازاً، وتُضمنهُ فيما تكتبُ دونَما خوفٍ… تقول عاشور: “ألمحت أنني أكتب لأنني منحازة (أعي العنصر الأيديولوجي في ما أكتب وأعتقد أنه دائماً هناك في أية كتابة)، ولكن لو سألتموني الآن هل تكتبين لكسب الآخرين إلى رؤيتك؟ سأجيب بلا تردد: ليس هذا سوى جزء من دوافعي، أكتب لأني أحب الكتابة وأحب الكتابة لأن الحياة تستوقفني، تدهشني، تشغلني، تستوعبني، تربكني، وتخيفني، وأنا مولعة بها”…
زواجها من الشاعر الفلسطينى مريد البرغوثى، أضفى على كتاباتها بعدًا إنسانيًا واضحًا في تصدّيها للقَضايا الحاسمة في الحياة الثقافية المصرية والعَربية كالقضية الفلسطينية والاعتقال السياسي في القرن الماضي، الذي يمتد إلى هذا الجيل، كما تبين في رواية “فرج”، وكما سنتابع في الجزء الثاني من هذا البورتريه.
الكتابةُ جعلتها تلعبُ دور الضمير الذي يمثل الوجدان المصري في المواقف الوطنية والقومية وقضايا التحرر الوطني والإنساني… فالكتابةُ، بالنسبة لها، فعل مقاومة لأزمات الحاضر باستجلاء لأصوات أُخرسَت في صفحات التّاريخ…
رضوَى وقضَايا التّحرّر الوطَني!
“لم أختر العمل السياسي بمعناه اليومي الدارج حيث المواءمات والتنازلات والحلول الوسط. أنا كاتبة وأستاذة جامعية ولا رصيد لي إلا ضميري واجتهادي وما يمليه عقلي عليّ”.
لعلّ هذه الجملة، كما يقولُ عُمر طلعت، تُلخص مواقفها السياسية… هي منحازة دائمًا للمظلومين والمهمشين، منحازة لما تراه أكثر عدلًا وجمالًا.
الأجمل، ربّما، أنّ رواياتها وقصصها وحكاياتها، ستبقى تقارعُ الزّمن، لكي تخبر الجميع أن رضوى راحت فعلاً، بيد أن كلماتها وأدبها صارت بمثابة قُبلة هادئة… ينتشي بها جبينُ الأدب العربيّ.
بشكل أدقّ، تنحاز صراحةً للمسحوقين والمستضعفين والمسلوبين والمُتعبين، للمواطن العربي والهنديّ الأحمر ولذوي الأصل الأفريقي والبورتوريكي والفيتنامي، وكل الحالمين في العالم الثالث!
تذهب لأمريكا للدراسة، “لا تُبهرها الأضواء، تصف حضارتها بالكسيحة، تؤسس لجنة الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني مع أصدقائها بجامعة ماساتشوستس. تعرف ميزات أمريكا وحضارتها، لكنها تدرك أن الأضواء اللامعة لتلك الحضارة تُخلّف ظلًا قاسيًا، فتقول: “هذا البلد لا يقرئنا الأمان!”… ينقلُ الباحث عمر طلعت.
تروي في مُؤلفها: “الرحلة.. أيام طالبة مصرية في أمريكا”، ما عايشتهُ منذ اللحظة الأولى لها في المطار، عام 1973، أثناء توجها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لدراسة جانب جديد من الأدب المرتبط بحركات النضال “الأفرو أمريكي”.
رضوى عاشور تقولُ في أحد حواراتها الصحافية بشأن موضوعات التّحرر الوطني: “هذا يقوِّمه غيري، لكن أعتقد أن نفس الكتابات الإبداعية والنقدية والبحثية لها خيط ناظم بدرجة. هناك رغبة حقيقية في التحرر الوطني والتحرر الإنساني وتحرر الرجل وتحرر المرأة، لأن الكتابة الروائية أو الإبداعية عموما، هي بناء على أرضيةِ اللغة وبناءٌ باللغة، وأنت ابن موروث أدبي عام شديد الثراء، وأنا لدي هاجس في أن أعرف هذا الموروث ويكون لي قيمة”.
وتتابعُ رضوى: “على المستوى الخاص لا أكتب شيئاً، بقيت فترة من الزمن مكتئبة وأبكي بعد اجتياح العراق. وبقيت مضطربة لفترة من الزمن، ولكن بعد فترة، رجعت إلى الكتابة والنشر، ونشرت ثلاثة كتب خلال ثلاث سنوات، وبعدها أصدرت رواية اسمها “فرج” تتحدث عن تجربة السجن”.
لم تخف يوما أنّها تحملُ فكراً مُؤدلجاً ومنحازاً، وتُضمنهُ فيما تكتبُ دونَما خوفٍ…
يبدو أنّ رضوى عاشور كانت تحملُ فكراً إنسانياً ضخماً أثقل منها، “أثقل من رضوى“.[1] ذلك الفكرُ الذي ترجمتهُ أدبياً وروائياً، على اعتبار أنّه يعكسُ تلك “الصّرخة” [2]، التي تشكّلُ قطعاً من ذهنها وروحها وقلبها…
“من قال إن القلق يذهب؟ إنه يفيض.” هكذا فكّرت رضوى، وهكذا سيفكّر القلقون في كلّ زمن… لكنّ قلق رضوى كان بـ”الأمس”، ويتداعى على “اليوم”. ما يجعل المرء فزعاً أن يُجهض هذا القلق كلّ أمل في “الغد”!
فكيفَ نظرت رضوى للقضية الفلسطينية بعد زواجها بالبرغوثي؟ وأي موضوعات أخرى تضمنتها أعمالها؟
هذا ما سنراه في الجزء الثاني من هذا الملف.
[1] أثقل من رضوى: مقاطع من سيرة ذاتية، دار الشروق، القاهرة، 2013
[2] الصرخة (مقاطع من سيرة ذاتية)، دار الشروق، القاهرة، 2015