حي بن يقظان… ابن طفيل يفكك علاقة الفلسفة بالدين 2/2
لم يستطع حي بن يقظان فهم الجهل الذي يوجد عليه أصحاب الشرائع…
أغلبهم لا يفهم حقيقة الكون والله، ولا حظ له من المعرفة بالموجودات العقلية، بسبب غلبة المظاهر والطقوس والشعائر الدينية على سلوكهم، وغياب التأمل والنظر العقلي للوصول للحقيقة والسعادة الدائمة.
بعدما تابعنا في الجزء الأول من هذا الملف، حكاية الفيلسوف ابن طفيل، وسبب اختياره مقاربة علافة الفلسفة بالدين بأسلوب أدبي، نتابع في هذا الجزء الثاني، بعض أهم تفاصيل حكاية “حي بن يقظان”، وأهم الأسئلة التي يطرحها ابن طفيل من خلالها.
… تَدُور القصة حول شخصيةِ حي بن يقظان، الطفلُ الذي ظهر وترَعْرَعَ في جزيرةٍ مهجورة من دُون أُمٍ. عاش وحيدا بين أحضانِ الطبيعة وحيواناتِ الغابة، ولم يجد غير ظَبْيةٍ فقدت صغيرها مالت لهُ واستأنست بهِ تُرضعهُ وتعتني بهِ.
يقدم ابن طفيل فرضيتينِ لظُهور الطفل في هذه الجزيرة، الفرضيةُ الأولى أنهُ تَكَونَ بفعلِ أسباب طبيعيةٍ داخل مغارةٍ بها ماءٌ وطينٌ وهواء وحرارة، وهو ما قد يَشِي بنزعةٍ تَطورِيةٍ لدى ابن طفيل، تخالفُ نظريةَ الخلقِ في الديانات، وقد يُفهم من ذلك بوادرُ تكونِ نظرية النشوء والارتقاء، التي شكلت ثورة علمية في ميدان علوم الحياة والأرض، وصلت ذِروتها في القرن التاسع عشر.
اقرأ لنفس الكاتب: ابن باجة… فيلسوفٌ ظُلِمَ حياً وميتاً
أما الفرضية الثانية، فهي أن ملكا عظيماً كانت له أختٌ جميلة تعشق قريباً لها اسمه يقظان، وكان نتيجة هذا الحب والعشق ولادة طفلهِمَا؛ وتجنُباً لانكشافِ علاقتهما، وضعتهُ في تابوتٍ أحكمت إغلاقه ورمت به في البحر، فقادتهُ الأمواج إلى جزيرة مهجورة بعيدة نشأ وتربى فيها، وهي أحداث تتشابهُ مع قصة النبي موســــــى في التوراة.
تَتَطورُ أحداثُ القصة وتتشابكُ من لحظة ظهور الطفل إلى لحظة النضج والشباب، وبالضبط عند حدث وفاة الظبية الأُم التي ربت حي بن يقظان. سيكونُ موت الظبية لحظةً فلسفية تعبر عن الدهشة الفلسفية التي أخذت حي بن يقظان، وهو يشاهد أمه تتحول من حالٍ إلى حالٍ، من الحياة إلى الموت، فما هي الحياة؟ وما هي الموت؟…
أسئلة وجوديةٌ ستشغل بالهُ وهو يبحث عن سر الحياة والموت، وهي إشارةٌ دقيقةٌ من ابن طفيل عن لحظة ظهور الفلسفة في الوقت الذي يتحولُ فيه تفكيرُ الإنسان إلى طرح الأسئلة حول ماهية وجودهِ وحقيقة حياتهِ.
سيكتشف حي بن يقظان، في مسيرة بحثه، حقائق كثيرة مثل حقيقة الروح والنفس والحياة، وهي موجودات عقلية ستكون أدلة عقلية على حقيقةٍ أكبر وأعظم هي حقيقة الذات الإلهية، حيث استطاع البرهنة عقليا على وجود الله.
هنا تظهر خطوطُ التماس بين الفلسفة والدين والغاية الحقيقيةُ لكتابة هذه القصة عند ابن طفيل؛ فإذا كان الدينُ يهدفُ لكشفِ الحقائق الوجودية، كالنفس والروح والموت والحياة التي تدل على وجود خالق أسمى وعقلٍ مُدبرٍ لها ولباقي الموجودات في الكون، فإن حي بن يقظان استطاع الوصُول لكلِ هذا بدُونِ شرائعَ ولا حاجةٍ إلى نبي أو رسول مبشرٍ ومُنذر، أو كتابٍ منزلٍ مبينٍ ومُفصِلٍ. استطاع ذلك بعقله وتأمله في الموجودات، فوصل إلى أن لِكُل موجودٍ سببا وفاعلا ولهُ غايةٌ ومادةٌ وُجِدَ مِنهَا.
غير أن أحداث القصة ستتطور في اتجاه لم يكن متوقعاً؛ ففي اللحظة التي أحس فيها حي بن يقظان بسعادةِ الحقائق التي وصل لها بالعقل، وفي لحظات تأمله في حقيقة وجود الله، سيقع حدثٌ له دلالاتٌ فلسفية عميقة.
لقد ظهر الناسُ وانكشف له عالم غريبٌ لم يألفهُ، يحكي ابن طفيل في هذا المستوى من قصته، أن سفينة توقفت عند الجزيرة التي يعيشُ بها حي بن يقظان، كان بها الكثير من المسافرين الذين نزلوا للجزيرة من أجل التزود بالماء وبعض الزاد لمواصلة السفر، وكان من بين المسافرين رجل شيخ اسمه أبسال كان عالماً بالدِينِ زاهداً ومتصوفاً، التقى حي بن يقظان بالصدفة قريبا من شاطىء البحر، وكان لقاءا غريبا وجميلا جرى فيه الكثير من الكلام…
بعد ذلك، استطاع الشيخ الزاهدُ إقناع حي بن يقظان بمرافقته إلى بلده، وهي جزيرة عامرةٌ بالناس. أثناء ذلك السفر، حكى حي بن يقظان للشيخ أبسال بعض ما وصل له من أفكار ومعارف عن الله والكون بطريق التأمل العقلي، فاندهش الشيخ لكون ما وصل له حي بن يقظان هو نفسه ما تدعو له الشريعة الإلهية، وكأنها إشارة بأن طريق العقل لا تخالف طريق الشرع، غير أن الأحداث ستتجه اتجاها آخر، كعادة ابن طفيل في التعبير عن أفكاره من خلال شخصية حي بن يقظان، الذي وقف حائراً عندما نزل يتأمل أحوال الناس في المدينة التي سكن فيها رفقة صديقه الشيخ الزاهد.
لم يستطع حي بن يقظان فهم الجهل الذي يوجد عليه أصحاب الشرائع، فأغلبهم لا يفهم حقيقة الكون والله، ولا حظ له من المعرفة بالموجودات العقلية، بسبب غلبة المظاهر والطقوس والشعائر الدينية على سلوكهم، وغياب التأمل والنظر العقلي للوصول للحقيقة والسعادة الدائمة.
اقرأ أيضا: الحرية الفكرية: هكذا أسهم رجال الدين تاريخيا في قمع الفكر واضطهاده 4/2
لقد أحس حي بن يقظان بضرورة العودة إلى الجزيرة ومتابعة حياة التأمل والتفكير في الذات الإلهية، وهو الأمر الذي دفعه للاعتذار من صديقه الشيخ الزاهد، واستأذنه في مغادرة المدينة والعودة لحياة العزلة. طلبٌ قبله منه الشيخ الزاهد… بل عرض عليه مرافقته والعيش معه في الجزيرة وهجرة الناس وأحوالهم، لأنهُ عرف أنهم يعيشون في جهل ألِفُوه ومن الصعوبة كشفُ الحقيقة لهُم.
وكأن ابن طفيل يُذكرُناَ في هذا المستوى من قصته بأهل الكهف مع سقراط الذين رفضوا الخروج منهُ، مُعتقدين أن ما يعيشُونه هو الحقيقة، وأن خارج الكهف ليس إلا خيالات أوهام، ليصير الكهف تعبيرا عن الجهل، والنورُ خارج الكهف دلالة على الحقيقة…
الحقيقة التي نحتاج من أجل الوصول إليها للشجاعة والجرأة…
نحتاج للخُرُوجِ، كما خرج حي بن يقظان من الجزيرة، وخرج ذلك الرجل الشُجاعُ من ظلام الكهف.
لقراءة الجزء الأول: تُرجم إلى لغات كثيرة وهمشه المسلمون: ابن طفيل مبدع “حي بن يقظان” 1/2