تحديث الدين بين الانغلاق ومحاولات التجاوز 2/2
سؤال تحديث الدين، ارتبط بالعقيدة الإسلامية عموما، وصار أولوية في المغرب، خصوصا بعد ظهور الخطابات المتطرفة وما تلاها من أعمال إرهابية.
تحديث الدين، يطرح أكثر من سؤال عن دور الدولة، وأيضا دور النخبة في تجديد الدين، والسير نحو أفق أرحب للتحديث في المجتمع.
في الجزء الأول من هذا الملف، تابعنا كيف بدأ النقاش حول تحديث الخطاب الديني وكيف اتجهنا نحو مسار الإصلاح الديني، وتساءلنا هل فعلاً ما وصلنا إليه الآن، يُمكن أن يعتبر إصلاحا وتحديثا للشأن الديني؟
في هذا الجزء الثاني، سنتعرف على بعض مكامن الخلل فيما يسمى بالتحديث لنطرح السؤال:
أين وصل التحديث وما المسار الذي ينهجهُ اليوم؟
أزمة تحديث أم نقل؟
محمد سعيد، باحث مغربي مُقيم بأمريكا، يتساءل مع مرايانا، علاقةً بالتحديث والإصلاح الديني: هل الثقافة الإسلامية أساساً علاقة عقل أم نقل؟ ينطلق سعيد من كتاب “درء تعارض العقل والنقل” لابن تيمية، الذي يُعتبر أول محاولة في التاريخ الاسلامي لإيجاد تناغم وتناسق ما بين المعقول والمنقول، لكن هاته المحاولة أخفقت كما أخفق صاحبها في العديد من الإشكاليات المطروحة على الخطاب الديني منذ زمن بعيد.
حسب سعيد، فقد رفض ابن تيمية القاعدة الشهيرة للأشاعرة التي تقول بالعقل قبل النقل، إذ عكس هاته القاعدة وقال بالنقل قبل العقل، فأُجهضت كل المحاولات المتتالية عبر التاريخ الإسلامي إلى زمننا اليوم، لأن هناك تخوف لدى بعض المسلمين من تجديد خطابهم، على اعتبار أن التجديد سيصيب صلب مرجع العقيدة الاسلامية، ألا وهو القرآن والحديث.
يقول الباحث: “يجب الفصل بين العقل والنقل، لكن هذا الأمر يحتاج جرأة من صناع القيم بالمجتمعات بالإسلامية”. محمد سعيد، يذهب إلى أن الفهم الديني الإسلامي منذ البدء، كان فهما يتماشى مع السياسة ولا يتعارض معها، لذلك نحتاج اليوم للفصل بين الدين والسياسة للتأسيس للحداثة كما عرف الغرب.
تحرير وانعتاق
الخطاب الديني، حسب سعيد، خطاب نص، وأي خطاب خارج النص مجرد محاولات للالتفاف على النص، لكن تبقى المسؤولية على المجددين لإيجاد تسوية مقبولة لترشيد النصوص خدمةً للمؤمنين بها، والتحرير من سلبيات التراث وتداعيات العقل التقليدي.
محمد سعيد يدعو، في حديثه لمرايانا، لقراءة متجددة للنص الديني والتراثي، تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، لفهم متجدد للدين وذلك بُغية نهوض يساهم في ترسيخ قيم الحداثة والحرية والعدالة والمساواة، بهدف التأسيس من وراء ذلك لمجتمعات إسلامية خالية من العنف اتجاه الآخر.
يؤكد سعيد أن الاشتغال على تحرير الخطاب الديني من القراءات المتحجرة، سيقود نحو مجتمعات مؤسسة على الاختلاف والتسامح، باعتبار هاتين الخاصيتين من القضايا الأكثر حساسية في الخطاب الديني والفكري السائد.
الأمن والنخبة: أي علاقة؟
بالعودة لتجديد الخطاب في النموذج المغربي، يتجه إدريس الصنهاجي، أستاذ السوسيولوجيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز، للتساؤل مع مرايانا عن حقيقة ما قامت به الدولة من إصلاحات دينية، مشيراً إلى أن هذا الاصلاح تمَّ بمقاربة وخلفية أمنية، أي أن الإصلاح الذي تريده الدولة محكوم بالهاجس الأمني ولم يرق إلى الإصلاح الحقيقي.
يؤكد الصنهاجي أن الأفكار والتصورات الدينية، هي التي يجب أن تخضع للتحديث بالشكل الذي يجعل الاجتهاد قائما وباستمرار، وحاضرا لمواكبة التحولات التي يشهدها المجتمع المغربي.
حسب الباحث، من الضروري القيام بإجراءات لضبط المجتمع ومراقبته، ومواجهة العديد من الأفكار المتطرفة بأفكار فقهية مُحدَّثة ومحيَّنة، فضلاً عن الخوض في قضايا آنية لا تعطي الفرصة للأفكار الدخيلة التي انتجت في سياق آخر مختلف تماما عما نعيشه بالمغرب.
يحمل الصنهاجي المسؤولية للنخبة الدينية مشيرا إلى أنه من الضروري أن تقومَ بدورها وتتبنى خطابا دينيا تحديثيا، يأخذ بعين الاعتبار الواقع والتحولات المجتمعية، فهناك أحكام فقهية لم يعد يقبلها الواقع، وهي بحاجة للتحديث.
في النموذج المغربي، الملك يمتلك سلطة تدبير الشأن الديني، وهو المالك للدور الريادي في الإصلاح الديني الذي نتحدث عنه، باعتباره رئيساً للمجلس العلمي الأعلى الذي يُشرف على العديد من الفقهاء المغاربة، الذين لهم قدرات وكفاءات وبإمكانهم أن يقدموا اجتهادات.
يؤكد الصنهاجي أنه من واجب الدولة أخذ زمام المبادرة، لكي يكون هناك انسجام بين الفقه المغربي والواقع والتحولات التي يشهدها، وبناء على هذا الانسجام، يتم تقديم اجتهادات لا تجعل مغاربة في تناقض مع ممارساتهم، فالمشكل هو أن المغربي الآن يمارس شيئا ويؤمن بشيء آخر، لأن بعض الأحكام الدينية لم تتطور. لذلك، نجد العديد من المشاكل.
إسلام مُعقلن
يتجه العلوي إلى أن تحديث الدين يدفعنا للقيام بمُحاولات للدفاع عن الجانب العقلاني في الخطاب الديني، كتجديد النخب الدينية، التي تدرس في مؤسسات علوم الأصول والمدرسة الحسنية ومختلف المؤسسات.
سعت المؤسسة الدينية، حسبَ المتحدث، للدفع بالصوفية إلى لعب أدوار دبلوماسية وسياسية محلية ودولية في نفس الوقت. كالزاوية التيجانية والبودشيشية وغيرهما، من أجل ضمان مصالح الدولة والمجتمع معا في بلدان أخرى، ولاسيما إفريقيا. فضلا عن أدوار أخرى أُوكلت للدولة لتدبير الشأن الديني، كتكوين الأئمة، وكذا الاهتمام بالمؤسسات الدينية كالمساجد والزوايا، وتغيير المناهج الخاصة بالتربية الإسلامية، بحيث تم حذف مجموعة من المناهج التي كانت إلى حد ما تخدم الفكر الانغلاقي المتزمت، لصالح مداخل جديدة ضمنها المدخل الصوفي.
في المقابل، يعتبر العلوي أن هناك أطرافا وتيارات أيديولوجية، تناهض العقلانية الدينية، وتحن إلى ماضيها، أي الإرث الوهابي والانغلاقي في التراث الإسلامي.
هنا، يُمكن أن نفهم من قصد العلوي، أن الانتقال من مُجتمع كلاسيكي إلى آخر حداثي يفترض أن يكون الخطاب الديني في المجتمع محافظا على الانسجام، لكن في نفس الوقت، لا ينبغي أن يعيق التقدم في عملية تحديث المجتمع.
الحداثة: مسار لم ينته
يتجه العلوي إلى القول بإن المغرب قطع أشواطا في عملية التحديث، لكنه لم يحسم بعد في الانتقال إلى مجتمع حداثي، بسبب وضعية المجتمع، والقصدُ هنا، التخلف والجهل والأمية، والذين لهم مصلحة في البقاء، كأصحاب الرقية الشرعية والأضرحة، لذلك يصعب القول إننا سنصل إلى الحداثة لأنها عملية طويلة.
حسب الباحث في الفلسفة، لا يُمكن الاتجاه نحو تنمية اقتصادية في البنيات التحتية، والمغرب اليوم مُقبل على تنظيم كأس العالم، دون إقرار إصلاح مرتبط بالحريات الفردية كالعلاقات الرضائية.
نقاش الحداثة والتحديث وإشكالياتها، حسبَ العلوي، يخوض فيه وزير العدل عبد اللطيف وهبي أشواطا متقدمة، وهو يصب في منحى خدمة المجتمع، لأننا مُقبلون على استقبال مشجعين من دول وقوميات وديانات وتوجهات مُختلفة.
لا يزال مسار التحديث والإصلاح الديني طويلاً، فاليومَ، كثيرة هي القضايا الخلافية والتي تقدمت فيها دول عديدة حتى داخل النسق الإسلامي، مما يشير إلى أن هناك حركية تجاه التحديث، لا جموداً للنص وخطابه.
وكثيرة هي الإشكالات العالقة في ذهنية المجتمع المغربي، والتي هي بحاجة لإصلاح، كما هو الحال بالنسبة لعدد من قضايا الأسرة المطروحة على طاولة النقاش، والتي يُتوقع أن يتم، بخصوصها، الإفراج عن مدونة أفضل من سابقتها، في أفق مُجتمع أرحبَ يسعُ الجميع.