فتاوى حرمت الحج على أهل المغرب والأندلس، أبرزها فتوى لابن رشد
أرضُ الجهاد المُتصل… هكذا كان يُطلق على بلاد الأندلس، بلادٌ تفصلها عن المشرق عشرات الحواجز، بعدُ المسافة الجُغرافية، أهوال الطريق، وأعداء قساة غلاظ.
هكذا، أصبح الخروج منها إلى أرض الحجاز صعبا، بل مستحيلا، وأصبح معها الحج حلما بعيد المنال.
الخصوصية الأندلسية دفعت الفقهاء، حينها، حد الإفتاء بمنع وتحريم الحج.
حرص المغاربةُ والأندلسيون على أداء فريضة الحج منذ وقت مُبكر من دخُول الإسلام إلى البلادِ.
بُعدُ المسافة الجغرافية عن المَشرق وكثرة الإنفاق، لم يمنع الحجيج من أداء الفريضة في أمن ويُسر، مُستفيدين من قوة شوكة الدولة الإسلامية وهيبتها.
ظلتْ الحال هكذا، إلى حدود القرن الخامس للهـجرة. مع بداية ضُعف الدولة في الأندلس، أصبحت مقولة “السفر قطعة من العذاب” تنطبق جدا على سفر الحجاج المغاربة والأندلسيين إلى المشرق.
ظروف وسياقات كثيرة، ستُعجل بإصدار فتاوى تمنعُ الحج على سكان العدوتين (المغرب والأندلس)، بل ذهب بعضُها حد تحريم المُمارسة.
في أسباب المنـع
مع بداية القرن الخامس للهجرة، أصبح الحجُّ عبئا على الناس. الحج انطلاقا من الأندلس أو المغرب، معناهُ أن الرحلة ستمتد إلى ما يقاربُ السنتين، في حالِ تم الوصول، مع ما يلازم ذلك من إعداد كبير.
سنتان يتعرض فيهما الراغب في أداء مناسك الحج لكل أنواع المخاطر: ظروف جوية، قراصنة… أو قطاع طرق. أصبح الحج في النهاية، “مهلكة شديدة“.
عرف المغربُ الأقصى منذُ بداية القرن الخامس هجري، مجموعة من التحولات السياسية، تجلت أساسا في اجتياح القبائل الهلالية للمنطقة.
جاء في كتاب علاقات الفاطميين في مصر بدول المغرب، لحسن خضيري، أن سلوك الطريق الساحلي عبر تونس وطرابلس أصبح شبه مستحيل فترة خضوعها لبني هلال، سواء للتجارة أو للحج.
لم يسلم الحجاج من أذى هذه القبائل، إذ كانت تُفرض عليهم غرامات كبيرة، ومن أبى ورفض الدفع، قُتل.
وعندما أراد المغاربة المرور عبر الشام، وجدوا المضايقات والتغريم من قبل الصليبيين، لعلة مؤازرة المغاربة لـ نور الدين زنكي حاكم حلب، كما جاء في كتاب الرحلة لابن جبير.
لم يسلم الحجيج أيضا من القرصنة، نتيجة سيطرة النورمانديين على المدن الساحلية والحَوضين الأوسط والغربي للمتوسط.
…بذلك أصبحت الطرق غير آمنة برا وبحرا.
الأندلس، من جهتها، كانت تعيش على وقع التفكك إلى دويلات الطوائف، تحول معها المسلمون إلى حرب دفاعية تراجعية، فرضت البحث عن المقاتلين من كل البلاد، مما جعل أمر التفريط في أي مقاتل، غير ممكن.
كل هذه الظروف ألزمت الحُكام إلى اللجوء نحو الفتاوى للاستفسار حول مدى وجوب الحج على مغاربة وأندلسيين هذا وضعهم.
فتوى ابن رشد… الجهاد أولا
أسقطت فريضة الحج عن أهل المغرب والأندلس بفتاوى عدة، أبرزها فتوى ابن رُشد الجد.
فتوى ابن رشد، حسب مقال بعنوان “الحج في المغرب والأندلس في العصر الوسيط: الجدال حول استمرار فرضية الحج”، لمحمد حقي، باحث في تاريخ المغرب الإسلامي، تعد أقدم فتوى مسجلة ومحفوظة بالنسبة للمغرب الأقصى والأندلس، وشكلت الاتجاه العقلاني باعتبارها فتحت أفقا لفقه الأولويات والموازنات والنظر إلى الضروريات.
في كتاب وجهه علي بن يوسف بن تاشفين إلى ابن رشد يسأله هل الحج أفضل لأهل الأندس أو الجهاد، يجيب ابن رشد، وفق ما جاء في كتاب الفتاوى، أن فرض الحج ساقط عن أهل الأندلس لعدم الاستطاعة التي جعلها الله شرطا في الوجوب، لأن الاستطاعة، القدرة على الوصول مع الأمن على النفس والمال، وذلك معدوم في هذا الزمان.
الأمر نفسه ينطبق على أهل المغرب، مادام وصولُهم إلى مكة لا يتم إلا بخوف على أنفسهم وأموالهم، وقد استمرت هذه الفتوى زهاء الثمانين سنة.
أبو بكر الطرطوشي أحد كبار شيوخ المالكية (451هـ – 520هـ)، ذهب أبعد من ذلك، حين أفتى بتحريم الحج في تلك الظروف، وأن من خاطر فقد سقط فرضُه وهو آثم.
شكلت فتوى ابن رشد سبيلا لكبار الفُقهاء من الأندلس والمغرب الأقصى ومصر، للإجماع على إسقاط الحج لانعدام الأمن، والحاجة إلى الجهاد في الأندلس. لكنهم لم يغلقوا كل الأبواب أمام المصرين، شرط إمكانية التأخير حتى تتحسن الأوضاع.
فيمن تمسك بأداء الفريضة:
في المقابل، ظهرت بعض الفتاوى لقلة من الفقهاء يمثلون، حسب أحمد حقي، التيار الشعبي العاطفي، والذي نادى بضرورة أداء الفريضة رغم المخاطر.
من الفقهاء المساندين لهذا التوجه، القاضي أبو بكر بن العربي، الذي وافق على ركوب المخاطر للحج، باعتبار أن الحج مقصد ديني لا يعتبرُ المخاطر والأهوال.
وذهب المتصوفة أبعد من ذلك، بين من فرضَ على أتباعه أداء الفريضة، وبين من سلك كل السبل للوصول إلى المقصد، ومنه ما ذكره محمد المنوني في مقاله “تأسيس ركب الحاج المغربي”، أن أبا صالح، صاحب الزاوية الماجرية بأسفي، جعل الحج من أركان طريقته وفرض على أتباعه المبادرة به.
وسلك بعضهم اتجاها أدبيا يحث الناس بنظم أشعار، تحرض على الحج وترك الدنيا وعدم المبالاة بأخطار الطريق والإيمان بالقدر والقضاء، كما فعل أبو زيد عبد الرحمن الفازازي، وقصيدته مذكورة في كتاب تحفة القادم لابن الأبار.
رغم كل فتاوى المنع والتحريم، إلا أن بعض الناس كانوا يلجؤون إلى بعض الحلول من أجل العبور، عن طريق الالتحاق بالقوافل التجارية، التي كانت تؤمن نفسها بدفع إتاوات من أجل تأمين الطريق.
الجماعات الصوفية، من جهتها، كانت تنظم ركبها الحجي معتمدة على نفوذها الروحي ونفوذ مريديها المحتملين ضمن القبائل المنتشرة على طول الطريق.
يذكر ابن جبير في كتابه “الرحلة”، أن أحد المراكب المقلعة من الإسكندرية نحوَ مكة شمل مائتي رجلا من الحجاج المغاربة.
كانت هذه العمليات تتم بشكل فردي، أما الحُكام فقد أكدوا على المنع التزاما بفتاوى كبار الفقهاء.
بدأت الدول تنظم ركبها الرسمي انطلاقا من العهد المريني، وفق ما ذكره أحمد حقي، خاصة بعد أن أسقط صلاح الدين الضرائب التي كانت تفرضها الدولة العبيدية الفاطمية بمصر على الحجاج.