المستكشفون الفرنسيون في المغرب: كتاب وباحثون أم عملاء استخباراتيون؟
جاؤوا إلى المغرب كأطباء وخبراء فنيين في الجهاز العسكري وتجار وأساتذة وسياح. لم تكن إقامتهم مؤقتة، بل امتدت لسنوات طوال، مكنتهم من مخالطة الأعيان، وحتى الطبقات الكادحة من عامة الشعب. تغلغلوا داخل الجيش، وتمتعوا بالحماية السلطانية والقانونية، والحصانة من أي اعتداء، كما استوطنوا القرى البعيدة، وتكلموا بلسان أهاليها، وتزوجوا من نسائها، وذهب بعضهم مذاهب بعيدة حين أصبح… فقيها في المساجد. ليطرح السؤال:
المستكشفون الفرنسيون في المغرب: كتاب وباحثون أم عملاء استخباراتيون؟
قبل احتلالها للمغرب سنة 1912 باسم “الحماية”، زرعت فرنسا مجموعة من الجواسيس في عدة مناطق مغربية، من أجل تشكيل بنك معلومات، ورسم خارطة شاملة عن بنية المغرب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية، لتسهيل عملية بسط النفوذ عليه بسرعة، واحتوائه بأقل قدر من الخسارات. وعليه، جاء إلى المغرب عدة مستكشفين بـ “بروفيلات” مزيفة، وقاموا بتأليف أبحاث وتقارير وكتب ضخمة، تضمنت معلومات حساسة حول جغرافية المغرب، وطبيعة أناسه، ونسيجه المجتمعي، وعاداته وتقاليده ودرجة تشبث الناس فيه بالدين، ومستوى التعليم والاقتصاد داخله، وثرواته الطبيعية، وقوته العسكرية، والأوضاع السياسية والصراعات القائمة… هناك من المخبرين السريين من ساعد فرنسا وأعطاها الإشارة والمعلومات الأساسية للقيام بهجمات عسكرية، مثل الهجوم العسكري الذي وقع في الدار البيضاء، والذي أودى بحياة عدد كبير من المغاربة.
على ضوء المعطيات التي كتبها هؤلاء المخبرون، تمكنت فرنسا في مراحل لاحقة من احتلال أرض المغرب، وهي مدركة لطبيعة بنيته من كافة أبعادها.
اختلفت كتابات المخبرين حول المغرب، باختلاف مراحل كتابتها ومؤلفيها، ومجال الدراسة فيها، وتنوعت هذه المؤلفات كذلك بالنظر إلى درجة التغلغل الاستعماري في المغرب ومراحله؛ إذ توزعت على ثلاث مراحل أساسية، كما أوردها المؤرخ إبراهيم بوطالب (البحث الكولونيالي حول المجتمع المغاربي في الفترة الاستعمارية، ص 107-173).
المرحلة الأولى 1830-1880:
اهتمت الكتابات في هذه المرحلة بدراسة بنية المغرب الاجتماعية والسياسية، والأوضاع العامة في المجال العسكري، وعرفت هذه المرحلة توافد الضباط العسكريين أكثر من الأكاديميين، لأنها كانت بمثابة التحضير للغزو العسكري، وفق استراتيجية محكمة، تبدأ بالملاحظة والاستطلاع ثم الاجتياح العسكري.
المرحلة الثانية 1880-1912:
في هذه الحقبة، ازداد كمّ الإنتاج العلمي حول المغرب وتنوعت موضوعاته، ولم يعد يبرر بكونه عملا استكشافيا وتوثيقيا، بل تبدت من خلاله بشكل واضح المطامع الفرنسية في الأراضي المغربية، وكثفت من جهودها للقيام بمسح دقيق للوضع، للإلمام بشكل كامل بتفاصيل البلد وتاريخه، ويعد “شارل دي فوكو” من أبرز الشخصيات التي سطع “قلمها الاستخباراتي” تجاه المغرب إبان هذه الفترة.
المرحلة الثالثة 1912-1955:
أصبح التأليف خلال هذه الفترة جزءا من العملية الوظيفية للاستعمار، ومن خلاله بررت الفكرة الاحتلالية للمغرب، وتم ازدراء المقاومة والنظر إليها كشكل من أشكال الفوضى التي تستوجب التدخل العسكري.
في هذا السياق، يقول “فؤاد قشاشي”، أستاذ تاريخ المغرب المعاصر بالمعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط، إن هؤلاء الجواسيس أو المستكشفين كانت لهم علاقة واضحة بالأجهزة الفرنسية، وكانت رحلاتهم تلك مدفوعة الأجر، وكانوا يقومون بتحركاتهم عبر الجزائر. الجزائر، وقتها، كانت مستعمرة فرنسية، أي أن الأمر كان يتم تحت إشراف وبترخيص من الإدارة الفرنسية بالجزائر، ولم يكونوا يتجولون لوحدهم في المغرب، لأن في هذا مغامرة بحياتهم، فالمغربي لم يكن يستسيغ حضور “النصراني” في أوساطه وقتها.
بهذا، كان يرافقهم المحميون، وهم مرتبطون بالسلطات الفرنسية، أو عن طريق شيوخ بعض الزوايا. وستتضح حقيقة أبحاثهم عند وجود البعثة الفرنسية عام 1824، قبل توقيع معاهدة الحماية.
ذات المتحدث أضاف أن “شارل دو فوكو”، من خلال كتابه “La reconnaissance du Maroc”، يعد من أبرز من أجروا أبحاثا معمقة حول المغرب في بين 1880-1884، وفرنسا كانت تقصد من خلال هذه الرحلات توفير بنك معلومات للفرنسيين فور شروعهم في غزو المغرب عسكريا، لأن غزو المغرب عسكريا كان محسوما لفرنسا منذ 1904-1905، وخاصة بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء.
فؤاد قشاشي أشار إلى أن دراساتهم شملت المناخ والطبيعة ومكامن الثروات المعدنية والفوسفاط، وأنماط المعيشة والعيش، والأنماط الثقافية والاقتصادية؛ لأنه بالنسبة لفرنسا، المغرب كان مجهولا، وبالتالي كان من اللازم تكوين رؤية شاملة عن هذا البلد، لتسهيل عملية احتلاله ومن ثمة استغلال ثرواته.
أبحاث أم أعمال جاسوسية؟
شكل استكشاف المغرب بالنسبة لفرنسا رهانا حقيقيا، سخرت من أجله تمويلات ضخمة لتنظيم البعثات ونقلها وضمان أجواء مثالية لعملها. جندت فرنسا في هذه العملية عددا كبيرا من الوفود، في تخصصات علمية مختلفة، كان ضمنهم اللسانيون والسوسيولوجيون والجيولوجيون وعلماء الخرائط والمياه.., وزعم كل هؤلاء أن عملهم لا يعدو أن يكون استكشافيا، وأن فرنسا ليست لديها أية أطماع لاحتلال المغرب. لكن، اتضح فيما بعد أن الاستكشاف كان أداة من أدوات الغزو، وأنه لم يكن ترفا فكريا ورهانا لحصد الشهرة والمواقع العلمية، بقدر ما ارتبط برهانات استراتيجية كانت حاسمة في غزو المغرب.
اتسمت النظرة التي رسمها مستكشفو فرنسا عن المغرب بالتحقير والازدراء للشعب، الذي وصف المغاربة بالهمجية والوحشية، وانعدام التحضر والتمدن، ولم تراعِ هذه المؤلفات التفاوتات والاختلافات الثقافية بين الشعوب، مقابل نبل وتفوق العادات الأوروبية.
رسمت النظرة الغرائبية حول المغرب صورة مغرية، شحذت توافد الباحثين عليه من شتى المشارب العلمية، فغدا بهذا بمثابة معرض فني، وتكرست النظرة التي تحصر الثقافة المغربية في جانبها الفرجوي الفلكلوري، وتحشره في زاوية الاستهلاك السياحي. (المصدر: الاحتلال العسكري لبقعة تازة: دراسة في استراتيجية الغزو والمقاومة (1912-1934) د. فؤاد قشاشي.
هناك من الجواسيس العسكريين من جمدوا نشاطهم العسكري لمدد طويلة، بلغت العشرين سنة، وبعضهم انصهروا في المجتمع المغربي، وسايروا التحولات فيه دون أن يعلم أي أحد بحقيقتهم وبما يقومون به، إلى أن تقوى الحضور الفرنسي في المغرب، ومنه عرفت طبيعة أعمالهم الاستخباراتية، وانكشفت حقيقتهم، فاتضح أنهم عملاء استخباراتيون.
عندما أطبقت فرنسا قبضتها على الجزائر، امتد طموحها إلى المغرب، كي تكمل مشروع استيلائها وبسط نفوذها على المحيط الأطلسي. لكن فرنسا كانت تتخبط في جهل تام لخصوصيات هذا البلد، وكانت المقاومة شرسة على الحدود، فلم تجدِ الهجمات العسكرية، ومنه كان من اللازم البحث عن حلول أخرى بديلة.
وثقت كتابات وأبحاث كثيرة صعوبة اختراق المغرب، إن على المستوى العسكري أو حتى الاستخباراتي، فكانت عملية دخول الأجانب إلى المغرب في أغلبها صعبة وغير مستحبة، إذ دائما ما كان ينظر إلى كل أبيض ذو عيون زرقاء بنظرات مريبة، جراء ما كانت تتناقله الألسن عن الاضطهاد الذي يعانيه الجزائريون في بلادهم بعد احتلال فرنسا لها. كان هذا سببا كافيا جعل هؤلاء يتنكرون، فتوجهوا إلى تعلم اللغة العربية، ودراسة القرآن والتشبع بالثقافة المحلية، وتحويل الديانة إلى الإسلام… من أجل تحقيق الانصهار الكلي داخل الجماعة.
تروي بعض الروايات التاريخية قصة لطفل صغير عثر عليه مفقودا نواحي منطقة عبدة. أخذه السكان وأحسنوا وفادته وتربيته، وعاش بينهم أزيد من عشرين سنة، وتردد على المسجد برفقتهم وتزوج منهم، قبل أن يتحول إلى ملاقاة عسكريين وشخصيات أجنبية سرا في مناطق متوارية عن الأعين، وبات يختفي مددا طويلة، غذت الشكوك حول علاقته بالجهاز الاستخباراتي الفرنسي.
لم تركز فرنسا على زرع جواسيسها في مناطق بعينها، بل منهم من كان عمله طوال الوقت الجلوس في المقهى أو التسكع في الحانات والمحلات ومشاهدة وتوثيق ما يحدث. برز هذا النوع من المخبرين في طنجة بشكل خاص.
استغلت فرنسا، كذلك، قبل توغلها في الأراضي المغربية، الزوايا والمساجد، إذ عمدت إلى عقد علاقات مع زعماء الزوايا والأئمة في المساجد، الذين استجاب بعضهم لتلك العلاقات، فكان يتم نشر بعض الأفكار من خلال هذه الزوايا، مفادها أن احتلال المغرب قدر وابتلاء، ينبغي تقبله بقلوب راضية والتضرع إلى الله لرفعه، محذرين من ذنب الاعتراض على قضاء الله. وأغرت فرنسا هؤلاء بالدعم المادي، الذي أقاموا من خلاله المواسم والاحتفالات، حتى في ظل الجفاف وتخبط المغرب في الفقر. كما تم إغراؤهم بامتيازات كبيرة جدا، سيتحصلون عليها فور بسط نفوذ فرنسا على المغرب. لذلك، ساعد بعضهم، من موقعه الديني، في عملية الإعداد الفكري والنفسي للاحتلال.
تباينت نهايات المستكشفين والجواسيس الذين جندتهم فرنسا لخدمتها وأعطتهم الدعم والحماية، فمنهم من آثر العودة إلى فرنسا، بعد أن ضمن لنفسه مكافآت مادية سخية، وهناك من توارى بصفة نهائية عن الأنظار واختفى بشكل كلي. أما المغاربة الذين تحالفوا مع فرنسا، فكانت نهايات أغلبهم مأساوية، بعد انكشاف حقيقتهم. من ذلك ما ورد في بعض الروايات التاريخية، عن قصة رجل كان يعمل مع الإدارة الفرنسية في منطقة بني ملال، وقد قام بتقديم معلومات عن مسلحين مغاربة مشاركين في الحركة الوطنية، فقامت فرنسا بتصفيتهم. هذا الأمر قاد بعض الأشخاص المنتمين إلى الحركة الوطنية إلى البحث عن منزله. هكذا، قتل برصاصة أمام بيته، وتركت جثته مرمية هناك، ولم تعر فرنسا لموته بالا.
القصة الثانية عن شاب بسيط كان يعمل في فندق، أغلب زواره أجانب فرنسيين، فكان يكلمهم بلسانهم ولو بتلكؤ. أغرى ذلك بعض الجنود الذين كانوا يترددون بشكل دوري على الفندق لأغراض معينة، وهو ما دفعهم إلى عقد علاقات معه لتزويدهم ببعض المعلومات والمعطيات؛ وذاك ما كان، حيث كان يعمل على جمع الأخبار من الفندق ومن محيط سكنه في الدار البيضاء وإيصالها للجنود الفرنسيين، قبل أن يلمحه أحد الغاضبين من التواجد الفرنسي بالمغرب، ليقتل بعدها وهو عائد إلى بيته، بعد أن رُمِيت عليه حجرة كبيرة من أحد الأسطح.