النساء في كابول: ذوات مقهورة وسط نزعات للتحرر وإنشاد حب “مُجَرّم” - Marayana - مرايانا
×
×

النساء في كابول: ذوات مقهورة وسط نزعات للتحرر وإنشاد حب “مُجَرّم”

فرضت فتاوى “وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” في حكومة طالبان قيودا صارمة على النساء، رغم وعودها السابقة بتحسين أوضاعهن الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
منظمات حقوقية دولية كثيرة، تصف ما تتعرض له النساء في كابول “بالفصل الجنساني”، وهو من أخطر الانتهاكات الحقوقية العالمية التي تتجسد في أفغانستان بقوة.
لم يسلم أي شيء متعلق بالمرأة من التقييد، سواء كان لباسا أو تعليما أو عملا أو سفرا أو ترفيها… وهو ما حذا بكثيرات إلى ابتداع فنون تعبيرية على شاكلة “اللانداي”، كما حيكت حول هذا الوضع أعمال أدبية شهيرة، أعادت إلى الواجهة تراجيديا المرأة المقهورة والمقموعة بسبب التشدد الديني والثقافي.

في مدينة كابول القابعة تحت ثقل الصمت، بين خراب النكبة وخراب العقول، لا أحد يؤمن بمعجزة ربيع الحب…

لا شيء سيعيد أفغانستان إلى سابق عهدها. لم تعد الأراضي سوى ساحات للقتال ومقابر… وهو ما ربعها على عرش أخطر الدول في العالم على النساء، بسبب القوانين الأصولية التي تحرص “طالبان” على تنفيذها بقسوة.

يحكم قانون الشرف لباس المرأة، وطريقة عيشها واختياراتها وتفكيرها وزواجها. مهامها محددة، حتى قبل مولدها، في الإنجاب والأشغال المنزلية وتلبية احتياجات الرجل، ولا سبيل للانعتاق مما يسميه الأفغان “تطبيقا ساميا لشرائع الله” أو الممانعة إن كانت النتيجة الحتمية هي الإعدام رجما.

في ظل وضع مشحون بالعنف والسيطرة، اقترح بعض النواب مؤخرا، قانونا لمعاقبة العنف ضد النساء. لكنهم أُجبِروا، فيما بعد، على سحب مقترحهم الذي اعتبرته “طالبان” مجرد “مؤثرات غربية” و “انتهاك لشريعة الإسلام”، بالرغم من تبوث حالات كثيرة تعرضت فيها النساء للعنف الجسدي والجنسي والاغتصاب والتشويه.

تشمل قوانين “طالبان” تجاه النساء في كابول، الحظر التام من مزاولة أي مهنة خارج البيت، تحريم مصافحة الرجل “الأجنبي” أو الحديث إليه، ارتداء لباس يغطي كامل الجسم من الرأس إلى القدم، الطاعة الكلية للرجل، سواء كان أبا أو أخا أو زوجا، حظر معاينة الطبيب الذكر للمرأة في حالة المرض، حظر ارتداء الكعب العالي، لما فيه من “إزعاج للرجل الذي لا يجوز له سماع خطوات المرأة”، حظر وضع الماكياج وطلاء الأظافر الذي قطعت بسببه أيادي فتيات كثر…

يشمل المنع أيضا الاستماع إلى الموسيقى، ومشاهدة التلفزيون ومقاطع الفيديو، إلغاء الاحتفال بعيد العمال الذي أطلقوا عليه “العيد الشيوعي”، وعيد الحب الذي يعد مناسبة محرمة، إذ ترزح فيه متاجر بيع الورد تحت ثقل الصمت والفراغ، بسبب قرارات المنع السنوية لوزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي يرتدي موظفوها مآزر بيضاء ويقومون بدوريات تفقدية في الأحياء، رفقة حراس مسلحين من شرطة الآداب للإشراف على تطبيق منع الاحتفال..

تعلق “الملصقات الإنذارية”، وتنصب “اللوحات التوعوية” في قلوب الشوارع مذكرة بأن “عيد العشّاق ليس إسلاميًا وليس جزءًا من الثقافة الأفغانية، إنما هو شعار إعلاني للكفّار. إن الاحتفال بعيد العشاق هو إظهار التعاطف مع البابا المسيحي”.

بعد استيلائها على الحكم في كابول عام 2021، أعلنت حركة طالبان في أول مؤتمر صحفي لها عن وعود تتعلق بتطوير فاعلية النساء في المجتمع وتيسير تمدرسهن. إلا أنه، بعد عامين فقط، نسفت كل الوعود، عقب سلسلة قاسية من المراسيم الدينية الصادرة عن قيادتها، والتي جعلت من المرأة ضحية “للفصل الجنساني”؛ وهو من أخطر الانتهاكات الحقوقية في العالم التي نجحت أفغانستان في تجسيدها، بحسب تقارير الأمم المتحدة ومجالس حقوق الإنسان.

في عام 2023، أعلنت وزارة التعليم في حكومة طالبان عن استعدادها لفتح المدارس في وجه “كافة الطلاب” ذكورا وإناثا، فنفض الغبار أخيرا عن مقاعد الفتيات وظهر بصيص أمل بعودة المياه إلى مجاريها. غير أنه، بعد فترة قصيرة، تغير المزاج العام تماما، بعد أن راسل مسؤولون تربويون مدراء المدارس، آمرين بإغلاقها في وجه الفتيات، حيث فسرت حكومة طالبان هذه الإجراءات العنيفة، بكونها عودة إلى الشريعة الإسلامية والتقاليد الأفغانية العريقة.

لا يحمي النظام القانوني الأفغاني النساء، وفي المقابل يساهم في إدامة كافة أشكال العنف ضد المرأة وعدم محاسبة الجناة… ففي حالات الطلاق مثلا، تتهم المرأة بأنها فاسدة، خارجة عن طاعة بعلها، وهناك حالات لا يسمح فيها للمرأة بالطلاق من لدن محاكم الدولة التي تدعوها للصبر، أيا كان سبب رفعها لدعوى الطلاق. وفي ظل غياب الحماية القانونية، والانتهاكات الصارخة لحقوق المرأة، تصاب كثيرات بأمراض نفسية حادة واضطرابات عقلية، فيما تجبر الظروف أخريات على الانتحار.

احتجاجا على نكث الوعود المتعلقة بالتمدرس والعمل وتحسين أوضاع المرأة، قامت في قلب كابول، وعدة مدن أفغانية أخرى عام 2021، مسيرات احتجاجية حاشدة للمطالبة بالحقوق الأساسية، غير أنها قوبلت من طرف طالبان بالعنف والسجن في حق مجموعة من النساء، تعرضن كذلك للضرب والتعذيب خلال فترة احتجازهن.

“سنونوات كابول” إنشاد للحرية في قلب النزعة الظلامية

يأخذنا الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا (محمد مولسهول)، من خلال إصداره الأدبي “سنونوات كابول”، إلى أرض أفغانستان لتمثل عذابات شخصيات مختلفة مسلوبة الحرية، تبحث عن معنى لحياتها… محامية منعت من مزاولة مهنتها، ورجل متعلم هو زوجها، وامرأة تصارع مرضا عضالا، وسجان يتقلص ظله شيئا فشيئا بسبب الإعدامات العمومية… وحد هؤلاء التيه والضياع.

خلال رحلتهم للبحث عن الكرامة الإنسانية، تصطدم تطلعاتهم بواقع أمة خُلِّدت للعنف والجنون، وسُلّمت لتعاويذ زعمائها الروحيين وطغيان طالبان… وفي ظروف تبدو فيها نجاة الحلم والحب مستحيلة، ينبثق نور المعجزة، لكنها سرعان ما تموت، في بلد تعد فيه الأفراح أكثر رعبا من الموت.

ركزت الرواية على عنصر التدمير النفسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي الذي يلحقه طالبان بالشعب الأفغاني، والذي يعد بحسب خضرا شعبا ناعما ومثقفا وذو معرفة واسعة.

تحمل الرواية مشاهد مؤثرة مختارة بذكاء، حين تصور معالم الحياة تحت نظام طالبان في كابول، إلا أنها تتضمن مشاهد قاسية في منتهى الوحشية، من خلال الوصف التفصيلي لرجم النساء، ومشاهد قطع الرؤوس وحملات الإعدامات في الملعب الرياضي الذي يتحول إلى ساحة فرجة في وجه عموم الناس، ومشانق المعارضين لحكم طالبان.

الرواية تنجح في أخذ القارئ إلى الدهاليز الأكثر ظلمة وسوداوية في النفس البشرية. يعطي الكاتب، من خلالها، صورة حية للواقع المرير الذي ترزح تحته النساء، بسبب التأويلات الخاطئة والمتخلفة للدين: نساء مقهورات مقموعات، باتت مشاهد الرجم والإعدام أرحم لديهن من حياة القهر والهوان.

الرواية تم تحويلها إلى فيلم بذات العنوان من إنتاج مشترك بين فرنسا وسويسرا واللوكسمبورغ، وقام بتنفيذ مشروع الفلم وإخراجه كل من المخرجتين “زابو بريتمان” و “إيليا غوبي-ميفيلتش”…

“اللانداي” لغة الحب والموت

“لنحب بعضنا أو نسقط معا تحت نصل السكين”.

تعبر المرأة الأفغانية عن احتجاجها وحبها بالأغنية، في مجتمع مثقل بالأعراف والتقاليد، ولا سبيل فيه لعيش الحب ونمائه.

” اللانداي” قصائد غنائية قصيرة جدا، تعلن من خلالها المرأة الأفغانية عن فاعليتها كروح مبدعة خلاقة وشاعرة، حيث تتنافس الفتيات الأفغانيات على ارتجال أفضل المقاطع الشعرية، ليعلق أجملها فيما بعد في الذاكرة الجمعية النسائية.

يختلف “اللانداي” عن الشعر الفارسي الصوفي، فهو لا يمجد الذات الإلهية، بل يحمل في طياته نقذا لاذعا للمجتمع الذكوري الذي نجح في تشييء المرأة والنظر إليها بمنطق سلعة كغيرها من السلع الأخرى.

غالبا ما يتم تداول هذا الشعر دون ذكر اسم صاحبته، خوفا من الرقابة والسلطة، فيتوارى طيفها خلف عمق الكلمات والمعاني.

يتصف هذا النوع من الشعر بشدة اختصاره وعمقه، حيث لا يتجاوز طول المقطع الواحد عدة كلمات تبث فيها المرأة ما يشغلها من ألم واشتياق أو حب، مع مراعاة التحفظ التام عن ذكر الاسم، لأن ذلك قد يكلفها حياتها.

لم يتضمن “اللانداي” أبدا مقطوعة واحدة تعبر عن الخوف من الموت أو العالم الآخر، فتتحول المرأة الأفغانية بذلك إلى بطلة تراجيدية، تتناسى كل خطر محدق بها. إلا أن التكتم لا ينجح دوما في حماية النساء، إذ تطلعنا حكاية “رحيلة موسكا” على التفاصيل السرية الخطرة لهذا الشعر، حيث قضت الظروف بموتها على يد أخويها، بعدما كانت تنطق بإحدى قصائد “اللانداي” لمجموعة شعرية عبر الراديو، قبل أن يتناهى كلامها إلى مسامع أخويها، اللذين ظناها تناجي حبيبها عبر اتصال هاتفي… فأبدعا في كيل الشتائم لها وضربها إلى أن قررت الانتحار أخيراً.

…مما بقي عالقا في ذاكرة النساء بعد رحيلها، مقطع كانت قد قالته مرة عبر الهاتف:

“اتّصَلتُ… كُنتَ حَجَراً.

يوماً ما سَوْفَ تَنْظُرُ… وأَكُونُ قَدْ

رَحَلْتْ”

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *