بلقاسم النكادي: سلطان الجهاد بتافيلالت، وآخر من وضع السلاح من المقاومين المغاربة
هذه بعض من خيوط حكاية بلقاسم النكادي، أحد أكبر رموز المقاومة بتافيلالت…
دامت مقاوَمتهُ للاستعمار أزيد من عشرين سنة، كبد خلالها الفرنسيين خسائر فادحة، وأذاقهم الويلات.
بويع بلقاسم النكادي سلطانا للجهاد، ووحد القبائل بتافيلالت.
شجاعتُه التي عُرف بها منذ طفولته، جعلتهُ يقاوم الاستعمار من منطقة إلى أخرى حتى بعد فراره من تافيلالت.
لم تخلُ منطقة من مناطق المغرب، منذ وطأت قدما الاحتلال الأوروبي أرض المغرب، من المقاومين. في كل شبر من ترابهِ، حملت النساء والرجال البنادق، تحملوا الجوع والعطش، ومحن الفتك والتقتيل، وتعاهدوا ألا وضْعَ للسلاح إلا بحرية المغرب.
عهدٌ وصَل أرض تافيلالت، بعد أن اقتحمها المستعمرُ الفرنسي. لكن، احتلالهُ للمنطقة لم يكُن مفروشا بالورود.
ظهر أكثر من مقاوم، ونشبت أكثر من معركة.
في هذا السياق، ظهر في المغرب مقاومون كبار، من طينة عسو باسلام، وموحا وحمو الزياني ومحمد بن عبد الكريم الخطابي.
… وفي تافيلالت، ظهر، بين آخرين، رجل ثوري نظم وقاد المقاومة ضد الاحتلال، وبويع سلطانا للجهاد، هو بلقاسم النكادي.
فمن يكون بلقاسم النكادي؟
الميلاد:
وُلد محمد بن أحمد بلقاسم النكادي، شرق المغرب، بزاوية تافوغالت في أنكاد، وإلى هذه الأخيرة يرجعُ سبب تسميته بالنكادي.
لم تذكُر المصادر التاريخية تاريخ ميلاده.
يصفهُ عيسى العربي في كتابه: “مقاومة سكان إقليم أزيلال للاحتلال الفرنسي في مرحلة غزو المغرب ما بين سنتي 1912 و1933″، أنه: “كان أعرجا، شجاعا، من أتباع الطريقة الدرقاوية، أطلق عليه أنصاره اسم بلارج (اللقلاق) حيث كان ضعيف البنية رقيق الساقين”.
خبر بلقاسم النكدي دروب المقاومة قبل فرض (الحماية) على المغرب، حيث قاوم الفرنسيين في بداية القرن العشرين في المنطقة الشرقية إلى جانب الجيلالي الزرهوني المعروف بـ “بوحمارة”. زد على ذلك مشاركته مع مجاهدي بني وراين في مهاجمة مدينة فاس سنة 1912، ما أكسبه تجرية عسكرية متميزة.
بعد سقوط ثورة بوحمارة، سنة 1909، وفرض (الحماية) على المغرب سنة 1912، توجه النكادي جنوبا نحو تافيلالت، وهنَاك كُتب له تاريخ جديد في صفوف المقاومة.
معركة البطحاء… تاريخ جديد
نصبت السلطات الفرنسية بعد عقد الحماية، حاكما على تافيلالت يدعى “لوستري”.
كان لوستري كما وصفه المختار السوسي، “متقنا للغة العربية، وعارفا بتعاليم الدين الإسلامي، خبيرا بطرق البلاد، مداخلها ومخارجها. مكنهُ ذلك من احتلال البلاد بسرعة، ثم صار يدير البلاد إدارة من لا يفزعُ له بالعصا، مظهرا استبداد كبيرا في المنطقة”.
وقتذاك، كان في تافيلالت رجل يسمى مبارك التوزونيني، ينظم حركة المقاومة ضد الاحتلال الذي بدأ يتسلل إلى المنطقة.
استغل التوزونيني سطوة لوستري للظهور كزعيم للمقاومة، وحث الناس على المقاومة، وسلَك بأهل تافيلالت مسلك الحجاج بأهل العراق، حسب وصف الناصري في كتابه “الاستقصا”.
نظم مبارك التوزونيني عملية اغتيال لوستري، ونجح في ذلك عن طريق أحد خُدامه.
شكل الاغتيال بداية المواجهة بين الفرنسيين والمقاومة، وعُين بلقاسم النكادي قائدا لجيش المُقاومة.
حميت في أهل تافيلالت شرارة المقاومة، وتحرك بلقاسم النكادي على رأس 300 مقاوم للإغارة على معسكر للقوات الفرنسية.
كانت القوات الفرنسية مستعدة لهذا الهجوم، وردت عليه بوابل من القنابل والقصف المدفعي، جعلت المقاومين يتراجعون.
في 9 من غشت 1918، هاجمت قوات بلقاسم النكادي الفرنسيين في منطقة البطحاء بغتتة…
كان المقاومون، بقيادة النكادي، أدرى بجغرافية المنطقة، خصوصا مع ما تعرفهُ من رياح وعواصف.
في ظل هذه الظروف، نجح المقاومون في خلق الفوضى بين الجنود الفرنسيين، الذين صار يقتل بعضهم بعضا، وسط عتمة الغبار.
انتصرت قوات بلقاسم في هذه المعركة، وقدرت المصادر التاريخية أن عدد القتلى وصل في صفوف الفرنسيين إلى 1200 جندي وعشرة ضباط، فأصبحت بعدها تافيلالت محصنة ضد المستعمر لعشر سنين، وعُين بلقاسم النكادي وزيرا للحربية من طرف التوزونيني.
سُلطان الجهاد وملكُ تافيلالت
بعد معارك عدة خاضها بلقاسم والتوزونيني، بويع الأخير سلطانا للجهاد، وحاكما لمنطقة تافيلالت.
كانت طموحاتهُ أشبه بطموحات بوحمارة، أي كانت عينهُ على تأسيس سلطان في منطقة تافيلالت. لذلك، عمل على تصفية الشرفاء العلويين بالمنقطة وقُياد المخزن بها، خوفا من أي منافسة محتملة.
لم يقتصر الأمر على ذلك، بل حكم المنطقة بالحديد والنار، واستغل أتباعه، فصاروا يقتحمون الدور ويسفكون الدماء وينهبون الأموال، وعمل على حفر حفرة ترمى بها جثث من نفذ فيهم حكم الإعدام، كما يروي المهدي الناصري في كتابه “نعت الغطريس”.
سياسات التوزونيني هذه، عارضها بلقاسم النكادي، ما فتح هوة الخلاف بين وبين أميره.
تروي المصادر أن التوزونيني ضرب بلقاسم بطرف البندقية في صدره إذلالا له أمام الجيش، فما كان من بلقاسم إلا أن استدار فأطلق عليه ببندقيته وأرداه قتيلا.
بعد ذلك، التفت القبائل حول بلقاسم النكادي، وبايعوه سلطانا لجهادهم وملكا لتافيلالت، في قرية أولاد الإمام بين الريصاني وأرفود سنة 1919.
النهـاية
استقر بلقاسم النكادي بمنطقة الريصاني، وخاض العديد من العمليات العسكرية، بدعم من قبائل تافيلالت، خصوصا آيت خباش وآيت حمو.
قويَ نقوذه على تافيلالت وأعالي زيز، وفي شهر يناير 1932، بعد مقاومة شديدة كبد فيها الفرنسيين خسائر فادحة، تم تخريب قصبته بالمدافع والطائرات، ففر بلقاسم من تافيلالت، ولجأ مع رجاله إلى درعة، إلى أن استسلم سنة 1935، وكان آخر من يسلم سلاحة من المقاومين المغاربة، بعد عشرين سنة من الصمود.
نُفي بعد ذلك إلى منطقة تندرارة بإقليم بوعرفة، وبقي في منفاه إلى حين استقلال المغرب.
عاد بلقاسم إلى عيون سيدي ملوك شرق المملكة، وبقي هُناك إلى أن توفي سنة 1962، ودُفن بمقبرة دادا هناك.