فيضانات الجنوب الشرقي… خسائر تكشف غياب العدالة المجالية
بعد سنوات طويلة من الجفاف، أتت أمطار غشت وسبتمبر حاملة معها بشائر موسم فلاحي مثمر بمناطق الجنوب الشرقي والجنوب.
مع تلك البشائر، أعقبت الأمطار فيضانات كثيفة لم تزد الوضع الكارثي المعروف بالمنطقة إلا تعقيدا، وعرت هشاشة البنية التحتية.
فيضانات أعادت نقاش السياسات العمومية بالمنطقة، ورفع معها ناشطون حقوقيون مطالب تعزيز الوعي البيئي والتدابير الوقائية كي لا تتحول قطرات الماء إلى كوارث جديدة.
قبل 24 من غشت/ أغسطس من السنة الجارية، كانت منطقة الجنوب الشرقي بالمغرب تعيش على وقع سنوات من الجفاف غير المسبوق في المنطقة. جفاف هدد الواحات وأدى بالعديد من ساكني المنطقة إلى النزوح القسري نحو مدن الداخل.
هذا الجفاف جعل مجموعة من “القصور” التي تعتمد الزراعة والفلاحة، خاوية إلا من الأطلال التي بقيت صامدة هناك. لم يكن يدرك أحد أن 24 من غشت سيقلب المعادلة.
المنطقة التي توصف بأسامر “السفوح المشمسة”، عرفت تساقطات مطرية مفاجئة وغزيرة، ما أدى إلى فيضانات خطيرة، سببت أضرارا جسيمة للبنية التحتية والأرواح، عرت جانبا آخر من جوانب التهميش والإقصاء التي تعرفه المنطقة.
خسائر تكشف الهشاشة
بعد قرابة سبع سنوات من الجفاف والإجهاد المائي بالمنطقة، جاءت سيول غشت وسبتمبر لتنتعش معها، من جديد، الواحات والأراضي الفلاحية والفرشة المائية. جوانب إيجابية قابلتها أخرى سلبية ماديا وبشريا.
وفق بلاغ لوزارة الداخلية، فإن الحصيلة غير النهائية للخسائر والأضرار التي شهدتها عدة مناطق في الجنوب الشرقي للمغرب، شملت تسجيل نحو 18 حالة وفاة في أقاليم طاطا والراشيدية وتزنيت وتنغير وتارودانت. علاوة على وجود مفقودين.
كما سجلت المناطق حصيلة مؤقتة، شملت انهيار نحو 56 مسكنا بشكل جزئي أو كلي، إلى جانب إلحاق أضرار بشبكات التزود بالكهرباء والماء الصالح للشرب والشبكات الهاتفية، وكذلك انقطاعات مؤقتة بـ 110 مقاطع طرقية.
كما لقي شخصان مصرعهما جراء تساقطات سبتمبر الأخيرة، بينما لا يزال 14 آخرون في عداد المفقودين، إثر انجراف حافلة ركاب بفعل السيول التي ضربت مدينة طاطا.
ماذا بعد الفيضانات؟
تفاعلا مع هذه المعطيات، يرى مصطفى بنرامل، الخبير البيئي ورئيس جمعية المنارات الأيكولوجية من أجل التنمية والمناخ، أن الفيضانات التي عرفها المغرب في مناطق الجنوب الشرقي والجنوب والشرق، أدت إلى اجتثاث، ليس فقط البنية التحتية، بل الآلاف من أشجار النخيل والماشية، وقامت بتدمير المنازل والقرى في العديد من المداشر.
يضيف مصطفى بنرامل: “وصل علو المياه في بعض المناطق إلى 5 أمتار، ما جعل الخسائر كبيرة جدا. من الصعب جدا تجنب هذه الفيضانات نتيجة اضطرابات مناخية متطرفة، لكن كان من الممكن اتخاذ بعض التدابير ربما كان بإمكانها تخفيف آثار الكارثة”.
تفصيلا في هذه التدابير، يقول مصطفى بنرامل: “كان من المنتظر أن تكون الساكنة بعيدة عن البناء فوق المسالك المائية العمومية والمجاري والأودية التي نضبت لأكثر من ثلاثين سنة، والتي ظنت الساكنة ربما أنها لن تعود.
إضافة إلى أنه يجب أن تكون هناك خطط لتدبير مخاطر الكوارث الطبيعية بكل الجماعات الترابية المتواجدة هناك. زد على ذلك أنه لم تكن هناك نقط لتجمع الساكنة أثناء هروبها من الكارثة بعد الإنذارات التي أطلقتها النشرات الإخبارية أو السلطات المحلية. خطة الإجلاء والإخلاء لم تكن موجودة، ما جعل الساكنة تظل في أماكنها إلى أن جرفتها المياه”.
من جانب آخر، يشير سعيد ألعنزي تاشفين، الباحث في سوسيولوجيا الهوية والناشط الحقوقي، إلى ضعف اهتمام المغرب بما يسميه سعيد “إدراة المخاطر ضمن المقاربة الحمائية من القوة القاهرة”.
يضيف سعيد تاشفين: “لا يمكن، على عادة صناع القرار، انتظار حلول القوة القاهرة، كما حصل مع الزلزال الأخير أو مع هذه الفيضانات، من أجل اعتماد ردود فعل ظرفية جامحة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه”.
الساكنة، حسب الناشط الحقوقي، عبرت وتعبر عن فرحتها العارمة بالغيث الذي أنهى جفافا كاد يحكم بالموت المطبق على الواحات كمنظومات إيكولوجية هشة. ومن جهة ثانية، حزينة جدا حيال ما يطال جغرافيتها من ضعف منسوب التنمية وهشاشة مؤشرات التنمية الترابية.
لهذا، عاشت مختلف ربوع الجنوب الشرقي حالة اللامعنى، وكأن المسؤولية تقع فقط على الأمطار، بمنأى عن استئساد الهشاشة في قرى ومداشر تذكرنا بالعصر الحجري، غير بعيد عن مغرب الترمواي والتيجفي، ما بين مغرب صاعد تنمويا وآخر معطوب تنمويا، وينشد تحقيق الأدنى في كنف عجز حكومي عن استيعاب هذا التمرين الموغل في الوجع بين مغربين متناقضين.
إعادة النظر في السياسات المائية؟
حتمية التفكير بجدية في حلول ناجعة وجذرية لمواجهة الأزمات والكوارث الطبيعية في المنطقة وتلافي أضرارها، يضع أيضا السياسة المائية بالمنطقة محل تساؤل.
في هذا الصدد، يؤكد الباحث في التغيير المناخي، نبارك أمرو، في تقرير على منصة رصيف 22، أنه من بين الحلول المقترحة، تحيين خريطة السدود المبرمجة في إطار “البرنامج الوطني للماء 2020 – 2027“، الذي يضم شبكة من السدود الصغيرة والتلية، نحو 90 سدا في جهة درعة تافيلالت.
بعض مشاريع هذا البرنامج، وفق نبارك أمرو، تشهد تعثرا في مسارها. وعليه، يجب إعادة ترتيب خريطة السدود المبرمجة وفقا لهذه الكوارث الأخيرة، حتى لا تضيع كميات مهمة من المياه هباء في الصحراء.
نبارك أمرو يتساءل، من جانب آخر، عن عدم برمجة أي سد في المناطق المتضررة حاليا من قبيل وادي دادس وعالية أوسيكيس بجامعة مسمرير، لا سيما بعدما نتج عن الفيضانات التي شهدتها انقطاع الطريق في مضايق دادس بفعل مياه السيول والأوحال.
لذلك، فإعادة رسم خريطة جديدة للسدود المبرمجة وتسريع وتيرتها يبدو من الحلول الممكنة، بالإضافة إلى توفير حواجز في المناطق الجبلية لتقليص حدة تراكم الأوحال، فضلا عن أهمية عملية التشجير التي من شأنها المساهمة في الحد من سرعة توحل السدود.
نفس الأمر يؤكده الفاعل الحقوقي، سعيد ألعنزي تاشفين، حيث يرى ضرورة بناء مقاربة مستدامة في الزمن والمكان، تفكر بهدوء من أجل صون المتاح من الموارد المائية، وألا يظل سؤال إدارة الملك المائي العام رهين الانفعال المناسباتي مع الأمطار أو الجفاف.